الجمعة 17 مايو 2024

تلك آثارنا 6.. مقياس النيل بالروضة

مقالات7-4-2023 | 23:49

هو المسافر عبر الزمان، ولا يملك من الزاد سوى الخيال، والسحر، والعطر، والظلال، التبر السايل بين شطين، الحلو الأسمر، واهب الخلد للزمانِ، وساقي الحب والأغاني، شابت الليالي على أرضه، وضيعت الجبالُ عمرَها في جواره، ورغم ذلك لم يخلف وعده ولم يزل ينشد الديار، إنه النيل شريان الحياة الذي تغني به المحدثون كما تغني له وتغني به الأقدمون. تقول ترنيمة مصرية قديمة "من يهب الحياة لكل حي، الخير في طريقه، والطعام على أصابعه، وعندما يعود يفرِّح البشر، كل البشر".

أدرك المصريون قيمة النيل منذ القدم، ولم يقتصر تقديرهم له على التغني به والغناء له، بل استخدموا مياهه للتطهر ولأداء طقوسهم الدينية ومنها غسل المتوفى، فكانت مياهه في نظرهم طاهرةً في ذاتها طَهُورةً لغيرها، وكان الاغتسال بمائه ضرورة حياتية مصرية تطهراً بدنياً وروحياً. 

وكانت الرؤية المصرية القديمة للنيل تتصور أن روحا تكمن وراء هذا النهر العظيم، تدفع مياه الفيضان حاملة الخصب، وهي روح المعبود "حعبي"، الذي يمثل فيضان النيل سنوياً، "الإله" الخالق لمصر، واهب الحياة والخُلد لها منذ القدم، المخلوق من رع (إله الشمس) الذي يسقط من السماء، ويروي المراعي، ويغذي الماشية، ويسقي الأرض الصحراوية البعيدة، وهو الذي يأتي بالقوت، ويكثر الطعام، ويخلق كل شيء طيب.

وبلغ تقديس المصريين القدماء للنيل وحرصهم على طهارة مائه، فكانوا يعتقدون أن "من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة"، وأكد المصري القديم في اعترافاته الإنكارية في العالم الآخر ما يفيد عدم منعه جريان الماء "لم أمنع الماء في موسمه، لم أقم عائقاً (سدَّاً) أمام الماء المتدفق"، "أنا لم ألوِّث ماء النهر.. لم أمنع الفيضان في موسمه .. لم أقم سداً للماء الجاري.. أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى".

كل هذا التقديس جعله موصع اهتمامهم، واجتهدوا في ابتكار طرق للاستفادة من مياهه، وتنظيم الري وحفر الترع؛ لزراعة أكبر مساحة من الأراضي ممكنة على جانبيه.

وكان وسيلتهم في وضع ما يعرف اصطلاحا بـ"التقويم النيلي"، الذي يبدأ ببداية الفيضان، عندما تصل المياه إلى منطقة محددة، يعتقد العلماء أنها كانت منطقة تتوسط مدينتي "أونو" و"إنب حج"، كما لاحظ المصريون اقتران الحدث بظاهرة سماوية هي ظهور نجم الشعرى اليمانية.

ولمَّا كان الفيضان هو الشغل الشاغل عند المصريين القدماء، فقد اعتنوا ببناء مقاييس له يعرفون بها مستوى الفيضان، منها مقياس مدينة منف "ميت رهينة"، الذي أشار إليه المؤرخ تيودر الصقلي الذي زار مصر في القرن الأول قبل الميلاد، ومقياس مدينة بيلاق "بيلا بكفر الشيخ حالياً".

ويذكر المؤرخ اليوناني "سترابو" الذي زار مصر في القرن الأول قبل الميلاد أيضاً: "كان لدى قدماء المصريين مفتشون فنيون يجيبون الناس والحكام عن كل الملاحظات التي تُطلب منهم بتواريخ بدء الفيضان ونسبته؛ لأن لديهم علامات ثابتة «أي مقاييس» يرجعون إليها في معرفة ذلك قبل أوان الفيضان، وأنه يوجد بمدينة بيلاق (بيلا) مقياس يشبه مقياس مدينة منف (ميت رهينة)، وهو مبني من الحجر على شاطئ النيل هو عبارة عن بئر تتوازن فيه درجة المياه ارتفاعًا وانخفاضًا على مقدار مياه النهر، وقد نقشوا في جوانب البئر إشارات تدلُّ على درجات الفيضان ".

وهناك نص هيروغليفي في المتحف البريطاني، يذكر أن الملك سنوسرت الثالث قد أمر وزيره بعمل أصلاحات على مقياس بيلاق: «في السنة الثامنة من الشهر الثالث من فصل الفيضان، في عهد ملك الوجهين البحري والقبلي سنوسرت الثالث المحبوب من ساتيت «معبودة الخصوبة وفيضان النيل».

قد أمر وزيره أمني بعمل باب من مباني مقياس بيلاق …» إلخ.  وقد بقي هذا المقياس حتى عصر البلاطمة في مدينة بيلاق (بيلا)، التي عرفت في عهد البطالمة بمدينة "بيلاس".

كما وجد عالم الآثار الفرنسي "جورج دارسي" (1864-1938م) مقياسًا للنيل مثل مقياس بيلاق في مدينة هابو، منقوشًا فيه اسم الملك "نختانبو الأول" أحد ملوك الأسرة التاسعة والعشرين.

ويذكر بعض المؤرخين أنه كان بقرب كل معبد في مدينة على النيل مقياس خاص بها، يستفيد به أهلها في معرفة درجات الفيضان في أوائله ونهايته. وقد أشار إلى هذه المقاييس القديمة وغيرها أنطوان زكري في كتابه "النيل في عهد الفراعنة والعرب".

وقد تعرضت هذه المقاييس للتدمير نتيجة فيضانات النهر بمرور الزمن، لكن استمر هتمام المصريين القدماء وحرصهم على متابعة وقياس منسوب مياهه على مر العصور حتى جاء العصر العباسي وتحديداً عام247هـ و861م.

فتمَّ بناء مقياس النيل بجزيرة الروضة في عهد الخليفة المتوكل على الله العباسي على أغلب الأقوال وأرجحها، وإن نسبه البعض إلى الخليفة العباسي المأمون.

وجاء تأسيسه هذا المقياس، بناءً على تكليف من الخليفة المتوكل على الله لعالم الرياضيات والفلكي الباكستاني أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني ببناء مقياس لقياس منسوب ماء النيل، فصمم بنائه، وأشرف على عملية البناء حتى أتمه، وله تمثال من الجرانيت يتصدر مدخل المقياس.

وسبق هذا المقياس قبل العصر الإسلامي مباشرة مقياس آخر للنيل كان بجوار حصن بابليون، أما أول مقياس للنيل فى العصر الإسلامى فقد أقامه فى جزيرة الروضة أسامة بن زيد عامل الخراج من قبل الوليد بن عبد الملك سنة 96 هـ (715 م)، ثم أعاد عمله فى السنة التالية فى خلافة سليمان بن عبد الملك، وربما كان مكانه في نفس مكان هذا المقياس.

ويتألف مقياس النيل بالروضة، الذي يقف بشكله المخروطي على حافة الجزيرة منذ أكثر من 11 قرناً، من بئر مربع حُفرت في باطن الأرض، يشتمل على ثلاثة مستويات: المستوى السفلي وهو دائري المسقط، والأوسط وهو ذو مسقط مربع طول ضلعه أكبر من قطر المستوى السفلي، والمستوى العلوي وهو ذو مسقط مربع أيضاً وطول ضلعه أكبر من طول ضلع المستوى الأوسط.

وساعد هذا التصميم جدران البئر على تحمل الضغط الأفقي للأرض الذي يزداد كلما زاد العمق وهو مبني من الحجر المهذب.

ويدور حول جدرانه من الداخل سلم حلزوني يصل إلى القاع، وفي المنتصف يقف عمود القياس الرخامي يتوسط البئر، يعلوه تاج روماني، ويبلغ طوله 10 أمتار ونصف، حفرت عليه علامات القياس، ويرتكز على قاعدة من الخشب، ومثبت أعلاه برباط خشبي مجوف ومحشو بمادة الرصاص.

ويتصل البئر بالنهر عن طريق ثلاثة أنفاق يصب ماؤها في البئر من خلال ثلاث فتحات بمستويات مختلفة فوق بعضها البعض في جداره الشرقي حتى يظل الماء ساكناً في البئر. وتتخذ هذه الفتحات شكل كوّات تتوجها عقود مدببة ترتكز على أعمدة مندمجة ذات تيجان وقواعد.

 هناك نقوش وكتابات أثرية، بالخط الكوفى فى الجانب الشمالي والشرقي، وفى الجانب الجنوبي والغربي نقوش ترجع إلى أيام أحمد بن طولون سنة 259 هجرية.

شهد المقياس العديد من أعمال الإصلاح والترميم في العهد الطولوني، والفاطمي، والمملوكي، والعثماني، كما تم تجديده عام 1925م واستبدلت القبة المملوكية، التي كانت تعلوه من الخارج بشكل مخروطي غطي بألواح من الرصاص. واستمر المقياس في أداء مهمته حتى عهد قريب من بناء السد العالي، الذي حجز الفيضانات عن الأراضي المصرية، وتحوّل الآن إلى مزار سياحي في منطقة تجمع بالإضافة إليه مسجد حسن المانسترلي الأثري، وهو ما تبقي من مجموعة بنائية قام بإنشائها حسن فؤاد المانسترلي باشا في عام 1851م، الذي يرجع موطنه إلى مانستر بمقدونيا، وكان وزيرا للداخلية في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، ومتحف أم كلثوم التابع لوزارة الثقافة والذي احتل أحد مباني قصر المانسترلي  وافتتح عام 1998م. 

ويعد هذا المقياس أحد أقدم الآثار الإسلامية بعد جامع عمرو بن العاص، وأحد المنشآت المعمارية وثيقة الصلة بحضارة مصر، فهو الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي.