مُبهَمٌ ومحيِّرٌ ذلك الموت وقاهرٌ أيضاً ... !! لا يمكن لأحدٍ مرواغةُ كمائنه إذا ما اعترضت مسار خطواته، والإفلاتُ من شِبَاكه إذا ما أُلقيتْ ، ولست أدري هل كانت لفظة ( الموت ) هي السبب الرئيسي في تأخُّر مَلكَةِ النطق لديَّ حيث لم تبدأ بعض الكلمات معرفة الطريق إلى فمي إلا بعدما قاربت أربعة أعوام ؟!! فمنذ أن استطعتُ استخدام سمعي وأمي تحكي لي عن شقيقتي " رضا " التي غادرت الدنيا طفلةً قبل أن أرى الدنيا بثلاثة أشهر...!! وكيف فارقتْها تحتضن صورة أبيها حيث كان في سبيله لإعداد مسكننا في الإسكندرية بعدما انتقل إليها عمله ... وبعدما وجدت في شقيقي " أحمد " الكثير من العِوَضَ واللعب إذا به يغادرني طفلا دونما استئذان في مغرب يوم ما ... لكنني رأيتهم يحملونه ويلحدونه أمام عيني ، ويهيلون عليه التراب أمام عيني ..!! ويالها من ليلة مرَّتْ على النفس حينما ظللتُ أرقب مكانه الفارغ منه حيث كنا ننام متجاوريْن !!
وكلما امتد بنا العمر نحن البشرَ وخصوصا الشعراء تختلف نظرتنا للحياة وللموت ، فنحن معاشرَ الشعراء نرى في الزمن العامل الأكثر أثراً ، والأشد وطأةً على أحلامنا ، إذ كلما اُختُطِف عامٌ من أعمارنا ، أو ضاعت لحظاتٌ من بين أصابعنا بكيناها بكاءً حاراً ، وتولَّتْ حروفنا رثاءها رثاءً دامياً ..!! ولذلك شكَّلتْ مسألة الموت وعجز الإنسان عن مواجهته أو الآنتصار عليه ... أقول شكّلتْ مسألة الموت هذه ثيمةً أساسيةً في نصوص معظمنا نحن الشعراء، فالموت هاجسنا الذي تطارده حروفنا ، والحقيقة التي لا نحبها ، وما الكتابة إلا مرواغةٌ ماكرةٌ نحاول من خلالها الانتصار على الموت وتحقيق الخلود في مواجهة سطوته ، وعلى قدر اتساع المراوغة تتعدد نظرتنا نحن الشعراء للموت ؛ فمرةً نراه الوحش الذي ينشب أظفاره مثلما يقول " أبوذؤيب الهذلي " : (وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألْفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفع ) ، ومرةً نراه عالَماً غامضاً بلا ملامحَ ؛ مثلما هو عند "بدر شاكرالسياب" الذي تناوله في نصوصه الكثيرة تلميحاً وتصريحاً فيقول : (هات الردى .. أريد أن أنام بين قبور أهلي المبعثرةْ / وراء ليل المقبرةْ / رَصاصة الرحمةِ يا إلهْ)... ويبقى الموت الوحش ذو الأظافر الدامية يهيمن زمناً طويلاً على خطاب الشعراء ، فالعراقي " مهدي الجواهري " يقع في أسر تلك الصورة حيث يقول : (ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبه * * دم إخوتي وأقاربي وصحابي ) ؛ ليتطابق مع النظرة التقليدية للموت الحيوان المفترس . ويساير تلك النظرة التقليدية الرائع " محمود درويش " حيث اختص فكرة " الموت " بعملٍ كاملٍ تحت مسمَى ( جدارية ) ، ورغم ما في هذا العمل من طرافة استشراف ما بعد الموت بِلغةٍ هائلةٍ ومجازٍ خلَّابٍ وحوارٍ رائعٍ إلا أنه يراه صياداً يترصَّد الإنسان الظبي (ويا موت انتظر يا موت / حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحتي / لتكون صيادا شريفا لا يصيد الظبي قرب النبع / ولتكن العلاقة بيننا ودية وصريحة....!! ) نفس الفكرة التي تتطابق وفكرة الوحش . ليختلف تعامل أمل دنقل مع الموت ؛ فهو اليائس فاقد الإرادة في ديوانه « الغرفة رقم 8 » إذ أشعل مرضُه ورقادُه الطويلُ في المستشفى فكرةَ الموت جاعلاً اللون أهم أدواته ، حيث يقول : ( في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيضْ / لون المعاطف أبيضْ / تاج الحكيمات أبيضْ / أردية الراهبات ...الملاءات... لون الأسِّرة ...أربطة الشاش والقطن... قرص المنوم ...أنبوبة المصل .. كوب اللبنْ / كل هذا البياض يشيع بقلبي الوهنْ / كل هذا البياض يذكرني بالكفنْ !! ).
لنتوقَّف أمام نصٍّ بديعٍ تعامل مع فكرة الموت تعاملاً مختلفا هو نص ( الزائر الأخير ) للشاعر الكبير " عبد الرزاق عبد الواحد " ؛ ليبدأ الإدهاش من أولى عتبات النص وهي العنوان ؛ فالموت زائرٌ يطرق باب الشاعر..ويجلس.. فيه كل صفات الإنسان من حديث... وحركة... و لطف معاملة !! حيث يقول : ( من دون ميعاد ... من دون أن تُقْلِقَ أولادي / أطرق عليَّ الباب / أكون في مكتبتي في معظم الأحيان / اجلسْ كأيِّ زائرٍ ... وسوفَ لا أسألُ ... لا ماذا ... ولا مِنْ أينْ / وحينما تُبْصِرُني مُغرورقَ العينينْ / خُذْ من يديْ الكتابْ ...أعِدْهُ لو تسمحُ دونَ ضجَّةٍ للرفِّ حيثُ كان / وعندما تخرجُ لا توقظْ ببيتي أحداً / لأن مِنْ أفجع ما تُبْصِرُهُ العيونْ...وجوهَ أولاديَ حينَ يعلمونْ ..!! ) لوحةٌ مبكيةٌ يُحكِم الشاعر تصوير منمنماتها بحرفيةٍ ، ويرسم لحظاته الأخيرة راغباً في المغادرة بهدوء !! ونصل إلى محطتنا الأخيرة والشاعر السنغالي " أليون بادارا كوليبالي " وقصيدة ( نقطة آخر السطر ) من مجموعته الشعرية ( شعاع شمس ) ، والنص لوحةٌ شديدة التكثيف تبدأ أسطرها الثلاثة بتوسل الشاعر لله أن يمنحه القدرة للانتهاء من كل ما يصبو إليه من إبداع ؛ وانهماك الشاعر عجيبٌ ؛ فهو لايريد تَرْكَ مخطوطةٍ ناقصةً صفحةً أو كلمةً أو نقطةً ؛ فَلْيدَعْه الله يختم مؤلفه الأخير ولا يطلب سوى ذلك ، وكأنه يرى أن حياته لازمةٌ له بقدْر إنجاز إبداعه ، ويدَّخر آخر أنفاسه ليضع نقطة آخر السطر؛ فمع السنغالي ( أليون بادارا كوليبالي ) ولوحته الرائعة ..."نقطة آخر السطر" :
إلهي أعطني القوة ... كي أكتب الصفحة الأخيرة من آخر مخطوطة !!
إلهي أعطني القوة .... كي أكتب الكلمة الأخيرة من آخر سطر !!
إلهي !! لتُنزلْ عليَّ نعمتَك.... كي أضع نقطة آخر السطر لكل ما سبق.