كانت منى بنت عم إبراهيم صديقة لزوجة أخي في المعهد، ونظرا لأنها من صعيد مصر العظيم ومن عروسه الجميلة منيا الفولي "المنيا "واللهجة قريبة من اهل سيناء، فقد حدث تقارب شديد وكانت تستضيفها أحيانا لتغير أجواء بيت الطالبات، وعندما تخرجت تم خطبتها إلى الاستاذ عرفة وهو يعمل بالتعليم، وجاءت مع والدها لتشتري بعض مستلزمات الزواج من القاهرة وأصر أخي على استضافتهم حيث أنه من العيب في عرفنا أن تترك ضيفك يذهب إلى لوكاندة، وبرغم صغر الشقة التي كان يعيش فيها واحل فيها ضيفا لحين التحاقي بالمدينة الجامعية التي تعثر أمرها وانا في بداية حياتي الجامعية...وقد استقبلنا عم إبراهيم ذلك الرجل الخمسيني داكن البشرة كسمرة طين النيل ودائم الابتسامة برغم شظف العيش بالترحاب كأولاد البلد.. وقد كان يعمل سائقا على سيارة نقل أظن أنها ملكه...لكن سماحة الوجه وطيبة القلب التي انعكست على قسمات وجهه تشعرك أنك تجلس إلى أحد الحكماء واستأذنت أنا لأبيت عند أحد الاصدقاء بحجة أني ذاهب لأذاكر معه...وأصر عم إبراهيم أن نحضر فرح منى في مطلع الصيف وكنا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وقرر أخي وزوجته الذهاب ،وكان اصرار عم إبراهيم شديدا في أن أشاركهم "ولا احنا مش قد المقام" ولم يكن في هذا الوقت القطار وسيلة سهلة واضطررنا أن نركب السيارة البيجو والتي كانت تسمى النعش الطائر من كثرة الحوادث وسوء الطرق...واستعرت من ابن أخي الكبير حسن والذي كان يماثلني في البنية برغم انه يكبرني بسنوات جاكت كحلي بقلم نبيتي بنفس لون بنطلون شارلستون كنت اعتز به وقميص سيمون وببيون اسود لحضور الفرح وكان وقتها الشعر الطويل والسيشوار موضة العصر...وحضرنا حفل الزفاف في نادي المعلمين ...ولأني كنت احيانا ادندن مع نفسي برغم اني لا أملك صوتا جميلا...فوشت بي زوجة اخي لأهل العروسة أن أغني اغنية على سبيل المجاملة للعروسين واصروا وكانت هناك فرقة موسيقية متواضعة فكان لا مناص من الأمر ..وقلت في نفسي بسخرية جرب نفسك يمكن تكون "ضربة حظ" ووقفت على المسرح بشرط تغنوا معايا..والتقطت من أرشيف الأغنيات أغنية محرم فؤاد كتبها مأمون الشناوي وبلحن رشيق لمنير مراد ..من كام ليلة من كام يوم واحنا بنستنى ده اليوم...شمع الفرح علينا منور ونسينا مالفرحة النوم...وحفظوا المذهب وغنوه معي...وردة جميلة جوة خميلة من الازهار..من الازهار.. رقة وخفة تخلي ليلتنا نور ونهار..نور ونهار...وعدت على خير الحمدلله وما كنش في بيض ممشش ولا طماطم على المسرح...وبعد الفرح استمتعت بفسحة على الحنطور على كورنيش المنيا الرائع مع نفسي...وعدت إلى بيت عم إبراهيم حيث مكثنا ليلتنا في ضيافته وفي الصباح كانت الرحلة إلى شرق النيل بصحبة أخو العريس وبعض من أسرة عم إبراهيم واستمتعت بجمع الحطب واشعال النار وتسخين الطعام وشاي النار الجميل حيث كانت المنطقة صحراء إلا من بعض أحواض الخضروات والتي أصبحت الآن المنيا الجديدة وبها أروع وأجمل الطرق والمباني وبعض المستشفيات الجامعية ..وفي المساء عدنا إلى ذلك البيت العتيق الذي يجاور مسجد سيدي الفولي حيث السهرة مع الاسرة الصعيدية.. وقد اوعزت الابنة الشابة التي تلي منى للحضور بسماع صوت أبيها وهو يغني حيث أنه يمتلك صوتا جميلا...وقد كان يستند على متكأ وأمامه منقد النار وبراد الشاي ويلبس جلبابه الأزرق وطاقيه من نفس القماش ...وانطلق يشدو كفاية ياعين...ياعين شفتي وحبيتي وقلت للقلب ميل واعشق.. ياعين بيعي اللي باعوكي.. ياعين انسي اللي نسيوكي ويكفاكي بكى ياعين...بسطر تقولي راحوا فين...وسطر تقولي ليه غايبين.....واغرورقت عيناه..وهو يكمل...بتبكي على اللي راح منك..ومن امتى اللي راح بيعود..ياخوفي يدبلك حزنك..ماتلقيش للدموع دي خدود..خدود زاهية طفيتيها..وذبلتي الحياة فيها..وياريت اللي راحوا جايين..كفاية ياعين ..ولم يتمالك نفسه..وأوجع قلوبنا أكثر برغم صوته الشجي الجميل الذي لم يكن بحاجة إلى موسيقى أننا عرفنا من ابنته أنه استدعى بذاكرته أخيها الذي فقدوه شابا...وعرفت فيما بعد أن هذه الأغنية غناها فريد الاطرش في رثاء أخته اسمهان من كلمات يوسف بدروس... وهكذا غنى عم إبراهيم وبقدر ما امتعنا.. أوجعنا وليته ما غنى.