الثلاثاء 23 ابريل 2024

صباح الخير يا قديستي الحلوة!

مقالات22-3-2023 | 21:00

ودوماً أقول: "الأمُّ أمَّةٌ !!" وهل هناك دورٌ أعظم في حياة كل إنسانٍ من دور أمه؟!!، وقد أدَّته عن طيبِ خاطرٍ، فلم تنتظر جزاءً ولا شكوراً ؛ لكنها المحبة الخالصة التى لا نجدها إلا في قلبها وفقط، ولتغضبْ كلُّ الحبيبات من ذلك؛ لكنها الحقيقة الصادمة التي تثبتها الأحداث الحياتية، والتي يتعامى البعض عنها، فهذا صخر بن عمرو أخو الخنساء من أبيها من أشجع العرب وأكرمهم وأجملهم، أحبته سلمى بنت عوف وأحبها، فتزوجها وتعاهدا على أن لا تتزوج بعده وهو كذلك، وكان يقول إذا نظر إليها: "لا أكره الموت إلا أنه يفرق بيني وبين هذه"، وفي إحدى المعارك أُصيب صخرٌ بطعنةٍ، ومرض صخرٌ سنةً، فكانت أمه تلاطفه وقصَّرتْ سلمى في خدمته، فسمع يوماً امرأةً تقول لأمه: كيف حال صخر؟ فقالت: نحن بخيرٍ ما دمنا نرى وجهه، وسألت امرأةٌ سلمى عنه فقالت: لا حيٌ فيُرجَى ولا ميِّتٌ فيَنْعَى، فحزن وأنشد قصيدةً مطلعها: ( أَرى أمَّ صخرٍ لَا تمَلُّ عيادتي ## ومَلَّتْ سُلَيمى مَضْجَعي ومَكاني) بساطةٌ وعمقٌ ومقارنةٌ بين أمٍّ لا تملُّ عيادة ولدها حال إصابته وبين زوجةٍ ملَّتْ نومته ووجوده، حكى الشاعر ذلك من خلال إبداعٍ لُغويٍّ ؛ فاستخدم الفعل المضارع ( لا تمل ) دلالة على ثبات حب أمه واستمراره، واستخدم الفعل الماضي ( ملَّتْ ) دلالة على تبدل عواطف زوجته، واستخدم لفظة (سليمى) تصغيراً، أراه جاء بها هكذا تهويناً وتحقيراً، ولولا ما سبقه من معاني التقصير في حقه لكان قصْدُ التصغير الملاطفةَ والمداعبةَ؛ ليختم قصيدته ببيتٍ يضج مرارة من صدمته فيقول: (وأيُّ امْرِئ سَاوَى بأمٍّ حَلِيلَة ## فَلَا عَاشَ إِلَّا فِي شقا وهوان) خلاصة الدرس الذي ما كان لعقله أن يصدِّق وأظن الأمر لا يحتاج شرحاً فالبيت الختام يَخْلُص إلى أن كل رجلٍ يسقط في هُوَّةِ مساواة الزوجة ( الحليلة ) بالأم يدعو الشاعر عليه بأن يعيش في شقاءٍ وهوانٍ ، باستخدام ( لا ) النافية + الفعل الماضي ( عاش ) ..!! وفي الحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ الناس بِحُسْن صَحَابَتِي؟ قال: «أمك» قال: ثم مَنْ ؟ قال: «أمك»، قال: ثم مَنْ؟ قال: «أمك»، قال: ثم مَنْ؟ قال: «أبوك». متفق عليه.

ولا شك أن لكل من الأبوين حقًا في المصاحبة الحسنة (وصاحبهما في الدنيا معروفًا)، ولكن حق الأم يعلو حق الأب بدرجاتٍ، إذ لم يذكر حقه إلا بعد أن أكد حق الأم بذكرها ثلاث مرات، ومع أنهما شريكان في تربية الولد؛ إلا أن الأم عانت ما لم يعانه الأب، فحملته وهنًا على وهنٍ ، ووضعته كرهًا؛ يكاد يخطفها الموت من هول ما تقاسي، وأرضعته عامين، وبذلك نطق الوحي: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)، فإن وصَّى الإنسان بالإحسان إلى والديه ؛ فإنه لم يذكر إلا ما تعانيه الأم إشارة إلى عظم حقها.

ولم تغب «الأم» عن الشعر العربي، فتعطرت ألسنة الشعراء بذكرها، فهذا أمير الشعراء يتحدث عن دورها ( الأم مدرسةٌ إذا أعددتها ## أعددت شعباً طيب الأعراق ) ، وحينما ردد "هاشم الرفاعي "قصيدته الشهيرة «أغنية أم» والتي كتبها على لسان أمٍّ قتل الاحتلال زوجها لتجد نفسها وحيدة مع ابنها فتهدهده حتى ينام قائلة :( نَمْ يا صغيري إن هذا الـمهد يحـرسه الرجـاء ## مـن مقـلةٍ سهـرتْ لآلامٍ تثـور مع المساء ) ، ويتوِّج محمود درويش أمَّه ملكةً على عرشها ، بحنينه إلى خبزها في «أحن إلى خبز أمي»، حيث كشف عن معنى حياته ، إذْ يحيا من أجل أمه ، ويخشى الموت خجلاً منه على دمعها : ( وأعشق عمري لأني ...إذا متُّ أخجل من دمع أمي !!) ليأتي نزار قباني فيجعل الأمر صعباً على الشعراء ، حيث جعل أمه قدِّيسةً في خمس رسائل لها ؛ بدأها بتحية الصباح ( صباحُ الخيرِ يا حُلوةْ.. صباحُ الخيرِ يا قدِّيستي الحُلوةْ !! ) ، ويعترف نزار بأنه طاف العالم شاكياٌ فقدانه سيِّدةً تمشِّط شَعْرَه مثل أمه: ( طفتُ العالمَ الأصفرْ ...ولم أعثرْ.. على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقرْ !! ) ويعجب لكونه أباً ، ولم يزلْ طفلاً في حَضْرتها ، قائلاً : ( فكيفَ ... فكيفَ يا أمي غدوتُ أباً ... ولم أكبرْ !! ) وبعد هذا التطواف في حدائق الشعر العربي نصل مجطتنا الأخيرة ، حيث نتجول في رحاب الشعر الأفريقي، وقصيدة "موطني" مهداة إلى الزعيم نيلسون مانديلا لابنته الشاعرة زينزي مانديلا من ديوانها "سوداء كما أنا"، حيث ترسم لنا لوحةً مفعمةً بالحزن والأمل، تجسِّد فيها لحظة القبض على أبيها والدور العظيم الذي نهضت به أمها من التجلُّد و تربية أولادها ... تبدأ اللوحة بوصول الابنة إلى مدرستها منهارةً تحاول التماسك، ثم تنتقل عدسة الشاعرة بسرعة إلى مطبخ منزلها وتسلط الضوء على قدرة الأم على تجاوز الصعاب وبثها روح التماسك في أسرتها، وتحاول التصبُّر ظاهريا أمام صورة زوجها في يد الابنة وكأنها تتقوَّى برباطة جأشها منذ أن تم القبض عليه ، لتختم الابنة القصيدة بشدة شوقها دون حديثٍ عن شوق أمها.. كأنها أرادت أن تقول كم هي عظيمةٌ هذه الزوجة إذْ تتقوَّى بآخر حضنٍ استودع فيه مانديلا كل الحب والمسئولية في قلبها ..فمع زينزي مانديلا وقصيدة (موطني )المهداة إلى أبيها !!! ها أنا ذا أقف أمام البوابة ...الطلاب خارج المدرسة .. والدخان يعصف بالمكان عيناي تسحّان دموعاً ... فأجفّف دمعي المُنساب أدلف إلى المطبخ لرؤية يديِّ أمي السوداوين المُجهَدَتين ...وابتسامةٍ متهالكةٍ من وجْهٍ مُضْنٍ نجلس لتناول العشاء ...أتناول صورة لأبي وأتأمل أمي تشيح بوجهها تسعى لتُخفي بؤسها ... فارقها أبي وهو يحضنها !!! باعدوا بينهما ظلماً ... وتنطلق العربة مبتعدة وأمي ترقب برباطة جأش ...!!! وأنا كطفلة ... لم أكن أدرك معنى ذلك ... كم يتوق قلبي ... وكم أشتاق لرؤية أبي علّني أضم ذراعه وأواسيه ... أو علّني أخبره بأنه سيعود يوماً ما...!!.

Dr.Randa
Dr.Radwa