الثلاثاء 21 مايو 2024

فى ذكرى رحيله ثنائية الحرية والعقل عند زكى نجيب محمود

11-9-2017 | 14:24

بقلم – سناء السعيد

فى أواخر الثمانينيات التقيت بالدكتور زكى نجيب محمود أحد أقطاب الفكر فى مصر، لأجرى معه لقاء لهيئة الإذاعة البريطانية، يومها رأيت فيه المفكر الموسوعى الذى فتح عقله للكثيرين، وأعطى فأجزل العطاء من نبع حكمته وعميق فهمه. رأيت فيه المفكر الجاد والمعلم المعين، الذى لم يتوقف عن الدعوة إلى ضرورة الأخذ بحضارة العلم ومنهجه ومنطقه، وضرورة المشاركة فى ثقافة العصر التى ترتكز أساسا على العقل والفعل وحرية الفرد وكرامته وحقه المطلق فى التساؤل والبحث والنقد دون إهمال لقيم تراثنا.

 

واليوم ومع الذكرى الرابعة والعشرين لرحيله فى الثامن من سبتمبر عام ١٩٩٣ استدعى حالة القلق والجذع التى تملكتنى والحزن الذى اعترانى فى فبراير ٩٣ عندما علمت بتدهور الحالة الصحية للمفكر الكبير، والتى دخل على إثرها مستشفى الصفا بالمهندسين، سارعت للاطمئنان عليه ولكنه كان قد ألحق بالعناية المركزة، ورغم نصيحة الأطباء لى بعدم الزيارة نظرا لحالته الصحية الدقيقة والحرجة، إلا أننى جادلت فى محاولة لأن ألقى عليه نظرة أخيرة ولعلها تكون نظرة الوداع لهذه القامة الفكرية التى عملت بدأب ومثابرة وجد واجتهاد.

إنه زكى نجيب محمود الذى بدأ ترحاله الفعلى من الغرب وتحدث كثيرا عن الوضعية المنطقية، وكان أحد مهندسى العقل المصرى والعربى طوال مسيرة القرن العشرين عبر محطات قادها هذا العملاق فى مسيرة الفكر العربى من خلال كتبه التى جاوزت الخمسين كتابا ما بين الفكر والأدب والتراث والفلسفة وأهمها” تجديد الفكر العربى” ، “عربى بين ثقافتين”، “قصة عقل”، “موقف من الميتافيزيقا” ، “نافذة على فلسفة العصر” ، “مجتمع جديد أو الكارثة”، ليظل للمفكر الكبير تفرده وتظل له بصماته وخصوصيته، إنه عن حق، أحد الأغصان المصرية الوارفة فى شجرة الإبداع الفكرى العربى بأوراقه المثمرة وومضاته، التى انعكست على عقول الملايين من القراء، فأضاءت لهم معالم الطريق، ويكفى أنه أحد أقوى الحلقات فى سلسلة المفكرين العرب المدافعين عن العقل والحرية.

كان الدكتور زكى نجيب محمود مسكونا بالحرية والعقل بوصفهما وجهين لعملة واحدة، دافع عنها الأستاذ الفارس بشراسة دفاع الأبطال من خلال تاريخه الحافل بالكثير من الملكات الفكرية، ويكفى أنه الظاهرة الفريدة والمتميزة فى حياتنا الثقافية كمفكر ظل يحمل القلم على مدى ستين عاما كاملة أعطى خلالها فكرا ثاقبا متنوعا، اتسم بالشجاعة فى عرض أفكاره وكثيرا ما طرح فكرة، ثم عاد ليراجع نفسه بعدها ولا يتورع عن نقده لها، بل ويجاهر بأنها لم تكن صائبة، تبنى عملاق الفكر نهجا اتسم بالدقة والوضوح وعدم التعقيد، وظل مثابرا على ذلك فى كل كتاباته وهو ما رأيناه حتى فى آخر كتاب صدر له وهو” حصاد السنين”.

كان زكى نجيب محمود دقيقا حريصا على صفات الأمانة والإحساس بالمسئولية، ولهذا ابتعد عن الأفكار المثيرة وتلك التى قد تحوى الكذب والخداع، ومن أجل ذلك توج بوصفه المفكر الأخلاقى الذى اتسم بالاعتدال، واستخدام الفكر لصالح الأمة، ومن ثم ابتعد عن السياسة ودروبها الوعرة، بسبب تقلباتها وركز مسعاه فى تحقيق التطور فى المجتمع، وهو ما أتاح له الفرصة الواسعة للإنتاج الغزير، وعلى خلاف البعض لم تكن العلمانية تمثل إزعاجا له، وبالأحرى لم تكن لتخيفه حيث كان يرى فيها الدعوة إلى الاهتمام بعالمنا الذى نعيش فيه وهى دعوة معلنة فى العقيدة والشريعة الإسلامية.

حصل رائد الفكر الدكتور زكى نجيب محمود على جوائز كثيرة، من بينها جائزة الدولة التقديرية فى الفلسفة عام ١٩٦٠ ، وجائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام ١٩٧٥، وكان أول مصرى يحصل على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إنه المفكر الذى جمع فأوعى عندما حث الشباب على أن يكون ذا نهج علمى بالإضافة إلى تمتعه بثمرات العلم بحيث لا يغفل الجانب الذى يتعلق بالذات أو الهوية العربية المتدينة.

إنه العالم الفيلسوف الذى يستمد قيمته الحقيقية وإشعاعه المتقد من خلال تجسيده للضمير العلمى، إنه المفكر والأديب والمعلم الفذ والكاتب الموقظ والعالم المتمكن فى إطار الثنائية العلمية والتنويرية التى تتغلغل فى كل كتاباته، ولقد تجلى ذلك فى ثنايا أعماله العلمية وفى دعوته التنويرية والإصلاحية من خلال المنهج التحليلى الذى تبناه وطبقه بصورة شاملة، وبصورة شديدة الوضوح والقوة والصدق مع النفس، إنه زكى نجيب محمود أيقونة الفكر بكلماته وأفكاره وتجارب حياته وحكمته ورحلته الطويلة الممتدة مع الكتب والناس، إنه المعلم القدوة، ولهذا سيظل حضوره الفكرى القوى ماثلا أمام الجميع، فالفكر لا يموت والذكرى للإنسان عمر ثانٍ.