الجمعة 21 يونيو 2024

بليغ حمدي .. واللعب مع الكبار؟!

16-9-2017 | 12:09

بقلم: مجدى نجيب

مع بداية السبعينيات كان الهجوم قد بدأ يشتعل ويحاصر الملحن بليغ حمدي بالاتهامات فهو الوحيد الذي أصبح يعمل في حقل الموسيقي والغناء وكأنه استعمار جديد قد فرض ما يريده واعتبره بعض النقاد استعماراً فنياًَ أو نوعاً من الديكتاتورية الفنية التي تحاول حصار الجميع لأنها توزع أعمالها مجاناً من أجل السيطرة والانتشار بحيث أصبح زملاء بليغ بلا عمل تقريباً، لا أحد يقترب منهم للحصول علي لحن.

ولا حتي اتصال تليفوني ودود لمجرد السؤال الإنساني

فالذي زاد من قوة اشتعال الموقف الغاضب هي محاولات بليغ اللعب بنفس الأساليب الموسيقية التقليدية التي كانت سائدة لمعاصريه وإخضاعها لأسلوبه مثل «موعود ومداح القمر» وقد حذرته ذات ليلة وكان معنا الملحن منير مراد.. وعم نصر عبدالمنصف - وهو أحد العازفين في الفرقة الماسية وكاتب النوتة الموسيقية الذي كتب أغلي ألحان الملحنين في تلك الفترة المزدهرة حيث أغلبهم لم يكن يعرف الكتابة الموسيقية.. كان أغلبهم بالفعل عجزة تماما عن قراءة النوتة الموسيقية ولا يعرفون فك رموزها - وقد وافقني منير مراد بأن بليغ تخلي عن أغنية «الفورم» التي كانت من أسباب نجاحه.. ودخل إلي مناطق محمد عبدالوهاب وكمال الطويل والموجي وهذا الفعل سوف يضر به وبمشروعه وحلمه الموسيقي وإذا استمر في هذا الطريق سيخسر ويخصم من نجاحه...

وكان رأي أغلب المقربين له أنه لم يضف أي جديد والإضافة الوحيدة التي تحسب له هي «بهرجة» الآلات كتغليف جيد وجديد لبضاعة قديمة وشعر الموجي والطويل بأن هناك عملية سطو تتم علي أعمالهما..

والطويل كان متحفظا ومحتفظا بهدوئه

أما الموجى فكان كمن سرق أحدهم أحد أولاده..

أما عبدالوهاب فقد اختفي وراء صمته اللئيم وأطلق ثعالبه الصغيرة من أصدقائه الصحفيين للمشاركة في حصار - الذئب- بليغ حمدي فلما سألت محمود الشريف عن رأيه في أغنية «مداح القمر» التي أعلن عبدالحليم يوم غنائها أن بليغ هو «أمل مصر في الموسيقى»

قال الشريف صاحب «نشيد الله أكبر» وصاحب الشعبيات الجميلة الصادقة.

إنها أغنية مملة وليس لها أقدام لتقف عليها؟! فإذا كان صانع هذه الموسيقي هو الأمل فأنا أؤكد أنه لا أمل.. ولا مستقبل للغناء ولا يحزنون!

وقال الموجي وهو يملس علي شاربه كعادته ولكنه كان غاضباً:

إنه لم يأت بجديد باستثناء الجملة الموسيقية في أداء الكورس النسائي وهي جملة تعتمد علي روح الجملة الموسيقية الأصلية في القد الحلبي المعروف «قدك المياس» الذي غناه المطرب السوري صباح فخري والمطربة طروب ومحرم فؤاد وغيرهم.

عندما واجهت بليغ بهذه الآراء قال في عصبية:

إن «الكورس» خطوة في تطوير الأغنية الفردية للوصول بها إلي محطات المسرح الغنائي الذي نحلم به جميعاً.

قلت:

ولكنك ياصديقي لم تستخدم الكورس درامياً.. وإنما استخدمته بالشكل الذي تعودنا عليه في الكثير من الألحان الفردية!

صمت بليغ:

وأحسست أنه وقع في فخ التصريحات غير المسئولة.

دردشة

في أواخر الستينيات كان صديقي محمد سعيد - الذي أصبح فيما بعد أحد أهم النقاد المتميزين في كتابته الاقتصادية والسياسية والفنية - قد طلب مني التعرف إلي بليغ من أجل دعوته إلي ندوة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تحت عنوان «هل التراث هو المصدر الأساسي لتطوير الأغنية؟» فأخذته معي ذات يوم إلي مكتبه وتشعبت أحاديثنا وأثني يومها علي الملحن محمود الشريف وقال عن محمد القصبجي إنه كان قادرا علي «التحديث» بمعني أنه كان متمكناً جدا من مزج الأصالة بالحداثة ولكن المحزن أن الجيل الحالي من المشتغلين بالموسيقي والغناء لا يعرفون عنه سوي ذلك الرجل ضئيل الجسم الذي كان يجلس محتضنا عوده - عازفاً- وراء أم كلثوم علي المسرح.

قلت لبليغ:

ولا يمكن أن ننسي الملحن أحمد صدقي و الموجي والطويل وعلي الأخص في لحنه لأغنية «يارايحين الغورية» في الخمسينيات من القرن الماضي التي قام بغنائها محمد قنديل وكانت من أسباب انطلاقه فنياً.

قال بليغ وهو شارد الذهن كأنما يتذكر شيئاً:

لقد كان نجاح هذه الأغنية هو الذي دفع بكمال الطويل لكي يؤسس علي منوالها بناءه الموسيقي لأغنية «علي أد الشوق» التي أكدت تدعيم نجاح عبدالحليم حافظ بعد غنائه «صافيني مرة» من ألحان محمد الموجي، كان محمد سعيد من أشد المعجبين بالمطرب محمد قنديل فقال:

إنه سكندري الهوي - بلدياتي وأنا أحب صوته في اللحن الجميل لأغنية «سماح» التي لحنها له أحمد صدقي.

أكد رأيه ثم أضاف:

أن أحمد صدقي كان يبدع ألحانه بالنحت في صوت وطبقات محمد قنديل.

ضحكنا جميعا لأن الملحن أحمد صدقي كان مثالاً.. ومهندسا معماريا ثم أمسك بليغ بعوده وانشدنا ما غنته نجاة علي وهو يقول أسمعوا لحنه الجميل الذي نتذكره جميعاً:

فاكراك ومش ح أنساك

مهما الزمان أساك

ولا نسيت حبي

وإن رحت مرة تزور

عش الهوي المهجور

سلم علي قلبي

بعد ذلك بأيام أعلن بليغ حمدي في الندوة بثقة أنه قد قام بدراسة طويلة للأدب الشعبي وبدأ يكتب ألحانه بهذا الأسلوب لأنه كان يؤمن بأن هذا هو الطريق السليم لوضع شخصية قومية لموسيقانا العربية:

وعندما وجه إليه أحد الطلبة هذا السؤال:

يتهمك البعض بأنك تنقل ألحانك من الجمل الفلكلورية الناجحة الموجودة في تراثناً.

أجاب في انفعال:

أنني أدرس تركيبات لحنية وإيقاعات وأساليب أداء موجودة في وجداننا وتعيش معنا واعتقد أن هذه الرؤية التي أراها انتبه إليها قبلي العبقري سيد درويش عندما بدأ في صياغة ألحانه الشعبية كان معتمداً علي التراث.

سأله طالب آخر - وهو يعبر عما قال محمد عبدالوهاب بشكل غير مباشر بعض الموسيقيين يرجع طريقتك في بعث الفلكلور إلي نوع من الإفلاس وعدم القدرة علي الإبداع!

هنا اعتدل بليغ وقال:

للأسف أغلب الملحنين لم يعرفوا كيفية قراءة التاريخ لأنهم فرضوا العجز علي طموحاتهم وابتعدوا عن دراسة ما حولهم عندك «الرحبانية» كل ما قدموه من ألحان ناجحة هي في الأصل من الألحان الشعبية في لبنان وقد صيغت بشكل جديد في النص المكتوب واللحن.

حاولت تخفيف ضغط الأسئلة التي يوجهها الطلبة فقلت موجهاً استفساراً إليه:

أعتقد بدراسة الموروث الشعبي في انحاء الوطن العربي يمكننا أن نصل إلي العالمية!

أجاب وهو يشعر أنني ألقيت إليه طوق النجاة:

نعم لو عثرنا لموسيقانا علي شخصية قومية وقمنا بكتابتها علي أساس علمي سليم بالتأكيد سنصل مثلما فعلت الهند واليونان.

ذكره الطالب محمد سعيد- الذي أصبح ناقدا بعد ذلك - ببداياته الفنية عندما غني من ألحان غيره ثم طلب منه أن يغني أغنية «تخونوه» التي كانت نقطة تحول في بداياته من حيث «التجديد في الإيقاع بمعني أن الإيقاع لابد من كتابته مع اللحن وعدم تركه» للموزع الموسيقي أو للفرقة لكي تعزفه كما تشاء وهذا ما أكده بعد ذلك الدكتور محمد عناني عندما كتب عنه بعد رحيله.

لم يكن الإيقاع بالنسبة لبليغ حمدى هو القالب الموسيقي أو «الميزان» الإىقاعي التقليدي ولكنه كان يمثل «نبض» الموسيقي الخفي دقات القلب الدافئة التي تعبر عن نفسها بصدق في امتزاجها مع اللحن الذي تعزفه الوتريات أو آلات النفخ المحدودة.

وقبل أن يمسك بعوده ليغني فاجأه أحد الطلبة عن رأيه في التجديد الموسيقي الذي قدمه الملحن والموزع علي إسماعيل فأجابه بأن ألحانه وتوزيعه للموسيقي الشرقية واستخدامه للآلات الضخمة في الإيقاع وكذلك النحاسية كان بمثابة اكتشاف الطاقة الفنية في الوجدان البشري عند المستمع العربي وغني يومها بليغ «تخونوه» التي كانت أول ألحانه في أول لقاء له مع عبدالحليم حافظ في فيلم «الوسادة الخالية» عام 1957 من إخراج صلاح أبوسيف.

تخونوه.. وعمره ما خانكم

ولا اشتكي منكم

تبيعوه وعمرما باعكم

ولا انشغل عنكم

قلبي.. ليه تخونوه

فصل من كتاب «زمن الفن الجميل»