د. حمدي النورج أستاذ النقد وتحليل الخطاب
يقضي المنطق بأن مراتب النقص قد تستولي في كثير من الأحيان على أي منتج بشري، ولا يعد القول السابق تبريرًا لبعض المآخذ التي وقعت فيها بعض الأعمال الدرامية هذا العام، سواء من ناحية الإسراف الشعبوي في التناول، أو طرافة الأفكار وسطحيتها، وربما استعجال الفعل بغية اللحاق بموسم الفرجة الكبير هو شهر رمضان – وموسم الفرجة لا أعني به انتقاصًا من جدول الاستعدادات التي يقوم بها صناع الدراما التليفزيونية، بل هو فعلا حالة من الكشف نتفرج فيها على قضايا مجتمع كبير وقوي هضم أغلب الحضارات، ثم سكب عليها من وعيه وعطائه، وامتاز لنفسه بحضارة عريقة حتى التاريخ.
وستختلف التيمات وربما تعاد، وربما تنحو للغرائبية، وربما للابتعاد عن روح المجتمع، لكنه في النهاية عمل فني، يتقاطع مع مزاجات متعددة، ومذاقات متنوعة، وعقول متباينة، وتعددية ثقافية قوية وملهمة، على ذلك فإننا نختلف في قراءة العمل وتلقيه، كما نختلف في الحكم بقيمته بحسب درجات التلقي، وسيبقى الجمهور هو الخط الأول في تبيان درجة التلقي، ومدى اتساق العمل مجتمعيًّا وفنيًّا مع قيم المجتمع. القول السابق لا يبرر مطلقًا، بل من علامات جودة العمل أن تتجاذبه الرؤية النقدية الجيدة.
لن يسعف أي متلق أو الناقد وقته كي يجري فعله النقدي على فوق الثلاثين عملًا دراميًّا، مقابلة أي عمل بهذه الجرأة من النقد الهدام اللاذع لا يسهم في تنمية روح الفن.
قد يكون النقاد والجمهور معذورين في استعلاء روح النقد، مع كتيبة جيدة من الكتاب ،والمخرجين، والممثلين، وكافة المشتركين في العملية الفنية، ومع تاريخ حافل من الفن المصري الرائد الذي لن يعطل مسيرته انتهابه عربيًّا. من المهم في رؤيتي النقدية هنا أن ألفت النظر لمقولة أن السينما والدراما ذاكرة، ولعل هذا الوعي نلمحه، في نقل الواقع لينساق بفعل الزمن في دائرة التاريخ، لا المكتوب، ولكن المرئي الحي، وتلك هي خطورة الدراما والسينما.
كنت في عيادة طبيب للقلب، ودار بيننا هذا الحوار، الذي اعتبره مدخلًا للتوضيح، قال اسمي أبو زيد الهلالي سلامة فابتسمت.
قال ثانية اسمي أبو زيد الهلالي سلامة وأبي اسمه علوان، ثم كشف عن ذراع موشوم بصورة أسد والاسم تحته، لا يهم الآن بقية الحوار، لكن المهم فكرة استدعاء الرمز ليغدو أيقونة تتحرك، ثم تقاس بواقع مادي حي، لتكون حائطًا لثقافة أمة، ومدخلًا ماديًّا واقتصاديًّا مهما.
امتلاك الأيقونة والرمز والعادة والتقاليد حتى معالم الأمكنة أكبر رسالة على تملك الأرض واستواء الهوية، وتغلغلها في نفوس أبناء الوطن، وصحيح أن الكلمة خطيرة، والحوار الذي يحرض لا يستوي أبدًا مع الحوار القيمي الحر، لكن الصورة هي أكبر معزز، وأكثر حضورًا واستدعاء.
في الحديث عن الرمز، والأيقونة هناك حالة من الصراع نحو الامتلاك بين ثقافات متعددة، وعندما ينجح كاتب ما في توظيف الأيقونة والإفادة من بنية الرمز، حتى لو على حدود الموتيف المشهور عالميًّا أو عربيًّا، فإن ذلك يعني حركة وعي جيدة يمتلكها صاحب هذا الخطاب، وهذه جملة أيقونات تم تثبيتها وتوظيفها في خطاب ناصر عبد الرحمن سابقًا.
وهو مدخل قابل للتناول والبحث فنيّا في جملة الفنون المصرية، يطل عليك في الشاشة صورة البطل بوشم في صورة أسد يحمل سيفًا، ونرى الأيقونات الفنية المرسومة على جباه النساء، ونلمح قرطًا يتدلى في صورة مفتاح الحياة وربما في شكل شعبي وتراثي مصري الشكل المخروطي.
ونرى في تكوينات الأثاث رأس وعنق الغزال ،وقد شكل في صورة قوائم، ونرى البطل يوشوش الخيل، وغيره يرتدي خاتمًا برسم خاص، ونرى زيا خمسينيّا وآخر أربعينيا، ونسمع صوت التاريخ يأتي في صورة أيقونات فنية كانت حاضرة حتى رحلات المنشدين، والفنانين والمؤرخين، والقضايا الشعبية المهمشة، والأبنية المؤسسة للثقافة، والحضور الراسخ لمصر في أسدي قصر النيل، ومبنى الكتب خانة، وقطار غزة، وسور باب الحديد، وجبل الحلال، ورحلات الغريب، وأهل المنشية، وأبناء النوبة، بجوار الخط الثابت للبنية الدرامية لكل الحكايا، حيث يطل خط توثيقي حي عن مصر، وأهلها والإنسان الذي يعيش بها.
وذلك علامة أو رمز أو أيقونة دالة على تغلغل العمل مصريّا، وفي تقسيم الأيقونة، يمكن القول إن منها ما يكون أميل للجو الشعبي، ومنها ما يكون أميل للجو الديني، ومنها ما يكون أميل للجو التاريخي.
ومنها ما يصلح كبنية متعددة، تتقاطع في توظيفها مع كل الأجواء السابقة، يكتب ناصر عبد الرحمن (حكاية ستهم) حيث تبدو حكاية مسافرة عن امرأة، أيقونة أو موتيفة عاشت في خفاء، وعاركت واقعها بامتياز، في نموذج يصعب تكراره، لكنه نموذج يحمل جانبًا قيميًّا رائعًا حيث الأمومة بدءًا، ثم الزوجة، ثم المعيلة، ثم القوة الممنوحة التي جاوزت بها العديد من المهن، التي جرى تحريرها بامتياز، مثل صناعة التماثيل في جوف الجبل على نحو من التميز الخاص للفن المصري الرائع.
وتبدو الحكاية بسيطة، لكنها حادة التشكل في جانب من الصعوبة، حال البناء والنقل الدرامي، ثم هذا الانتقال الممنهج، الذي يوحي للبعض بكونه تقليديًّا، لكنه حالة رصد لمجتمع ألف النزوح حتى الآن من العمق بكل قسوته، إلى التقاط الأنفاس على الأطراف، حيث مساق هذا النزوح والهجرة الداخلية، باعتباره ملفًّا خطيرًا يطرقه دائمًا ناصر عبد الرحمن في كل أعماله، والأعجب إصراره الدائم على الفعل، لأنه يراه ملفًّا يجب التطرق إليه، لتغدو ستهم أيقونة، وليغدو فعل التذكر الحاد علامة تنبيه لملف أخطر.
والأخطر هذا الانتباه الهادئ لملفات أخرى ينقلها بهدوء وترقب، حيث يبدو أن فكرة الإلماح للنزوح، لا تتوقف فقط من أعالي الصعيد إلى القاهرة، بل هي متجاوزة حد الرغبة الجامحة عند البعض في تكملة رحلة النزوح الآبقة إلى الخارج.
لكن مجتمع النزوح لا يزال حاملا لطاقة هائلة من الحب والرأفة، والتسامح، والقيم، والونس، واللمة، والحقوق، والدين، والعادات والوطن، والعلم، والمعرفة، وهي منطلقات دائمة الظهور في خطاب ناصر عبد الرحمن.
هناك معززات الهوية بكامل حضورها، فإذا كان الدين والقيم محور ثابت وملمح مهم في خطاب ناصر عبد الرحمن فإن ذلك يأتي عبر تنويعات ثابتة في ثلاث تكوينات كبرى بعيدة عن العادة وحاجز الطقس، إنه دين الشرائع والشعائر والمشاعر، دون إسراف لملمح على الآخر في حالة التطبيق، وإذا كانت الأرض والوطن، من أهم هذه المرتكزات، فإنه يعزف على هذا التنوع الثقافي الذي يسمح بذوبانه في خطابه الدرامي من النوبة إلى جبل الحلال، ومن حلايب وصولا للعوينات، وإذا كان التاريخ فعل هوياتي راسخ، فتاريخ المهمش يتداخل مع التاريخ الرسمي في إطار درامي يرسم عظمة هذا الوطن وهذا البناء.
في تحرير الخطاب، يقال دائمًا إن الجمل المفتاحية ترسم معالم الطريق، ففي خطاب ناصر عبد الرحمن ستجد تلك الملهمات الحية :(الله ثابت والكل متغير) وإذا كنا نتحدث عن فن مهم من فنون المحاكاة، فيجب أن نلتفت أنها نوعان، محاكاة مباشرة وسبيلها النقل الواقعي ومحاولة تمثله، وهو أمر صعب لا خلاف، لكن الأصعب هو فن المحاكاة غير المباشرة عندما تحمل المحاكاة الواقعية بعضًا من الترميز والتأويلات الخفية والمجاوزة، وهنا يظهر فن التخييل الواقعي بشروطه الفنية وطاقته الرائعة، مثلما نجده في خطاب ناصر عبد الرحمن.
بقي شيء مهم في الختام، التخييل الواقعي يعني الكتابة على سن الواقع، وببعض من الواقعية السحرية تختلط روح الفن بروح الخيال ليغدو ملهما وحادًّا وفارقًا، وهذا ملمح مهم في كيفية كيف نقرأ الفن؟.