الجمعة 19 ابريل 2024

عودة الوعى

مقالات18-5-2023 | 10:13

قبل أيام عرضت منصة نتفيلكس فيلمها الوثائقى "الملكة كليوباترا" وفى البداية العمل المعروض لا ينتمى لمنهجية الأفلام الوثائقية المباشرة بل هو عمل ينتمى لفئة "الديكودراما" او الوثائقيات الممزوجة بالمشاهد التمثيلية وهذه النوعية تتيح لخيال صانعيه مساحة ليست قليلة بإضافة أوحذف أحداث تخص الفترة أوالشخصيات التاريخية التى يتناولها العمل. 


بالتأكيد هناك مئات النقاد المتخصصين الذين يستطيعون تقديم تقييمًا فنيًا محكمًا للعمل سواء بالسلب أو الإيجاب وأيضا هناك ملايين المشاهدين الذى من حقهم تقييم العمل المعروض وأنا كمشاهد محب للأفلام الوثائقية ومتابع لها أقول بوضوح أننا أمام عمل رديء الصناعة من الناحية الفنية ومتحيز فى محتواه لرؤى زائفة ويصل هذا التحيز إلى درجة البلادة الفكرية.


من الناحية التاريخية فأساتذة التاريخ وعلماء الآثار يستطيعون بسهولة كشف كل ماهو زائف داخل العمل المسمى الملكة كليوباترا وتقديم الحقيقة ولكن هناك فرضية تطرأ على ذهن المشاهد العادى من أمثالى وهى لو قررت جهة ما أن تنتج وثائقيا عن حياة الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا وهى عاشت فى القرن العشرين أو الملكة إليزابيث الأولى التى عاشت فى القرن السابع عشر هل يحق للجهة المنتجة الاستعانة بممثلة سمراء البشرة بحجة حرية التعبير أو أن الحقائق التاريخية قابلة للتأويل؟ 


بعيدًا عن هذه الفرضية فالاستخفاف بالحقائق التاريخية داخل هذا العمل يبدأ من اللحظة الأولى على لسان " البروفسيرة "   شيلى هايلى من كلية هاملتون والمفترض أن " البروفسيرة" متخصصة فى الدراسات التاريخية لكنها تفاجئنا بأمرغريب أن جدتها كانت الملهمة لها وسألتها الجدة ماذا تدرسين؟ فأخبرت جدتها أنها تتعلم عن الإغريق والرومان واليوم نتعلم عن كليوباترا تقول شيلى هايلى "أتذكر ماقالته لى بوضوح ..شيلى لا يهمنى ما يقولونه لكى فى المدرسة كليوباترا كانت سوداء " على هذا الأساس تتغير الحقائق التاريخية بناءً على تصورات جدة "البروفسيرة " هايلى وتسير منصة نتفيلكس وصناع الوثائقى وراء مقولات الجدة الطيبة !


الحقيقة أن الأمر ليس بهذه البساطة أو التصور الساخر فشيلى هايلى تنتمى لـ Hamilton College فى نيويورك وهى جامعة تساند كما يدعون الأفكار "التحررية " من أجل مراجعة المعتقدات وفهم الهويات وبعيدًا عن هذه المصطلحات المنمقة فجامعة هامليتون ومثيلاتها المنتمية إلى اليسار المعولم ونشطاء تيار الـ woke فى الولايات المتحدة يشنون أكبر حرب ثقافية على الحضارة المصرية من أجل سلب هذه الحضارة من شعبها ثم تجزيئها وتوزيعها على عديمى الهوية والحضارة .


لنفهم أبعاد هذه التركيبة التى تحالفت لشن تلك الحرب يكفى أن نعرف أن الملياردير جورج سورس ومنظمته "مجتمع مفتوح" تطل بوجهها الكئيب على جامعة مثل هامليتون بالتمويلات المليونية وليس هذه الجامعة فقط بل كل هذه التيارات وعصابات سلب ونهب الحضارات تتلقى التمويلات لنفس الغرض وللأسف هناك من يظنهم البعض أصدقاء ولكنهم يتعاونون مع هذه العصابات ضد حضارتنا العريقة. 


تبدو تداعيات هذه الحرب خطيرة على حضاراتنا وهى بالفعل خطيرة لكن هذا التحالف الشرير من عصابات نهب وسلب الحضارات قدم لهذه الأمة خدمة جليلة من خلال هذا الوثائقى رديء الصناعة زائف المحتوى، فهو كان إشارة التنبيه لكل مصرى على خطورة ما يخططون له وأن الحضارة والهوية المصرية أمر غالى ونفيس لا يقدر بثمن يطمع الهكسوس الجدد فى الاستيلاء عليه.


كانت التحذيرات تتوالى من داخل هذا الوطن بأن هناك إعصارًا من الزيف تحضر له هذه العصابات تلوح عواصفه فى الأفق ولكن لم تكن هناك استجابة أو انتباه من المصريين الذين يحملون فى جيناتهم أكثر الهويات أصالة لأعظم الحضارات التى أنتجها العقل البشرى، عدم الاستجابة والانتباه راجعة لعدم إدراك عظمة هذه الحضارة من المجتمع ذاته .


سبب عدم الإدراك بعظمة هذه الحضارة ،الهجمة الشرسة التى تعرض لها المجتمع فى بداية سبعينيات القرن الماضى من أجل زرع هوية بديلة داخله فقد تعرضت الأمة المصرية لأقسى وأشرس هجمة تستهدف هويتها الأصيلة واستبدالها بهويات بديلة منتحلة غريبة عن روح هذا المجتمع المتجذر تاريخيًا منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام. 


شن هذه الهجمة أعداء الخارج بالتعاون مع عملاء الداخل لتسيطر على هذا المجتمع غيوم سوداء من الخرافة والجهل والتشدد بقيادة الفاشية الإخوانية وأذنابهم من المتسلفة وبتوجيه دقيق من الخارج تم استخدام الفاشيست والمتسلفة والسياسيين الذين لهثوا وراء المكاسب الزائلة على  حساب هوية هذه الأمة فساروا فى الركب المتآمر غير عابئين بكارثية ما يفعلونه، عندما اكتشف السياسيون وقتها حقيقة الجريمة والمؤامرة التى تنفذ تجاه أمتنا وهويتها كان الوقت فات وانطلقت الرصاصات بعد أن مهدت لها الأفكار الإرهابية السوداء الطريق.


لم يكتف الفاشيست وأذنابهم ومن يحركونهم بمحاولة صنع هوية بديلة بل خلقوا حالة من العداء بين المجتمع وهويته الأصيلة وحضارته لدرجة أن التغييب وصل بالبعض إلى تكفير الحضارة المصرية العظيمة واعتبارها رجس من عمل الشيطان.


هذه الحضارة التى عندما تتأمل الأهرامات برسوخها الشامخ تدرك من الوهلة الأولى أنك أمام منجز علمى أسهمت فيه علوم الهندسة والفلك والإدارة وامتلك وأدار المصرى القديم هذه العلوم بكفاءة استطاعت إخراج هذا الصرح العلمى لنا وللبشرية ولا يزال شاهدًا بوجوده على التراث العلمى الفريد والفذ الذى امتلكته الحضارة المصرية القديمة. 


تكشف البرديات والنقوش الموجودة على المعابد المصرية طبيعة العقل الذى كان وراء هذه الحضارة فهو عقل علمى نقدى بامتياز ولم يكتف هذا العقل بإنجازاته فى العلوم التطبيقية بل انطلق ليغطى أيضا مجالات العلوم الإنسانية من تشريعات قانونية وفنون وآداب وفلسفة وقدم أيضا النظريات فى إدارة الدولة .. الدولة هذه الفكرة الإنسانية الفذة التى قدمها العقل المصرى للمجتمع البشرى لكى يدير وينظم حياته على هذا الكوكب  والتى لولاها  لظل المجتمع البشرى يعانى من الفوضى.


عندما تذهب الى صعيد مصر وتحديدًا مدينة أخميم بمحافظة سوهاج ستجد تجسيدًا لرؤية المصرى القديم تجاه المرأة فمن أبدع ما نحته الفنان المصرى القديم تمثال الأميرة ميريت آمون أى حبيبة آمون ابنة الملك رمسيس الثانى والملكة فيما بعد.


تشاهد تفاصيل التمثال الرقيق فتحل أمامك شفرة رؤية العقل المصرى تجاه المرأة فجسد الأميرة الرشيق صوره الفنان المصرى بدقة وانضباط لم يتعامل مع جسد الأميرة ميريت أنه عورة يجب إخفاؤها بل اعتبر هذه المحبوبة رمزًا للجمال والرقى الإنسانى.


للأسف هذا المنجز الإنسانى الفذ أنكره المصرى الحديث طوال خمس عقود منذ بداية السبعينيات وأسهم العداء والهوية البديلة المصطنعة فى إضعاف مناعة العقل المصرى عند مواجهة أى هجمات أخرى تستهدف حضارة أمتنا العظيمة، لكن وسط غيوم الضعف ودوامات اليأس كانت هناك إشارات الأمل التى انطلقت مع أنشودة أيزيس فى موكب نقل المومياوات إلى متحف الحضارة فى الفسطاط .


صمت المصريون طويلا وهم يستمعون لصوت أجدادهم القادم من آلاف السنين ليذكرهم بعظمة ما يحملونه فى جيناتهم ووجدانهم من عظمة حضارتهم أصبح هناك سؤال بعد انطلاق أنشودة الأمل هل آن الآوان لتتحرر عقول هذا المجتمع من الهويات البديلة المنتحلة ويعود إلى هويته الأصيلة ؟


ظلت الإجابة معلقة إلى أن جاءت الهجمة الشرسة الأخيرة ورأس حربتها هذا الوثائقى الملفق، الحقيقة لم يتوقع أكثر المتفائلين قوة رد الفعل  من المصريين للدفاع عن حضارتهم التى تتعرض للسلب والنهب على يد هذه العصابات وقرروا خوض معركة شرسة ضد هذه العصابات على ساحات السوشيال ميديا فهى الوسيلة المتاحة أمامهم للرد على هذا الإفك والزيف.


الأكثر أهمية أن من قاد هذه المعركة شباب أدركوا بوعى كامل حقيقة ما يدبر تجاه هويتهم ولم يكتفوا بالنقد أو العودة إلى تاريخهم العظيم والرد على الأكاذيب بالحقائق أو قيادة حملات المقاطعة والمطالبة بمنع عرض هذا الزيف لكنهم استعادوا منحوتات وتماثيل أجدادهم العظام ووضعوا صورهم بجانبها ليثبتوا للجميع دقة الشبه بين الأحفاد المعاصرين والأجداد صانعى أعظم حضارات البشرية.


فى ساعات قليلة كانت ساحات السوشيال ميديا فى يد شابات وشباب مصر ويحققون أعلى درجات المتابعة والتفاعل بأرقام مليونية وسط دهشة العالم وذعر عصابات سلب ونهب الحضارات ، ظنت هذه العصابات أن التمهيد الذى قام به الفاشيست خلال خمس عقود من خلق العداء بين المصرى وحضارته سيسهل عليهم الأمر لكن دائما ما تدهشك هذه الأمة العريقة ففى اللحظات الفارقة من تاريخها يتحرك عقلها الجمعى ويصدر قرارًا لا رجعة فيه بتحقيق الانتصار على العدو.


ما قام به المصريون من الدفاع عن حضارتهم وهويتهم يجب ألا يمر سريعًا أو ننتظر هجمة أخرى لنرى رد الفعل بل يجب أن يتحول إلى عمل مؤسسى دائم يشارك فيه هؤلاء الشباب برعاية الدولة فى الشهر القادم ستحل ذكرى ثورة الـ 30 من يونيو ويجب أن نحتفل بصورة مختلفة ليس فقط التذكير بالانتصار على الفاشية والعصابات الإخوانية بل يكون الاحتفال بحضارتنا العظيمة وهويتنا الأصيلة التى صنعت يونيو، يجب أن تتردد أناشيد ايزيس فى كل ربوع مصر، يجب أن تخرج كل كنوز حضارتنا العظيمة إلى هذا الشعب فى صورة وثائقيات ومطبوعات ومعارض واحتفالات وفنون العمارة، يجب أن يصبح تاريخنا العظيم حيًا يسمع ويرى ويقرأ فى مدارسنا وجامعاتنا، يجب أن يكون الاحتفال بيونيو هذا العام إعلان الانتصار الكامل على الظلامية والإرهاب الأسود ونهاية حالة العداء و الهويات البديلة، الاحتفال باستعادة الوعى بهويتنا الأصيلة التى تستمد وجودها من حضارة عظيمة لن تستطيع عصابات نهب الحضارات سلبها منا لأن هذه الحضارة تحيا فينا.