من بين المفاهيم الجديدة، في عالم الحروب الحديثة، نجد "الحرب الهجينة"، التي تتمثل في تلك الصراعات التي تتميز بالجمع، ما بين التكتيكات التقليدية وغير النظامية، التخطيط والتنفيذ اللا مركزي، إضافة إلى استخدام الفاعلين، من دون الدول للتكنولوجيا. لقد ظهرت في مراكز البحث الأمريكية خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 كما استعمل المصطلح الجنرال "كيسي "رئيس الأركان السابق الأمريكي عام 2010عند إشارته إلى حرب عام 2006 بين إسرائيل و"حزب الله". ولعل أبرز مظاهر الحرب الهجينة حالة أوكرانيا.
تهدف الدراسة "الإستراتيجية الروسية في إدارة الأزمة الأوكرانية.. تحليل نموذج الحرب الهجينة" للباحثة الدكتورة أسماء حداد التي حصلت بها شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية عام 2019 من كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية قسم الدراسات الدولية ـ جامعة الجزائر 3، لمعالجة أهم المواضيع المطروحة حاليا على الساحة الدولية، ألا وهو ظاهرة الحرب الهجينة، من خلال التعرض لأهم المتغيرات التي تلعب دورا في التأثير على السلوك الخارجي الروسي اتجاه أوكرانيا.
أشارت حداد في دراستها التي صدرت أخيرا في كتاب بعنوان "النموذج الروسي للحرب الهجينة في أوكرانيا.. الخيارات والرهانات" عن مركز الكتاب الأكاديمي، إلى أن النموذج الروسي الهجين في أوكرانيا مر عبر ثلاث مراحل بدءا من زعزعة استقرار البلد، ثم التسبب في انهيار الدولة، عن طريق تحطيم الاقتصاد، وتدمير البنية التحتية.
وأخيرا استبدال القيادة السياسية المحلية. حيث تحظى أوكرانيا بمكانة هامة لدى روسيا، إذ تشكل عمقا إستراتيجيا، خاصة وأنها تحتل موقعا حساسا، إذ تمثل أكثر من نصف مساحة البوابة الشرقية المؤدية إلى أوروبا. وهي كذلك تعتبر ذلك الحصن الإستراتيجي الذي يعزلها عن الغرب. كما تعد أهم توجهات السياسة الخارجية للرئيس الروسي "بوتين"، خاصة بعد إنضمام العديد من الدول الأوروبية الشرقية إلى منظمة الناتو، فحسب الرؤية الإستراتيجية الروسية أصبحت أوكرانيا تمثل الجدار الأخير، الذي سوف يحمي روسيا من الغرب وحلفائه.
قالت أن روسيا ترى بأن أوكرانيا تمثل مجالا حيويا طبيعيا لها وامتدادا لإمبراطوريتها السوفياتية ولإرثها الثقافي والتاريخي، وهو ما يفسر الإستراتيجية الروسية إتجاه الأزمةُ الأوكرانية حيث من غير الممكن بأن تتنازل روسيا عن إقليم شبه جزيرة القرم أو عن أوكرانيا للمنظومة الغربية.
وأوضحت حداد، روسيا لجأت لتنفيذ آلية الحرب الهجينة في أوكرانيا من خلال اعتمادها على المقاربة الشاملة بتوظيف مزيجا من الأساليب العسكرية والاقتصادية، النفسية والإعلامية والتكنولوجيةُ وذلك بغيةُ تحقيق مصالحها الإستراتيجية بالمنطقة، خاصة وأن أوكرانيا تمثل محورا جيوبولتكيا (منفذا ضروريا للبحر الأسود) كما تشكل منطقة عازلة وعمق استراتيجيا لروسيا وأمنها القومي. وتبرز الحرب الهجينة الروسية اتجاه أوكرانيا إحدى أهم الاستراتيجيات الروسية في إعادة أمجادها. ورغم التداعيات الروسية الناتجة عن ضمها لشبه جزيرة القرم إلا أن العقوبات المفروضة على روسيا لم تحقق النتائج المرجوة، خاصة وأن تلك الأخيرة تعد الممول الأول للاتجاه الأوروبي بإمدادات الغاز. كما يشير التأكيد على ضرورة الحلول الدبلوماسية للأزمة الأوكرانية على إنعاش المناخ السياسي الدولي بين القوى الفاعلة في الأزمة بالنظر لارتباط المصالح الأوروأطلسية ـ روسية في العديد من الملفات الدولية كالملف النووي الإيراني والقضية السورية.
وأشارت إلى أن الأزمة الأوكرانية تشكل محور التنافس الإستراتيجي الدولي على مناطق النفوذ الحيوي خاصة بين قطبي الحرب الباردة، حيث تجسد شبه جزيرة القرم مسرح التجاذبات الحاصلة بين مختلف القوى الفاعلة في النظام الدولي (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي)، وتشكل الحرب الهجينة الروسية على أوكرانيا إحدى أهم وسائل الإستراتيجية الروسية الجديدة في إعادة مجدها. ومن جانب آخر فإن تعقد الأزمة الأوكرانية يعكس احتمال حدوث أكثر من مسار نظرا لتضارب مواقف أطرافها، فهي دول تسعى جاهدة لخدمة مصالحها في المنطقة الغنية بالثروات، حيث يرى الغرب بأن أوكرانيا تشكل ممرا حيويا للدول الأوروبية، في حين ترى روسيا في ضم شبه جزيرة القرم استرجاع (شيء منها)، فكل هذه المؤشرات تجعل مستقبل الأزمة قابل لكل الاحتمالات وغير منتهي. رغم أنه كان متوقعا فوز "بوتين" بالانتخابات الرئاسية لعام 2018 إلا أنه تقابل البوتينية الجديدة مجموعة من التحديات تتمثل في القضايا الشائكة المرتبطة مع علاقاتها الأورو ـ أطلسية التي تفرض عليها استمرار سياستها الرامية لاستعادة هيبتها الدولية.
وأكدت حداد أن الأزمة الأوكرانية الحالية وإن لم تنته بعد لكنها أوضحت بأن عملية ضم شبه جزيرة القرم من طرف روسيا هي إعلان عن مدى نية روسيا في إعادة مناطق نفوذها وأن سياسة الرئيس بوتين الأمنية والاقتصادية تؤكد بشدة على تعزيز المحور الأوراسي قد الوصول لنظام دولي متعدد الأقطاب يضم مجموعة دول فاعلة وعلى رأسها روسيا والصين، ولذلك تم وضع حد لتوتر العلاقات بينهما وجعلها شريكا إستراتيجيا وما يمكن تأكيده في الأخير بأنه قد سعت روسيا من خلال استراتيجيتها المتبعة في مسايرتها للأزمةُ الأوكرانيةُ لاستعادة نفوذها في منطقةُ أوروبا الشرقيةُ، حيث لجأت لتوظيف جملة من الوسائل والأدوات لعل أهمها العسكريةُ إضافةُ للوسائل الاقتصادية، فقد شكلت أزمة القرم مسرحا للتجاذبات الحاصلة بين مختلف القوى الفاعلة في النظام الدولي (التصادم الروسي) والأوكراني كطرفين رئيسين للأزمة في مقابل وجود أطراف ثانوية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية).
ورأت حداد أن تشعب الأزمة يعود لما تحمله من تحديات جيوسياسية، أمنية واقتصادية، وتوصف في بعض حالات تأزمها بمرحلة جديدة من عودة الحرب الباردة بين قوى رئيسة عظمى تطمح لأخذ مكانتها الدولية من خلال توسعاتها الاستراتيجية، وبالتالي كإجابة عن الإشكالية المطروحةُ فإنه تعد الحرب الهجينة الآلية الرئيسة في الإستراتيجية الروسية الجديدة الرامية العادة أمجادها بتعزيز محورها الأوراسي الذي يتمثل في استعادة نفوذها في هذه المنطقة. كما يعد التخاذل الغربي حول مسألة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم إحدى أهم المؤشرات على عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية.
واستخلصت حداد مجموعة من الشواهد المثبتة المتعلقة بفرضيات الدراسة، في الاعتراف بوجود علاقة بين خاصيات الحرب الروسية والمتطلبات العملياتية والتكتيكيةُ لأساليب القتال الحديثة، وأن الاعتبارات الإستراتيجية الروسية للأمن القومي أدت بها، لتوظيف آلية الحرب الهجينة حيث تبين من خلال الدراسة بأن عملية ضم شبه جزيرة القرم جاءت كخطوة سباقة لتفادي تهديد مصالحها بالمنطقة، خاصة وأن أوكرانيا تشكل مركز تقاطع لمصالح الأطراف الدولية المتنافسة على أهم مجال جيوسياسي بالمنطقة (المجال الأوراسي). كما توضح من خلال الدراسة الأسباب الرئيسة وراء دور كل من الأطراف بفعلُ تعارض مصالحها بالمنطقة. وبأنه لن تصل الأزمةُ الأوكرانية إلى درجة التصعيد، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تقبل على الدخول في حرب مباشرة مع روسيا، التي ستمثل خصما يصعب مجابهته بفعل المؤشرات القوية الدالة على تأكيد عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية.