الإثنين 27 مايو 2024

خَرَزَاتَ النّظم رؤية تذوقيّة في أدب الخطاب النبوى


د. مجدى إبراهيم

مقالات16-5-2023 | 17:17

د. مجدى إبراهيم

● علينا أن نعمل ونتحرى الصدق فى العمل، وليس علينا إدراك النتائج كلما كانت قلوبنا واعية ومُعقلة على الله في التوجُّه، ولتكن بواعثنا على العمل أحرى بالعناية من غاياتنا
● العلاج من مرض الآفات النفسية، والتكامل بين النظر والعمل في فقه الخطاب النبوي دلالة مقصودة لذاتها وهادفة إلى صلاح النفس والواقع
● من الأخطاء التى تتردد دائماً خطأ اعتبار أن كل خفاء وسريّة هما خارج نطاق الوعى، وبالتالى فلا يمكن للوعى أن يمثله أو يُعبر عنه أو يعكسه فى الحقيقة واقعاً مشهوداً للأبصار
● الرسالة قيمة علوية يَتمُّ فيها ذلك التحوّل الباطنى، فتكون من أقوى الدوافع الوجودية على إخلاص العمل لله لا إخلاصه لأجل غاية نفعية أو مادية أو حتى منفعة شخصية

ليس للدين ولا للعقيدة قيمة ذات أثر يُذكر ما لم يكن النزوع العملى فيها يتلازم بالضرورة مع الفكرة النظريّة؛ فليست المعرفة المُجرّدة بكافية عن لواحق السلوك والتطبيق بل جوهر الدين ولبُّه هو العمل. انظر إلى قوله

 :" اعْلموا ما شئتم أن تعلموا، ولكنكم لن تؤمنوا حتى تعملوا"؛ انظر كيف قَرَنَ صلوات الله وسلامه عليه الإيمان بفضائل العمل، وفصل بين العلم الذي لا عَمَلَ فيه عن الإيمان، مع أنه أعطى الحق لمشيئة العالم فى أن يعلم ما يشاء كيف يشاء، ولكن هذا كله شىء، والعلم الذى يتحوّل فيه العمل إلى إيمان شىء آخر؛ لكأنما الفكرة النظريّة يقولها المتكلم أو الكاتب كلاماً مجرّداً عن الفاعلية العمليّة أو عن الممارسة التطبيقية تجىء لا لتكون حياة حيّة؛ بل لتكون ضرباً من النظر الأجوف الذى لا طائل من ورائه. هنالك يتحوّل الفكر إلى صنم يعبد ليس فيه حرية، يمارسه سدنة الكهانة ولا يمارسه الأحرار من المفكرين. شرط ممارسة الفكر هو إتاحة أكبر قسط من الحرية. أمّا الأصنام والكهانة فهى ضد عمل العقول المفكرة. أنا شخصياً يُخَيّل إليَّ أننا لا نعبد الله على الحقيقة بل نحن عبدة أصنام وأوثان! 

وأن قلوبنا بحاجة شديدة إلى تفرقة الأصنام عنها ممّا لحق بها من عبادة الصنم بعد الصنم: صنم السّلطة، وصنم المال، وصنم العلم، وصنم الدين، وصنم الجاه، وصنم النفوذ، وصنم الزعامات الموبوءة، وصنم السّطوات الضاغطة على الطبيعة البشرية، وأصنام كُثر وأوثان كُثر وأرباب كُثر؛ فكما أن لكل صنمه يتمثله فيعبده ويتوسّل إليه صباح مساء بوسائل القربات؛ فلكل ربه يتخذه من دون الله معبوداً على هواه.

أما سيّد الخلق الذي وَهَبَ الحريّة للإنسانيّة وحطّم الأصنام والكهانة فهو نفسه  مَنْ استقل بكرامة الإنسان عن سطوات الأغيار، وعن أغلال قيودها المستبدة، ومضى يُبصِّره بكشف حقيقته الإنسانية كشفاً من جديد في ضوء البذرة الإلهية فيه، وفتح ضميره مستقلاً عن التعلق بغير الله والعمل من أجله، واستغلال الطاقة الإنسانية والعمر البشرى فى تحصيل ما بقى من كرامة الفرد بالعمل فى رحاب الله. ومن هنا لزم دراسة الخطاب النبوى دراسة ذوقية في ضوء معطياته اللغوية والعمليّة من خلال هاتين النقطتين : 

أولاً : الرسالة : الرمز والدلالة

فمن خطبه   وهو معلم البشرية: أيها الناس: " إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم؛ فإنّ العبد بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدرى ما الله فاعل فيه، وأجل باق لا يدرى ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه ﻵخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فو الذى نفس محمد بيده : ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلّا الجنّة أو النار". 

لابد لنا من ملاحظة سريان الوعى النبوى في أدب الخطاب، وهو خطاب يحمل بين طياته وضوح الحقيقة وجلائها من جهة، كما يحمل فى الوقت نفسه خفاءَها وسريتها من جهة أخرى. ولا بد من ملاحظة، أنه من الأخطاء التى تتردد دائماً خطأ اعتبار أن كل خفاء وسريّة هما خارج نطاق الوعى، وبالتالى فلا يمكن للوعى أن يمثله أو يُعبر عنه أو يعكسه فى الحقيقة واقعاً مشهوداً للأبصار. هذه فكرة غير صحيحة بالمرة؛ لأنها وإنْ انطبقت على الوعى العادى المحدود، فلا يمكن بحال أن تنطبق على الوعى العالى غير المتناهى وغير المحدود، وهو هنا وعى النبوة ووعى الولاية. 

الوعي العالى شأنه أرفع وأسمى في ملكة الإدراك: دائماً ما يُمْسِك بالنهايات ولا يتناهى فى ذاته؛ ولكونه لا يتوقف عند المنتهى، فهو لا يتناهى بالتفكير المشروط؛ لأنه غير محدود بحدوده على الإطلاق؛ إذْ إنه وعى يدرك ما لا يدركه الوعى العادى المحدود.

وعي النبوة يحيطك بعالم الحقيقة فى كلمات قِصَار نافذة، فهو يهدف هنا مباشرة إلى تقدير العمر البشرى واغتنام اللحظة الفاعلة فيه، المؤسسة عليه. وليس يمكن تقدير العمر البشرى بغير الانتباه إلى هذه المعالم المحددة ووضعها فى الاعتبار: وأن هذا العمر محدود، له نهاية لا بد من الانتهاء إليها. ومخافة العبد حين يضع في الاعتبار تقدير العمر الإنسانى لا تتعدّى إمّا الأجل الذى مضى منه ليس يدرى ما الله فاعل فيه, وإمّا الأجل الباقى الذي لا يدرى ما الله قاض فيه. وعلى العبد إذن بين هاتين المخافتين أن يقدّر عمره، وأن يحسب للحظاته ألف حساب وحساب، وأن يعرف عدد أنفاسه فيه، ليغتنمها فيما بقى ويتدارك منها بالتوبة والاستغفار ما مضى. 

وليس من شك في أن تقدير العمر البشرى لهو تقدير لزمن الحياة الإنسانية على هذه البسيطة، والعمر نفسه ليس إلا دقات قلب المرء بين زمان ولى وانقضى وزمان محدود لا يدرى المرء ما الله قاض فيه. الوعى النبوى يختصر الزمن كله فى عبارة موجزة معجزة دالة، ثاقبة الرؤية، ومحددة الاتجاه كما البوصلة المرشدة إلى صحيح الطريق. وعن هذا الوعى العالى يأتى أدب الخطاب النبوى كما تجىء الرسالة: قيمةً ورمزاً ودلالة.

يقودنا التأمل في مدلول "الرسالة"، فنراه على الحقيقة يشمل روح الدين وجوهره، غاياته وأهدافه ومقاصده، تماماً كما أن الرسالة هى روح النبوة ومقاصدها الكريمة السامية، هى النموذج الأعلى يحتذيه كل فرد يؤمن بالله، ويريد أن يكون على منهاج النبوة من طريق البلاغ والهداية والرحمة المهداة إلى ربِّ العالمين.

فمن نَهَجَ نَهْج الرسالة كان مرحوماً بذاته رحيماً بغيره، وإنه مادام مرحوماً في ذاته، فلن تكون رحمته في نفسه إلا مشمولة بالعموم على جميع خلق الله تعالى عملاً بقوله تعالى في محكم التنزيل: "وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين".

الرسالة قيمة علوية يَتمُّ فيها ذلك التحوّل الباطنى، فتكون من أقوى الدوافع الوجودية على إخلاص العمل لله لا إخلاصه لأجل غاية نفعية أو مادية أو حتى منفعة شخصية .. علينا أن نعمل ونتحرى الصدق في العمل, وليس علينا إدراك النتائج كلما كانت قلوبنا واعية ومُعقلة على الله فى التوجُّه، ولتكن بواعثنا على العمل أحرى بالعناية من غاياتنا، ولننتظر المثوبة من الله لا من الناس، وليتنا نغفل تماماً عن الجزاء على الأعمال، ولنطلب وجه الله المأمول بالعمل خالصاً مُخلصاً ليكون نفعنا من رسالتنا أخرويَّ الجزاء.

حَطّمَ رسول الله الأصنام والأوثان؛ ليقول لنا بأبلغ لسان: حرروا عقولكم وضمائركم وقلوبكم عن عبادة الأصنام، وستكون لكم في مستقبل الأيام - معشر المسلمين - أصناماً وأوثاناً تخلقونها على هواكم وتتصورها أوهامكم، وليست بالضرورة أن تكون حجراً أو قطعة من طين أو عجين؛ فلربما تكون قيمة تخلقها الغفلة، أو تكون لافتة يتصورها الوهم، أو شارة ينسجها الخيال العاطل، أو تكون رباً من الأرباب تعبدونه من دون الله أو تكون منصباً أو جاهاً أو فكرة أو عقيدة تغشىَ عيون قلوبكم وتظلمها فلا ترون الحق أبداً وعلى قلوبكم غشاوة وفى أبصاركم غبش!

هذا هو الرمز، وتلك هى الدلالة من الرسالة الدائمة التى يجب على مفكرى الإسلام وعارفى فضله الاضطلاع بها: تحطيم الأصنام والأرباب والأوثان التى تتراءىَ لنا صباح مساء، فتصرفنا عن روح الدين وجوهر العقيدة السّمحة تماماً كما تصرفنا عن نهج الرسالة المحمديّة كونها رحمة للعالمين، في كفاحها المتصل وجهادها الجميل وصبرها الدائم الموصول على سُبل الكفاح والجهاد؛ وليفتش كل مسلم عما هو موقور في داخله وليبحث عن الصنم الذى يعبده دون الله: المال، الجاه، المنصب، الرئاسة، وليتحرّر من كل هذا؛ ليشهد الله على الحقيقة؛ وليكون حجمه الروحي قياساً لإنسانيته ولقيمته سواء؛ وليعلم إنما الدنيا أسباب وراء أسباب؛ وإنه بهذه الأسباب لمحجوب عن الله بالسبب، فليعتق نفسه ليشهد تجليى الفعل الإلهى من خَلف حجاب الأسباب.

ثانياً : أدب الخطاب النبوى

من أي أجناس الكلام البليغ هذا الذوق النبوي الرفيع؟

عَرَف الأقدمون أجناس الكلام الموجز القصير كونه أدباً يتخذه الفنانون من الأدباء والشعراء منذ عهد الإغريق؛ فكانت "الآبدة" عند نشأتها الأولى في بلاد الإغريق لا تعدو أن تكون نقشة على باب معبد أو باب دار، ثم تفنن فيها الأدباء والشعراء حتى أصبحت فناً قائماً بذاته بين الكلمات الموجزة. وظهرت خصائص الأمم في أوابدها فاتّسعت لاختلاف الملكات والطبائع بين الإغريق واللاتين، وبين الجرمان والصقالبة والإنجليز،

وزَخَرَتْ بها ثروة الفرائد المرسلة في لغات الحضارة، وكانت أوفر الموضوعات الأدبية نصيباً من قبول القراء.
في دراسة مركزة عن الأوابد والشوارد كتبها الأستاذ "عامر العقاد"، وهو يقدّم كتاب "آخر كلمات العقاد" إلى المكتبة العربية في 2 أبريل سنة 1964م. ذكر أنه جمع آخر كلمات العقاد، في كتاب يفيض بأمثال من الأوابد والكلمات المأثورة التي تفاجئك وتصدفك وتعجبك، وتقول لك فى كلمات قصار ما لا يُقال في صفحات. وإنه لمن محاسن تلك الأوابد إنها تكافىء قارئها على المشقة وزيادة المتعة بالاهتداء إليها، حتى إذا كانت نكتة الآبدة خفيّة بعض الخفاء، ولم تسفر عن وجهها لأوَّلِ نظرة فذلك دليل على متعة أبقى وعلى جمال أسمى. وتُعرف الآبدة فى اللغات الأوربية باسم الأبجرام (epigram) ولا يطلق عليها لفظ واحد في اللغة العربية، لأنها تتوزع بين أغراض المثل السائر، والحكمة، وجوامع الكلم، والأجوبة المسكتة، والوصية، والشعار، والخاطرة، والشاردة؛ على اختلاف معاني هذه الكلمات. ولا نعرف لها لفظاً أقرب إلى الدلالة عليها فى لغتنا من كلمة "الآبدة"؛ لأنها تجمع المعانى التى تتضمنها تلك الكلمات على اختلافها، وتزيد عليها بألوان الجموح والتمرد والغرابة، وهى من لوازم الأبجرام كما يفهمه الغربيون بعد أن تطور في أطواره المختلفة منذ عهد الإغريق.

فالآبدة تشتمل على شىء من المفاجأة يصدم السامع للوهلة الأولى كأنه مناقضة لكل رأى أو حكمة معهودة، ثم يسكن إليها آخر الأمر، فإذا هى حقٌ لا غرابة فيه. وفى الآبدة شىءٌ من التورية والملاغزة كأنها تعرض على السامع أحجية للحل أو سؤالاً للامتحان وفيها لذع خفى أو ظاهر، فلن تخلو في أكثر صيغها من وخزة سحر أو غمزة تبكيت، وتتأخر فيها اللذعة إلى خاتمتها فتمر مأمونة سليمة إلى كلمتها الأخيرة ثم يلتفت السامع إلى اللذعة بعد انتهائها، ومن هنا سمّاها بعض أدباء اللاتين بالعقرب، لأن لذعتها مخبوءة في زباناها.

والرشاقة في تناول المعنى شرط من شروط الآبدة؛ لأنها لا تُقَالُ بلغة التعليم والتعريف بل تُقَالُ بلغة الصوامع والمحاريب وأساليب التنجيم والتأويل؛ فلابد فيها من بعض الخفاء وبعض الرمز وبعض الإيحاء. وهى غير الخاطرة والوصية فى قبول الزيادة والإسهاب؛ فإنّ الخاطرة قد تزداد وتستطيل، والوصية الواحدة تكتب في سطر وتكتب في صفحات. أما الآبدة فهى في صيغتها كالبنية العضوية التي تكمل بانتهائها، فلا تقبل المدُّ والإطالة كما لا تقبل البنية الحية زيادة عضو أو إطالة تركيب. ولم يكن هذا كله ملحوظاً في الآبدة عند نشأتها الأولى في بلاد الإغريق، ولكنها تطورت مع استخدام الأدباء لها والشعراء وأرباب الفنون ممّن عنوا بها فى لغات الحضارة.

هل تدخل خرزات النظم النبوى في هذه الأوابد التى عرفتها الأمم القديمة أم تختلف عنها فى التفصيل والإجمال؟ وإذا كانت الرشاقة شرطاً من شروط نظم الآبدة، وكانت تُقالُ بلغة الصوامع والمحاريب ولا تُقالُ بلغة البحث العلمى والتحديد المنهجى؛ فهل كان أدب الخطاب النبوى يخلو من هذه الرشاقة؟ ومن ثمّ هل هو داخل فى هذا الجنس أو يغايره بالكليّة ثم يثبت أمام الزمن مع اختلاف الأزمنة على تداول أجناس الكلام البليغ؟
من الصحيح أن الكلمات الموجزة التي عنى بها تاريخ الآداب أنواع كثيرة، ليست تدخل تحت عنوان واحد وإنْ تماثلت في الإيجاز، وقد تختلف في الأسلوب كما تختلف فى الموضوع؛ فمنها المثل السائر، وهو خلاصة التجربة الاجتماعية بمقدار ما يكون فى الغالب خلاصة التجربة الإنسانية في أمم كثيرة. ومنها الحكمة، وقد تشبه المثل السائر في موضوعها وصيغتها، ولكنها قد تصدر عن الآحاد كما تصدر عن الجماعات. ومنها جوامع الكلم؛ وهى أمثال أو حكم لا تخلو من نكت البلاغة ومحسنات التعبير. ومنها الأجوبة المسكتة، وهى كلام وجيز مفحمٌ في جواب سؤال مسىء أو محير أو مشتمل على مناجزة وإحراج. ومنها الوصية، وبينها وبين المثل السائر فرقُ الأمر والتكليف. ومنها الشعار، وهو عبارة يتخذها صاحبها دليلاً على خطته في الحياة العامة أو الخاصّة، وتكثر في السياسة والمعاملات. ومنها الخاطرة، وهى كالمفكرة لكاتبها أو لقارئها، وقد تتسع للإضافة والتفصيل. ومنها الشوارد والأوابد كما تقدّم. 

ولكن مع هذا كله؛ تبقى النقطة الفارقة فيما بين هذا الكلام وأجناسه على اختلاف الدلالة فيه وبين أدب الخطاب النبوى، هى النقطة التي تقف بأدب النبوة عند العصمة التي لا ينطق صاحبها صلوات الله وسلامه عليه عن هوى في حين إنه من الميسور لصاحب الأوابد وأجناسها من زمرة الكلام البليغ أن تكون متعته صادرة عن لهو يشوبه هوى ولا يقصد به التوجيه والتعليم والإرشاد إلى الحقيقية الإلهية، وعن جمال يراه من المحدود المحسوس ولا يراه من أصله الإلهي ومصدره المُفارق، وأن قصد الوحدة في الخطاب النبوى مرهون بصدق العصمة لا النطق عن الهوى بوجه من الوجوه.      

خذ مثلاً على "خرزات النظم" قوله  :" أعبد الله في الرضا؛ فإن لم تستطع ففى الصبر على ما تكره خيرٌ كثير"، فماذا تراك واجداً ؟ إنك لن تجد عبارة أنفع ولا أصدق ولا أعلم بمراد النفوس في مطالب العبودية ولا أكثر توجيهاً ولا أحكم لغة في روح الخطاب من هذه العبارة التي جمعت فى موضوعها خير معانى الكلم وجوامعه كله.

وجوامع الكلم خاصَّة نبويَّة محمديّة فريدة: إصابة الحقيقة من أقرب موطن في أسرع لمحة جُوَّانيَّة تهز الشعور هزة إيمانية عنيفة تتفجر فيها نشوة المعرفة عند العارف بلغة الخطاب النبوى المؤمن بآدابه ومراميه؛ فلئن ظهرت جوامع الكلم عبر تاريخ الإبداع الأدبى يقصد بها المتعة الفنيّة ولا يقصد بها التغيير ضمن الكلمات الموجزة؛ فدّلت إذْ ذَاَكَ على الحكمة أو المثل الذى لا يخلو من نكت البلاغة مشفوعاً بمحسنات التعبير؛ فإن جوامع الكلم النبوى خاصّة محمديّة قصديّة خُلقت لتغيير الأنفس من حال إلى حال بمقدار ما وطنتها على التعلق بالله ورفض التعلق بسواه.

خصوصيةُ الكلام المجموع؛ لا يتأتى لغيره، ولا يُتَعَقد أن غيره يأتي به، والذى يَتَعَمَّقهُ على ديدن الصدق ودأب الإخلاص والتلقى يستطيع تمييزه عمَّن سواه. ففي هذه الخصوصية وحدها تلاقى التميز والتفرد وإعلاء القيمة الباقية في التوجّه وفى العمل على حد سواء ظاهراً غير خفى، وبمقتضاها تتكشف مستويات الكلام فيسهل على الناظر معرفته عن غيره ممّا عساه يندس فيه أو يختلط به ممّا سواه. فليس من جنسه جنس آخر، وليس من موطنه موطن سواه.

يُضاف إلى هذه الخصوصية خصوصية ثانية: وهو أنه معنى كله، مبطون الدلالة مع وضوحها؛ اللفظ فيه قليل وجيز مختصر بغير تطويل، والمعنى عميق وجامع وواسع وفياض. الكلام كله حقائق باطنة لا يمكن التحقق منها على المستوى النظرى وكفى؛ فالمستوى النظرى ليس إلا متعة فكرية تثلج صدر صاحبها وتسعده، ولكن "التحقق" هاهنا من شأنه أن يمسَّ الروح والحقيقة. وليس بالإمكان الوصول إلى ذلك السِّر الداخلى بغير "التجربة العملية"؛ الروحية، المستفادة من وقائع التطبيق، أعني التجربة الفوارة بمقاساة العمل الدائب المتواصل بمقتضى التطبيق لهذه المبادئ ولتلك الأصول التى تتيحها لغة الخطاب النبوى وتسفر عنها معطياته من طريق العبارة ثم الإشارة.

العلاج من مرض الآفات النفسية، والتكامل بين النظر والعمل في فقه الخطاب النبوي دلالة مقصودة لذاتها وهادفة إلى صلاح النفس والواقع. فالعلم النظرى وحده لا خير فيه ما لم يؤدْ بصاحبه إلى غاية عمليّة أو يقوده من حيث بلوغ هذه الغاية إلى التحقق فيها: إصلاح فى النفس والواقع، وفى حياة الفرد والمجموع على التعميم.

ويهمني قبل أن أغادر هذه الخاصيّة إلى سواها، أن أنوّه إلى مدى استفادة علوم التذكية من هذه الخصوصية النبويَّة في تأسيس علم الإشارة على هذه الخاصة النبوية: قصر العبارة واستنباط الإشارة منها، واختصار اللفظ مع رقي المعنى وعمقه سواء كان ذلك في شذرات الطبقات الأولى، أو كان لدى المتأخرين. يظهر هذا كله فى إشاراتهم الرمزية وشذراتهم المبطونة ببواطن العبارة العارفة والملآنة بحيوية الروح الإنسانية والمترعة بتسامى الإدراك الذوقى، فللقوم مدد من "ميراث النبوة" لا يخطئه كل متحقق فى هذه الخصوصية من طريق التذوق لعباراتهم المعرفية وإشاراتهم الذوقيّة.

● وخاصية ثالثة في هذا الحديث: إخفاء الغاية "الخير الكثير". كان يمكن أن يحدِّد هذا الخير الكثير في كذا، وكذا، وكذا، أو أن يقول لك ماذا عساه يكون ذلك الخير الكثير؟ لكنه لم يفعل. غير أنه أخفى الغاية لتدركها أنت وحدك بعد التجربة، ففى التجربة بعد التطبيق غايات تدرك على حسب استعداد المدارك فى المُدْرَك نفسه، لم يشأ أن يطلعك عليها من الوهلة الأولى، لكنه ترك فيك الاستعداد لتدرك؛ لكأنه يقول لك : جَرِّبها بنفسك وتذوق مقاصدها في الطريق؛ ففيك فيك الحقيقة وحدك، وفيك السرّ على التحقيق! وما هذا القول إلا توجّه فقط من جانب الخطاب النبوى لمَا أنت عليه في نفسك. والمدارُ هو أن تعمل لتصل: أن تتغير بالعمل وبالمجهود، ولن تصل إلى الحقيقة ولن تتكشف سرّها فيك بغير عمل يرقيك إلى منازل الوصول.