- أصابت هزيمة 67 دنقل بالألم والوجع هو وكل أترابه، فقد كان المصاب جللًا، والانهيار لا يتوقعه أحد، والتقهقر لا سبيل لإيقافه، فشرع يشدو كبجعةٍ تشرف على الاحتضار
- توالت قصائد أمل دنقل معبرة عن واقع أمتنا المعيش، ومستقبلها المبهم فى ظل قراراتٍ رآها شاعرنا خاطئة، بإبداع متفرد يضاف إلى رصيدنا الإبداعى العربى، ليصبح من حقنا أن نتباهى به ونفخر
لم يكمل أمل دنقل دراسته الجامعية، وآثر مغادرة كلية الآداب منذ العام الأول، ليلتحق بمحكمة "قِنا" ـــ بصعيد مصر ـــ كموظف أراد تحصيل راتبٍ يعينه وأسرته على المعيشة والحياة، لكنه سرعان ما ترك العمل بالبناية القضائية، ليتقدم إلى مصلحة الجمارك بالسويس ثم بالإسكندرية ليشتغل فترة قليلة من الزمن، بعدها وجد مبتغاه فى "منظمة التضامن الأفرو آسيوى"، فسعى إليها وعمِلَ بها سنوات لم تَطُل.
وُلِد شاعرنا عام 1940 بقرية "القلعة" التابعة لمركز "قفط" بإقليم "قِنا" التاريخى، ذلك الإقليم الذى شيَّد القدماءُ على أرضه مَعْبدَى دندرة وشنهور، كما أقيم فيه مسجد العارف بالله "عبدالرحيم القنائى"، وبعض الأديرة.
تأثر أمل دنقل ـــ في بداياته ـــ بأبيه الذى كان يكتب الشعر العمودى، ويمتلك عشرات الكتب في الأدب والفكر والفقه والتراث وغيرها، فرَاحَ شاعرنا ينهل من مختلف العلوم والمعارف، ليتسع أفق ثقافته وتُعَمَّق ورؤاه.
كانت الصدمة الكبرى في انكسار حزيران سنة 1967، فقد تهاوت الآمال والأحلام أمام عينيه، وأبصر فجيعة اصطدام القدرات المحدودة بالطموحات العريضة، فصار الحزن شِرعة وشريعة، ليصدر ديوانه الأول (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة)، متحسرًا على عربيتنا الكسيرة وعروبتنا المهزومة، ويُعبِّر عن ذلك بقوة شعرية:
أيتها العرافة المقدَّسةْ
جئتُ إليكِ ... مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ
أسأل يا زرقاءْ
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدى المقطوع... وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاةً على الصحراء
كان من البديهى أن تصيب الهزيمة شاعرنا بالألم والوجع هو وكل أترابه، فقد كان المصاب جللًا، والانهيار لا يتوقعه أحد، والتقهقر لا سبيل لإيقافه، لذا فقد شرع يشدو كبجعةٍ تشرف على الاحتضار:
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا
والتمسوا النجاةَ والفرار
ونحن جرحى القلبِ
جرحى الروحِ والفم
لم يبق إلا الموتُ
والحطامُ
والدمارْ
ورغم ماتحقق من انتصار في أكتوبر 73، إلا أن شاعرنا بدا وكأنه يقرأ المستقبل، فصاغ ديوانه "العهد الآتي" ليُطْبَع بالعاصمة اللبنانية (بيروت) ويَصْدُر عام 1975، غير مكترثٍ بما تحقق من نصر فى هذا السبيل، وذلك لأنه تنبأ بما ستؤول إليه الأحداث من زيارة للرئيس السادات إلى القدس، وعقده لمعاهدة السلام الشهيرة بـ "كامب ديفيد" بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما رأى فيه شاعرنا تفريطًا لا يمكن السكوت عليه أو التهوين من شأنه، فكتب رائعته الشعرية "لا تصالح" متوكئًا على شطرٍ من تراثنا العربى المجيد، ليشجب مساعى الاستسلام، ويدين التهاون والذل والخذلان:
لا تصالحْ
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى
وترتفع لاءات القصيدة رافضة للصلح، وكاشفة ـــ بالحجج والبراهين ـــ عن مساوئ القبول بالصلح ، ومؤكدة على ألا مبرر ـــ مُطلقًا ـــ لمثل هذه المصالحة:
لا تصالح على الدم.. حتى بدم
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
ويشدد أمل دنقل على رفض الصلح مهما كانت الإغراءات واختلاف زوايا الرؤية، فالغدر هو سِمَة رئيسة لدى العدو، لا يمكنه التفريط فيها أو التنازل عنها:
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك
فلا تبصر الدم
فى كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف
سوف يجيئك من ألف خلف
وتتوالى قصائد أمل دنقل معبرة عن واقع أمتنا المعيش، ومستقبلها المبهم في ظل قراراتٍ رآها شاعرنا خاطئة، وهاهى قصائده يتغنى بها متذوقو العربية في كل مكان، فقد صار الجميع يعرف قدْر الشاعر الكبير وقدرته على صياغة إبداع متفرد يضاف إلى رصيدنا الإبداعى العربى، ليصبح من حقنا أن نتباهى به ونفخر.
ويداهم المرض اللعين (السرطان) شاعرنا ليرقد فى معهد الأورام مقاومًا لشراسة المرض في حلبة الصراع المفتوح، ويصر أمل على المضي قدُمًا في كتابة القصائد ـــ القصيدة تلو الأخرى ـــ وفي غرفته رقم (8) يكتب نصوصًا تشتبك مع الواقع من ناحية، وتغوص في أعماق حالته الصحية من ناحية أخرى، وكأنه يربط بين العام والخاص، أو يمزج الذاتى بالموضوعى.
وقد أسفر عن إقامته بالمشفى الحزين ديوانٌ شجى اختار له عنوانًا مائزًا (أوراق الغرفة 8).
يقول في قصيدته الجنوبى":
وجهٌ
كان يسكن قلبى
وأسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير
ونصف الرغيف
ونصف اللفافة
والكتب المستعارة
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء
ولكنه يعد يومين مزق صورتها
واندهش
وفي قصيدته الأثيرة "ضد مَنْ" يرصد فيها حالته بتدهورها، والأصدقاء الزائرين له بوطنيتهم وشفقتهم عليه، وكأنه ينعي نفسه بعد طول مرض، ورغم الأوجاع والآلام إلا أن الشاعر لم يغيب عنه ذِكْر الوطن:
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبى الوَهَنْ
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرنى بالكَفَنْ
فلماذا إذا متُّ.. يأتى المعزونَ مُتَّشِحينَ
بشاراتِ لونِ الحِدادْ
هل لأنَّ السوادْ
هو لونُ النجاة من الموتِ
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ
ضِدُّ منْ؟
ومتى القلبُ في الخَفَقَانِ اطْمأَنْ؟!
بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء
الذينَ يرون سريرى قبرا
وحياتى.. دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!
يقول أمل دنقل معبرًا عن ذاته وعن مشهدية اللحظة: كنتُ شهيداً منذ ولادتى. وما أن كبرت مترعرعًا بين السيوف والبنادق والهتافات والرماح والأعاصير والآلام والأغانى، حتى أدركت حقيقة الشهادة بالمفهوم المستعمل، استعمالاً عاماً. فأن يصبح المرء شهيداً، ليس بالضرورة أن يموت، ويتحول إلى أفيش عند حزب، أو أن يكون بوستراً يتصدر مظاهرة فى ميدان التحرير.
ويدلى بشهادته بشأن الإبداع الشعرى فى حوار معه فيقول: إن الشعر فى جوهره هو إعادة اكتشاف للعالم المحيط بك، ثم إعادة بنائه كما يجب أن يكون، والشاعر لا يستطيع أن يرى العالم بغير عينه.
وفي نهايات الربيع عام 1983، يسقط شاعرنا العظيم أمل دنقل فى حلبة المصارعة مع مرض السرطان اللعين، تاركًا لنا ثراءً شعريًا سيظل ينبض بالرهافة والرفض والانتماء.