الإثنين 29 ابريل 2024

تلك آثارنا 8| جامع الأقمر.. لؤلؤة العمارة الفاطمية

مقالات21-4-2023 | 23:29

مثل لؤلؤة في عقد، يقف جامع الأقمر بين آثار شارع المعز المتخم باللآلئ، متفرداً في واجهته الأخاذة، وفي لون أحجاره البيضاء الزاهرة التي تشبه ضوء القمر في المساء ومن هنا كان اسمه، وكذلك في تصميمه الهندسي الخاص، وفي مأذنته المهذبة الرقيقة، يقف شاهداً على تاريخ طويل ومعاصراً لأجيال من البشر.

لم يحل صغر حجمه دون إظهار جماله، فليس للجمال علاقة بالحجم، وليس بالحجم يقاس الجمال، فهو أحد أجمل المساجد الفاطمية وأكثرها أناقة، بل من أجمل مساجد القاهرة الأثرية، المدينة التي يزركش ثيابها ، ويزين سماءها آلاف المآذن والقباب، وهو أقدم ما تبقى من  أمثلة المساجد الأثرية الصغيرة الأنيقة في مصر.

متراجعاً بعض خطوات إلى الخلف، ونائياً بنفسه عن زحام المارة، وصياح الباعة، ومترفعاً عن ضجيجيهم وصخبهم، ليحتل موقعاً مميزاً في ركن ركن ضيق عند مدخل شارع النحّاسين، الذي كان يعجُّ بأمهر صانعي النحاس في زمن الدولة الفاطمية.

ويؤرخ لتاريخ الجامع نقشان تأسيسيان كتبا بالخط الكوفي الكبير يتضمنان اسمي المنشئ والمشرف على البناء وتاريخ الإنشاء.

يوجد أحدهما في واجهة المبنى الغربية والآخر في الواجهة الشمالية.

منهما نعرف أن الجامع  بني عام 519هـ/ 1125م في فترة حكم الخليفة الآمر بأحكام الله أبو علي منصور بن أحمد الخليفة الفاطمي العاشر (ولد 1096-  ومات 1130م)، الذي أسند مهمة بنائه إلى وزيره محمد بن فاتك بن مختار بن حسن بن تمام الملقّب تاريخيًا بـ"أبوعبد الله المأمون البطائحي"، وعرف بالبطائحي نسبة إلى أصوله التي تنتمي إلى البطائح بالعراق، الواقعة بين البصرة والكوفة.

أحضر المأمون البطائحي أفضل البنائيين والمهندسين؛ ليخرجوا لنا تحفة معمارية تعلو بقامتها عن مثيلاتها، فقد صممت واجهته بطريقة هندسية متميزة عن غيرها مما بناه الفاطميون، فتتزين بدخلات من عقود مشعة ونقوش وآيات قرآنية بالخط الكوفي، وعبارات شيعية أهمها الدوائر متحدة المركز التي تتوسطها كلمتا «محمد وعلي»، وزخارف ونباتية محفورة، تحمل داخلها اسم الإمام على بن أبي طالب، تحيط بها حلقات نقش عليها بالخط الكوفي: بسم الله الرحمن الرحيم "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".

كما تتزين إحدى واجهات الجامع بـ7 أشكال للشمس وهناك بروز يتخذ هيئة برجين يتوسطهما ممر يؤدي إلى الباب روعي في تصميمهما أن يصغر حجمهما ليتناسق المظهر مع الواجهة.

هذه الواجهة الحجرية المميزة والفريدة على نسقها تم تصميم واجهة المتحف القبطي في أوائل القرن العشرين الميلادي مع وضع العبارات المسيحية والصلبان بدلًا من الإسلامية كدليل على الوحدة الوطنية.

ويمتاز الجامع بتصميمه الهندسي البديع، فجاء تخطيطه على شكل مستطيل غير منتظم الأضلاع من الخارج، وحدوده الداخلية على هيئة مستطيل منتظم الأضلاع بطول 28 مترًا وعرض 17.5 متراً.

ويتكون من صحن أقرب إلى المستطيل، مساحته عشرة أمتار مربعة، محاط بأربعة أروقة لها قباب صغيرة، تمثّل المذاهب الأربعة، أكبرها رواق القبلة، وتتزين عقود الصحن بزخارف جصية وآيات من سورة النور.

وهناك محراب يتوسط جدار القبلة، عقده مكسوّ برخام ملوّن دقيق تعلوه لوحة تذكارية تسجل أعمال التجديد، أو الترميم، الأولى للجامع، التي أجراها الأمير يلبغا السالمي سنة 1396م بأمر من السلطان برقوق.

ومما يتميز به هذا الجامع الفريد، تلك المقرنصات التي استعملت للمرة الأولى فيه، وعقود الأروقة المحلاة بكتابات كوفية مزخرفة تختلف عن مثيلاتها في العصر المملوكي والعثماني.

ولقد ظهرت براعة المهندس في تنسيق الواجهات لتتفق مع اتجاه الطريق، وكذلك مراعاة اتجاه القبله من الداخل.

فقد بنيت القبلة الخاصة بالمسجد موازية لخط تنظيم الشارع بدلُا من أن تكون موازية لصحن المسجد، وذلك حتى تصبح القبلة في وضع صحيح.

 وبعد سقوط الدولة الفاطمية، عانى جامع الأقمر الإهمال مثل غيرة من مساجد الشيعة، حتى عاد إلى لدائرة الاهتمام مرة أخرى في عهد دولة المماليك، وبالتحديد في عهد السلطان الظافر سيف الدين برقوق عام799هجرية / 1397ميلادية، بواسطة الأمير أبو المعلى بلبغا بن عبدالله السالمي، والذي عرف عنه التصوف وحب آل البيت، فأعاد الحياة للجامع، وجدد المئذنة والمنبر وحوض الدواب المجاور له، وأقام بركة مياه معلقة في الصحن، وسجَّل ما فعله من تجديدات أعلى محراب الجامع ومنبره.

وشاع استخدام الجامع للصلاة فيما بعد في العصر العثماني، إلا إنه تعرض لتعديات في القرن 13 هـ / 19 م، أدى أبرزها إلى فقدان النصف الأيمن من واجهته الغربية الذي حلَّ محله واجهة منزل. وتم نزع ملكية المنزل المتعدي على الجامع وهدمه وإعادة واجهة الجامع إلى ما كانت عليه استناداً إلى النصف الأيسر من الواجهة الذي كان النصف الأيمن مماثلاً له، وقد تمَّ ذلك في القرن العشرين.

ثم شهد المسجد عملية ترميم وحفظ قامت بها لجنة حفظ الآثار العربية عام 1928، وأجري المجلس الأعلى للآثار ترميماً أخر للمسجد فأزال المباني التي حجبت واجهته عن المارة، أعاد إليه وضاءته، واستعاد الجامع على أثره بريقه؛ ليشكِّل لؤلؤة فريدة في عقد لآلئ الآثار الإسلامية بشارع المعز.

Dr.Randa
Dr.Radwa