السبت 18 مايو 2024

الحلقة السادسة قصة ١٨٠ يومًا خلف خطوط العدو فرحة المصريين زادت من قدرتنا

15-2-2017 | 12:23

فى الحلقات الخمس السابقة تعرضنا لأحداث غاية فى الدهشة والإثارة، أولها تلك الليلة التى سبقت دفع مجموعات الاستطلاع إلى عمق العدو خلف خطوطه، والتى أخذ فيها الملازم «فيصل» يداعب زملاءه الضباط ببعض العبارات الساخرة، فيعاتبه نصر (بطل القصة) بألا يردد هذه الكلمات «الوقوع فى الأسر» فيرد عليه فيصل مالك أنت بنا إنك سوف تحصل على نجمة الشرف والترقية الاستثنائية، ثم هذا النقيب «عبد الهادى» الذى يختتم حديثه التليفونى مع خطيبته بعبارة «مع السلامة فربما لا نرى بعضنا مرة أخرى» • والغريب والمدهش أن يحدث لكل منهم كل ما توقعه، فيقع فيصل فى الأسر بعد قتال عنيف مع العدو، وينال النقيب عبد الهادى الشهادة، ويحصل نصر على الترقية والنجمة العسكرية بعد عودته من تلك المهمة، التى بدؤها بأول بلاغ معلوماتى عن لواء مدرع للعدو فتقوم قواتنا الجوية بتدمير معظم دباباته يوم السابع من أكتوبر، وتمنع تحركه فى اتجاه الجبهة نتيجة الخسائر الكبيرة التى تعرض لها، ويتم دعمه بدبابات أخرى بدلًا من تلك التى تدمرت ويستعد للتحرك فى اليوم التالى، ولكن هذا اللواء يدمر نفسه بنفسه بعد أن أصابته حالة الفزع نتيجة مرور طائرتين من فوقه، فاندفعت الدبابات تنتشر وتنزل إلى الحفر فتصطدم ببعضها البعض وتنفجر، قبل أن نكتشف أن الطائرتين إسرائيليتان وليستا مصريتين.

كنا قد أبقينا جهاز اللاسلكى الموجود معنا على وضع الاستقبال فى انتظار نداء المحطة الرئيسية (محطة القيادة) علينا وماهى إلا دقائق معدودة حتى سمعنا النداء على الجهاز اللاسلكى بالمفتوح أى بدون استخدام أى كود أو الشفرة وقد تركنا استخدامها منذ اليوم الثانى لبدء الحرب.. بناء على أوامر من القيادة نظراً لكثرة الاتصالات وضرورة إرسالها بأسرع ما يمكن وكذا صعوبة تتبع العدو لمحطتنا وسط هذا الزخم من الاتصالات اللاسلكية بمئات الآلاف من الأجهزة.

وبعد النداء من جانب المحطة الرئيسية والرد والتحقق من جانبنا – سمعنا صوت عامل اللاسلكى على الناحية المقابلة يقول لنا «محمود على الجمل» ومحمود هو العقيد محمود قائد الكتيبة والجمل هو الاسم الكودى لجهاز اللاسلكى فطارت قلوبنا من الفرحة ونحن نسمع صوته عبر الجهاز «كيف حالكم يا أبطال» وأرد عليه معبراً عن فرحتى ورجالى .. نحن تمام ولدى أخبار مفرحة، أرجو قبل أن تسمعها أن تصف لى منظر الشعب فى الشوارع .. هل فرحوا بالعبور؟ هل يشعرون بالنصر الذى نحققه؟ .. فيرد علىّ بصوته الذى كنا نعشقه من فرط حبنا جميعا له، فقد كان نموذجاً فذاً فى القيادة لا تملك إلا أن تحبه وفى نفس الوقت لا تستطيع أن تخالف له أمراً او تؤخره، كان أقصى عقاب منه لأحد منا أن يسأله «لماذا فعلت هذا الخطأ».. وينظر إليه بعينيه الزرقاويتين نظرة عتاب لا تستغرق لحظات.. ثم يغير الحديث فى موضوع آخر.. ولكن هذا السؤال وتلك النظرة كانت تؤلمنا أكثر من رصاصة مصوبة تجعل لسان حالنا يقول ليته يعاقبنا بأشد الجزاء.. أهون من هذا الإحساس.

• الفرحة تملأ مصر كلها.

• هكذا كان رده.

• وألح فى السؤال – صف لى منظر الناس فى الشوارع – هل فرحوا هل هم فرحون؟

• الناس ترقص فى الشوارع وتوزع الشربات والشوكولاته.

• وما هو موقف قواتنا على الجبهة؟

• قواتنا أتمت الاستيلاء على القناة وتدمير خط بارليف وتتقدم فى اتجاه الشرق وتطارد قوات العدو – ما هو الموقف لديك الآن – وما هو تقديرك ؟

• اللواء المدرع الذى تم تدميره بالأمس استعاد كفاءته طوال الليل واصطف استعدادا للتحرك منذ الظهيرة – وفى الساعة ١٦٠٠ رأينا دبابات العدو تترك الاصطفاف وتندفع فى اتجاه الحفر وهى تطلق الرشاشات المضادة للطائرات فى اتجاه السماء، وتم رصد خسائرهم حتى الآن عشر دبابات اصطدمت ببعضها أثناء الانتشار والنزول للحفر.

• وما خسائره الناتجة عن القصف الجوى؟

• لم يكن هناك قصف جوى .. إنهم سمعوا أصوات طائرات تمر من فوقهم فأصابهم الفزع وانطلقوا يحتلون الحفر.

• أليست هذه طائراتنا ؟

• لا لقد اكتشفنا أنها طائرات سكاى هوك الإسرائيلية.

• هذه أخبار سعيدة.. والمعلومات التى ترسلونها ممتازة.. استمروا فى مهمتكم.. الله يرعاكم.. انتهى.

كان هذا الاتصال جرعة معنوية لا تقدر.. أعطتنا طاقة فوق طاقتنا، واستمرينا نواصل الليل بالنهار.. بعد أن أبلغنا عن آخر موقف للواء المدرع الذى خرج من الحفر مرة أخرى يجر أذيال الخزى بعد هذا الموقف المضحك.. وتحرك فى اتجاه الجبهة بعد حلول الظلام.

أما عن موقف الطعام والماء فقد رأينا بعد التشاور مع بعضنا البعض أننا نستطيع أن نواصل صيام ما تبقى من شهر رمضان.. وأن ذلك سيكون له فائدة أكبر رغم أننا نملك رخصة الإفطار..حيث يعطينا صيام النهار كله الأمل فى تناول الطعام والشراب بعد مرور ساعات النهار.

وهذا الإحساس جميل وصفاء للنفس وأفضل بكثير من الإحساس أن سبب الجوع والعطش طوال النهار هو النقص فى الطعام والماء وطالما أنها وجبة واحدة هى التى سنتناولها طوال أربع وعشرين ساعة فلنجعلها بثوابها.

ومر اليوم التاسع والعاشرمن أكتوبر ونحن نتابع تحركات العدو على المحاور والطرق المختلفة وأنشطته فى المطار الواقع فى نطاق مهمتنا ومنطقة المعسكر الذى كان يضم اللواء المدرع قبل تحركه، إلا أن نهاية اليوم العاشر من أكتوبر شهدت منظراً لم أر مثله من قبل وإن كنت فى البداية أخطأت تفسيره فقد شاهدت من موقعنا فوق الجبل مروحيتين هليكوبتر تحومان فوق عدد من الأفراد المترجلين وتطلق نيرانها حولهم دون إصابتهم، وفى نفس الوقت يقوم هؤلاء الأفراد بإطلاق نيران بنادقهم الآلية فى اتجاه المروحيتين ويواصلون التحرك بجوار الطريق وأعددت بلاغاً يضم هذه المعلومات أعقبته بتقديرى أن هؤلاء الأفراد الذين تطاردهم المروحيات يحتمل أن يكونوا من أفراد الصاعقة المصرية الذين تم إبرارهم فى سيناء فى الساعات الأولى من بدء الحرب. ولكن بعد فترة ليست بالطويلة.. استسلم هؤلاء الأفراد وتوقفوا فى مكانهم وحضرت إليهم مجموعة من العربات نقلتهم تحت الحراسة إلى داخل المعسكر الموجود بجوارنا، وبعد فترة طويلة من المتابعة المستمرة والمركزة تبين لنا أنهم ليسوا مصريين ولكنهم جنود شاردين من الجيش الإسرائيلي. بعدها تمنيت لو كانت معى كاميرا أسجل بها هذا المشهد.. لا أدرى لماذا هذا المشهد بالذات، رغم أن مشهد الدبابات وهى تتصادم وتنفجر فى اليومين السابقين كان أكثر إثارة.. وحاولت أن أجد فى نفسى سبباً لذلك الإحساس فعزيته إلى أنه أبلغ رد على منظر أسرانا فى حرب يونيو ١٩٦٧ الذين لم تكف أجهزة الإعلام الإسرائيلية والغربية عن تكرار عرضه.

كان المطار قد دبت فيه الحياة مرة أخرى وبدأ العدو يستخدمه بكثافة لصالح المروحيات وكانت بلاغاتى دائما كأنها استفزاز لقيادتنا لضربه وإخراجه من الخدمة، ثم فى كل مرة أواصل الاستفزاز بإضافة بعض الألفاظ والعبارات إلى المعلومات التى أرسلها مثل ما زال العدو يستخدم مروحياته بكثافة من مطار (...) ، مازال المطار يعمل كخلية نحل.. إلى أن جاء اليوم التانى عشر من أكتوبر.. وكأن قواتنا الجوية أرادت أن تشعرنى بالطمأنينة فى منطقتى النائية فقامت بتوجيه هجمة مركزة على هذا المطار قبل نهاية اليوم.. وأخرجته من الخدمة نهاية الحرب.

لقد كانت قواتنا الجوية هى الصديق الوفى الذى يشعرنا من وقت لآخر أننا لسنا فى الغربة.. وأنهم قريبون منا باستمرار.. ففى أحد الأيام رصدنا طائرة للعدو من طراز ستراتو كروزر تطير على خط مواز للجبهة ذهابا وإيابا، ولكنها فى العمق القريب منى أى على مسافة أكبرمن مائة كيلومتر من القناة، وكنت أعلم مسبقاً أن مثل هذه الطائرات تستخدم فى أعمال الحرب الإلكترونية أى الاستطلاع والإعاقة الإلكترونية واللاسلكية.. فأبلغت هذه المعلومات معقباً عليها أنها تطير بلا حماية وأنها هدف سهل لطائراتنا المقاتلة.. وما هى إلا ساعة أو يزيد قليلاً إلا ورأيت هذه الطائرة تنحرف بدرجة حادة مبتعدة فى اتجاه الشرق إلى داخل إسرائيل وإلى الخلف منها فى اتجاه الغرب تدور معركة جوية بين مقاتلتين من طائراتنا وعدد من المقاتلات الإسرائيلية.

اعتباراً من اليوم الرابع عشر من أكتوبر بدأت كثافة القوات المتحركة من اتجاه إسرائيل فى اتجاه جبهة القتال تزداد.. وعلى العكس كانت الكثافة فى الاتجاه الآخر أقل.. وبدأت تظهر على طرق التحرك معدات مغطاة بشباك التمويه محملة على ناقلات كبيرة (تليرات) ولم يكن يرضينى على الإطلاق أن أقوم بإبلاغ معلومة غير كاملة مثل التى ينقصها اسم ونوع المعدة التى تتحرك أمامى وكثيراً ما كنت أتحرك مع حلول الظلام إلى أقرب مكان من الطريق كى أتبين أنواع المعدات والدبابات التى تتحرك.

وفى أحد هذه الأيام كان المجهود المتواصل وقلة ساعات النوم قد أوصلانى إلى درجة من الإرهاق والتعب بدأت تؤثر على درجة التركيز عندى وكانت هناك أعداد من المعدات المغطاة بالشباك تمر أمامى ولا أستطيع تمييز نوعها ولا حتى ما هى؟ جعلتنى أبكى من هذا العجز الذى أشعر به فى الوقت الذى لا تتحمل فيه قواتنا أى نقص فى المعلومات، فطلبت من عامل اللاسلكى فى المحطة الرئيسية أن يحضر لى المقدم صلاح، رئيس عمليات الكتيبة فقد كان الأقرب لنا والمسئول عن تدريبنا ويتمتع بدرجة عالية من العلم والذكاء وعلى الفور جاء المقدم صلاح ينادينى على الجهاز اللاسلكى بصوته الجهورى المميز وبضحكته الرنانة.

• عفارم عليك يا أبو الأنصار .. مش قلت لك إن نصر بيجيب نصر.

• نصر مش قادر يجمع .. وأمامى معدات تتحرك لا أستطيع تمييز نوعها.

• أوصفهالى.

• فأصفها له بكل دقة فيرد بضحكته المجلجلة.

• يا راجل واضح إنك لا تنام كفاية هذه هى الطائرة الإسرائيلية بدون طيار دوديليانكى التى كنت تدرسها لجنودك.

• ياه كيف لم أعرفها.

• لازم تنام ولو وقت قصير.

•كيف أنام وهذا العدو حولى لا يهدأ ولا يتوقف.

نعم لقد بدأت أشعر بتغير فى موقف العدو وزاد عدد طائراته من طراز فانتوم التى تمر من فوقنا متوجهة إلى جبهة القتال، وبدأنا نشعر فى مكاننا أن أزيز هذه الطائرات يجعل الأرض تحتنا تهتز وهى تمر من فوقنا وهناك أعداد كثيرة منها لا يوجد عليها نجمة داود التى تميز الطائرات الإسرائيلية.

وإلى اللقاء فى الحلقة القادمة

 

 

    الاكثر قراءة