بقلم الأستاذ سلامة موسى
ليس أشق علي المؤرخ من تعريف العظمة وتعيين العظماء. وقد خطر للكاتب الكبير الأستاذ سامة موسي أن يختار خمسة من العظماء الحاضرين في مختلف ميادين الحياة في مصر مبيناً أوجه عظمتهم. وإنه ليسرنا نشر هذا المقال الحديث الأسلوب في الصحافة العربية مع ترك تبعاته علي الكاتب.
المحرر
فشت فى الصحف الغربية عادة جديدة هى إحصاء العظماء الأحياء وبيان وجوه العظمة فى كل منهم. وفى هذا الموضوع ما يغرى الكاتب بالكتابة لأنه يجمع بن البحث عن المعايير التى تعاير بها العظمة وبين تواريخ الأشخاص والتفتيش فى العناصر التى تتألف منها أخلاقهم وعبقرياتهم وذلك لأن البحث فى السياسى العظيم أو الوطنى العظيم يقتضى البحث أيضاً فى السياسة أو الوطنية العظيمة.
ومما يضلل الباحث فى هذا الموضوع أننا كثيراً ما نميل إلى الإكبار من النجاح فننسب إليه العظمة مع أن العظيم قد تكون فى نفسه أسمى عناصر العظمة ثم مع ذلك يخونه التوفيق. فهذا مثلاً الرئيس ولسون ظهر فى عالمنا ساطعاً كالشهاب ولكنه هوى أيضاً كالشهاب لا لنقص فى عظمته بل لأن عالمنا كان دون هذه العظمة. ومع ذلك فإن الغرس الذى غرسه سينمو ويزكو. وما كانت هزيمة ولسون أمام دهاة السياسة فى سنة 1919 إلا نحو هزيمة السيد المسيح أمام المكرة من الكهنة فى أورشليم. وكلنا الآن يعرف بعض مضى ألفى سنة تقريباً أية المبادئ نجحت ولمن كانت العظمة: مبادئ المسيح وعظمته الساذجة أم مبادئ الكهنة ومكرهم؟
ولكننا نحتاج إلى معايرة العظمة بمعيار ما. والعظمة فى العلم قد تختلف عن العظمة فى السياسة غير أن هذا الاختاف وهمى أكثر منه حقيقى فالعظيم يحتاج قبل كل شىء إلى خلق عظيم يدفعه إلى أن يدأب فى بلوغ قصده ويثابر مع توقع الفشل ومجابهة المشاق على السير إلى غايته. وليس شك فى أن العبقرية وسيلة من وسائل العظمة ولكن ليس كل عظيم عبقرياً يطير إلى غايته ويبلغها كأنه قد أوحى إليه فتجسمت فيه قوة فوق مقدور البشر. فقد تقنع العظمة بالنبوغ العادى يسعى على القدمن فى كد وجهد ولكن أيضا فى مثابرة وثبات بلا أجنحة يطير بها ولا إلهام يدفعه ويغذوه بروح الآلهة.
وميدان البحث فى العظماء يتسع إذا نحن نظرنا إلى الأموات منهم والأحياء ولكن حصر العظمة فى الأحياء يضيق ميدان البحث. فقد كان يسهل على أن أذكر سعداً وقاسم أمن وعرابياً ولكنى مضطر إلى تركهم والاقتصار على الأحياء. ومما يضيق البحث أيضا أن الميادين التى يستبق فيها العظماء قليلة فى مصر إذ ليس عندنا ميدان للاختراع أو الاكتشاف أو البحث العلمى إلا ما ندر ونزر.
وظروفنا الحاضرة فى جهادنا مع الإنجليز تجعل ميدان السياسة أوسع الميادين للتبريز والعظمة بل هذا الميدان يستوعب أحياناً كفاياتنا ولا يدع لنا شيئا منها نوجهه إلى ميادين النشاط الذهنى الأخرى فمعظم أدبائنا مثا تستوعب السياسة كل جهودهم أو معظمها. ولذلك فإننا أول ما نلتفت إلى العظيم وننشده نلقى الطريق مسدوداً علينا بطائفة من السياسيين كلهم ظاهر متصدر ولكننا عندما نفاضل ونمايز فلا نشك فى أن الأولية يعترف بها.
لعبد الخالق ثروت باشا فقد كان إلى الآن عظيم السياسة المصرية غير مدافع وظلت الأمة تتطلع إليه فى أزماتها الماضية تطلع المسافرين على البحر إلى الربان الماهر. فقد فادى وطنه بنفسه ووضع كرامة الباد فوق كرامة النفس ورضى بأن ينسى كلمات الازدراء والكراهية من خصومه وبسط يده للوئام والسام عندما رأى الوطن يحتاج إلى كتلة متماسكة من الأحزاب أيام الانتخاب الأخير والأعداء فى الداخل والخارج يتحفزون للبطش بنا فاستطاع سعد بهذا الاتفاق أن ينجح بمساعدة خصمه القديم فى مجابهة المحتلين والسير بسفينة الدولة بعد الصدمة الأخيرة التى حدثت عقب اغتيال السردار. وإنما ترجع عظمة ثروت باشا إلى أنه استطاع أن ينتصر على نفسه فى حين أن رجا مثل عبدالعزيز باشا فهمى لم يستطع ذلك إلى الآن فما يزال وادعاً مرتاحاً إلى عزلته والزمن زمن جد وكفاح. ولكن لثروت باشا زيادة على هذا الخلق العظيم عبقرية بديعة فى تخطى العقبات ومحايدة العراقيل ووضع الندى فى موضع السيف ومعرفة ما لكل من الصراحة والمواربة من فائدة.
وبهذه المرونة استطاع أن يستخرج من الإنجليز تصريح 28 فبراير الذى هو مادة استقلالنا وإن كانت هذه المادة غير دسمة. ولكنه فى هذا التصريح أخذ ولم يعط. ثم استطاع أن يحقق رغبة عرابى فى إيجاد الدستور الذى أوجد لنا البرلمان وحقق بعض الأمانى الوطنية. وصعابنا كثيرة الآن وجهادنا فى المستقبل سيكون أعظم مما كان فى الماضى ولذلك فإننا سنحتاج كثيراً إلى مرونة ثروت باشا التى بها نتقى مثل تلك الصدمة القاسية التى انكسر فيها عرابى وكل الرجاء ألا يعتزل السياسة اعتزال عبدالعزيز فهمى باشا فالباد مازالت تحتاج إلى خبرته وحنكته.
وعلى ذكر عرابى نقول إنه كان له مشروعان عظيمان: أحدهما العناية بالتعليم وترقيته. وثانيهما إنشاء بنك وطنى. وقد بدأنا فى تحقيق هذين المشروعين على يد رجلن هما أحمد لطفى السيد بك وطلعت حرب بك.
فأولهما وهو الأستاذ: أحمد لطفى السيد بك هو فى نظرنا ثانى العظماء الأحياء فى مصر وهو يدير الآن الجامعة المصرية. ولم يكن عرابى يطمع إلى إيجاد جامعة بل الأغلب أنه لم يكن يدرك معناها وكان قصارى أمانيه أن يرى التعليم الأولى منتشراً.
ولكن فضل الأستاذ لطفى السيد لا يقتصر على إدارة الجامعة يسوسها الآن بين أمواج صاخبة تريد أن تعصف بها مع أنها المعهد الذى نربى فيه رجال الدولة فى المستقبل بل يرجع فضله إلى أنه بان من بناة الوطنية المصرية تلقاها حوالى سنة 1907 وهى مشتتة الأهواء قد بعثرها الحزب الوطنى فجعلها شائعة فى الدولة العثمانية أو العالم الإسامى فقام لطفى السيد يجمعها من جديد ويحصر أطرافها فى حدود مصر الجغرافية ويصرح بن الشتائم والإهانات هذا التصريح الهائل الخطير بأن مصر هى للمصريين فقط وليست للأتراك أو للإنجليز وفتح عهداً جديداً للصحافة المصرية الراقية بأن أنشأ «الجريدة » وهى أول صحيفة صدرت عن القاهرة لا تعتمد على فرنسا أو تركيا أو إنجلترا أو الخديو ولا تعتمد على السباب فى الجدل فخلقت مما يشبه العدم رأياً عاماً يخدم المصالح المصرية فقط ولا يتطوح فى مغامرات سخيفة عن مساعدة هذا العنصر أو ذاك. ثم ألحت فى طلب الدستور ودأبت فى ذلك ثمانى سنوات بلا انقطاع وكادت طول هذه المدة تنفرد بهذا الطلب.
وانضم الخديو إلى الإنجليز فى سياسة «الوفاق » المشهورة لأنه رأى أن حركة الدستور ستقلل من سلطانه وأخذ ينشر بين الناس أن حزب الجريدة «حزب الأمة » هو حزب الإنجليز. ولكن قادة الأمة كانوا أذكى من أن تجوز عليهم شبهات الخديو وحزبه.
ولطفى السيد يشبه ثروت فى كراهة العنف واصطناع المرونة فقد حدث حوالى سنة 1908 أن الإنجليز وضعوا على مدرسة الحقوق ناظراً إنجليزياً يدعى المستر هيل وكان هذا الناظر يسافر كل عام إلى فرنسا ويتقدم للامتحان فى الحقوق الفرنسية التى هى أصل الحقوق المصرية فيرسب فى الامتحان فى مادة القانون الجنائى. وأخذ لطفى السيد يطلب فى الجريدة إخراج هذا الناظر من المدرسة لعجزه عن فهم الدروس التى يشرف على تدريسها للطلبة.
ولكن الإنجليز لشرههم إلى المناصب العليا ورغبتهم فى الاستئثار بها لم يذعنوا لهذا الطلب. فعمد لطفى السيد إلى نوع من المكافحة السلمية يشبه خطة المقاومة السلبية التى يتبعها غاندى الآن فى الهند وذلك بأن أنشأ فى دار الجريدة فصلاً لتعليم طلبة الحقوق مادة القانون الجنائى على أشهر الأساتذة المحامن مثل أحمد لطفى وغيره. فكان الطالب يخرج من مدرسة الحقوق فى آخر النهار فيذهب إلى دار الجريدة حيث يتلقى درساً قد اعتاد ناظر مدرسته أن يرسب فيه .
وكان المستر هيل يتجرع هذه الكأس المرة وهو صامت. وعرف الإنجليز عندئذ فى لطفى السيد تلك اليد الحديدية يكسوها قفاز من المخمل. فلهذا الخلق السامى ولهذا البناء الوطنى الذى بناه لطفى السيد يجب أن نعده ثانى العظماء الخمسة فى مصر. أما الثالث فهو بلاشك: طلعت بك حرب لأنه هو الذى حقق مشروع عرابى فى تأسيس بنك وطنى وهو أول مصرى رأى بعن بصيرته أن الزراعة لا تكفينا وأننا يجب أن نعتمد على الصناعة ومن النوادر التى تحكى عن سنة 1919 أن رشدى باشا كان يناقش المستشار المالى المستر برونيات عن كفاية المصريين لحكم أنفسهم فصاح به: وهل يدرى المصرى شيئا من الأعمال المالية فى البورصات؟ ولم يكن رشدى باشا يستطيع الرد الذى يشرف المصريين فى ذلك الوقت ولكنا كلنا نستطيعه الآن. والفضل فى ذلك لطلعت حرب وحده.
فطلعت حرب دخل فى ميدان الأعمال الحرة ورفع كرامتنا جميعا بأنه أنشأ هذا البنك بعد أن وضع ترسيمه فى ذهنه وأقنع الأمة بالاشتراك فى تأسيسه وكان بعض الرؤساء ممن قضى الحظ بأن يكونوا رؤساء يثبطونه. ولكن كان فى قلب الرجل جذوة قدسية من الوطنية والشرف فدأب حتى تكلل عمله بالنجاح وقام البنك بناءً شاهقاً هو رمز الكرامة الوطنية.
وبهذا البنك وبأشباهه فى المستقبل سيتحقق لمصر هذا الاستقلال الاقتصادى الذى كان ضياعه منا أيام إسماعيل أول الوسائل لدخول الأجانب فى شئوننا ثم صار بعد ذلك حجة للاحتلال الإنجليزى. وفضل طلعت بك حرب يزداد قدراً إذا عرفنا أنه حرث أرضاً بكراً لم يحرثها من قبله مصرى. فللسياسة والصحافة رجالها وميادينها.
أما الصيرفة فميدان غريب عن مصر ولذلك فإن دخولنا فيه كان بمثابة الفتح وراية الشرف فى هذا الفتح هى لطلعت حرب. ولو أن مثل هذا البنك كان فى مصر قبل أربعين سنة لكنا الآن من أسعد الأمم يعيش فلاحنا سيداً فى أرضه ولنا المصانع والمتاجر الرابحة.
وكان الاستقلال السياسى عندئذ نتيجة حتمة للاستقلال الاقتصادى.
ففى هذه الميادين الثلاثة فى السياسة والوطنية والأعمال الحرة نجد ثلاثة من رجالنا العظماء يحققون للأمة أمانيها ويرتفعون فوق المستوى بالخلق والعبقرية. فماذا نرى فى الأدب وهل نجد فى ميدانه عظيماً؟
إن ميدان الأدب صغير بالنسبة إلى هذه الميادين التى أنجبت هؤلاء الثلاثة.
والأمة لانحصار الثقافة فيها فى طبقة صغيرة لا توليه من المكانة ولا تمنح التبريز فيه من الحرمة مثلما تولى التبريز فى السياسة أو المال أو الوطنية. ولكننا نرى مع ذلك رجلا بارزاً فى ميدان الأدب تجاوزت شهرته باده والأغلب أنها ستتجاوز عصره هو بلاشك.
الدكتور طه حسين
ويمتاز طه حسن بميزتن هما: الجرأة والإخاص. فعندنا كتاب أجرياء ولكنهم غير مخلصن ولذلك فجرأتهم تشمل الحق والباطل أحياناً. وعندنا
كتاب مخلصون ولكنهم يخشون الظروف فلا ينطقون إلا همساً وكثيرا ما يقنعون بالإيماء دون التصريح. ولكن طه حسن جرىء لا يخشى التفكير مهما كانت النتائج ثم هو مخلص لا يزيغ عن الحق تقرأ أبحاثه فترى الأديب يبحث بروح العلم فى الأدب ويتعرض للمخاطر ويعرف أنها ستورده المهاوى والمعاطب فلا يحجم بل يعدها جزءاً من برنامج حياته.
وقد بحث جملة أبحاث فى أدب العرب والأوروبين خرج منها بحقائق كانت بمثابة الكشف للقراء والدعوة إلى درس العرب درس تمحيص واستجلاء دون تحيز لأى اعتبار سوى الاعتبار العلمى.
ومما يدل على إخلاصه أنه ليس فى قرائه فتور نحوه. فهو إما محبوب أشد الحب وإما مكروه أشد الكراهة.
وليس شك فى أنه يمثل فى نظر القراء العرب فى سوريا والعراق وغيرهما من الأقطار العربية أرقى مثال للأديب المصرى الذى يعمل للمستقبل بإدخال روح النزاهة والتفكير الحر والنزعة إلى السمو فى الأبحاث الأدبية. وقد وضع من قواعد النقد وأساليبه ما يصح أن يكون تقاليد تتبع فى المستقبل فلست تشم من كتاباته ذلك النفس الأبخر نفس الكراهية والسب فى الأشخاص والرغبة فى التغلب ببهرجة الألفاظ وكيل التهم جزافاً للخصوم مثلما تشم هذه الأشياء من بعض كتابنا.
لهذه الخصال فى طه حسن أعده العظيم الرابع فى مصر الذى يرفع كرامتها الأدبية ويعمل لعقد الزعامة الأدبية فى العالم العربى لها. وبعد ذلك يبقى العظيم الخامس فى العلم والاختراع والاكتشاف. ولكن هذا. الخامس لم يخلق إلى الآن. فقد كان فى مصر عثمان باشا غالب العالم المعروف فى الحشرات وأول من لفت نظر العالم الطبى إلى أن بعض الأمراض تحتاج إلى أن تمر فى طورين وتعيش فى جسمين لكى تتم دورة حياتها. وليس بيننا رجل له شهرة محمود باشا الفلكى وإن كنا الآن لا نعرف آثاره ولعل إسماعيل باشا سرى يساويه أو يتفوق عليه فى الفرع الذى يحسنه من العلوم وهو الهندسة فإن الحكومات الأجنبية تنتدبه لدرس مسائل الرى عندها. وكذلك لا يمكن أن ينكر أن على بك إبراهيم جراح عظيم قد طبقت شهرته البلاد.
ولكن العظيم فى العلم ليس هو المشهور. فليس عندنا لآن عالم قد كشف حقيقة مجهولة أو اهتدى إلى دواء جديد مثلما نرى فى بوز الهندى الذى نال جائزة نوبل لأبحاثه العميقة فى إحساس الجماد والنبات. ولعل انتظارنا لن يطول كثيراً حتى تخرج لنا الجامعة المصرية مثل هؤلاء الباحثين.
وفى الهند اثنان قد نالا جائزة نوبل: أحدهما تاجورى فى الأدب والثانى بوز فى العلم. وجائزة نوبل مقياس عالمى للعظمة والتبريز. وكان يجب أن ننال جائزة نوبل فى العلم لأننا نستوى فى هذا الميدان مع الأوروبين ولكن الأمل بنيل هذه الجائزة فى الأدب مايزال بعيداً لأن تقاليد الماضى ما تزال متشبثة بأدبنا تزيغ أبصارنا عن مناهج الأدب الحديث. ولذلك فنحن ما نزال فى طور النقد والهدم فى الأدب وسنقضى فى هذا الطور مدة طويلة حتى نبلغ الزمن الذى نستطيع فيه الخلق والابتكار. أما العلم فالتقصير باد فيه إذ كان يجب أن يكون عندنا أطباء مكتشفون وعلماء فى الزراعة مثل بوربانك يخلقون ويبتكرون. فعظماؤنا إلى الآن أربعة أما خامسهم فما يزال مضمراً.
إبريل 1928