الأحد 19 يناير 2025

مقالات

معلمتي الحسناء

  • 7-6-2023 | 18:36
طباعة

وتبقى في مخيلتي كما هى، تبقى برقتها وعذوبتها، بأناقتها ورشاقتها، بهذا الجمال الآخاذ الذي يطغى عليها في مظهرها وفي جوهرها، مازال عبير عطرها يتناثر في أرجاء ذاكرتي يدل عليها إنها الآنسة الرقيقة التي كانت تدرس لنا مادة اللغة الإنجليزية لأول مرة، كم أحببتها وكم راقبت فيها حركاتها وسكناتها، فهى استثنائية في كل شي، ترتدي ملابس أنيقة تجمع بين البساطة والجمال فتنم على أنها ذات ذوق رفيع اختلط بالكثير من التواضع، رقيقة هى كنسمات الربيع حين تشرق علينا كل يوم بإطلالتها التي تبهجنا وتسعدنا. 

كانت معلمتي الحسناء حالمة لدرجة كبيرة كنت أفسر هذا من متابعتي لها وهى وتشرد أحيانًا لتطوف وسط أفكارها مسترجعة موقف ما قد مر بها فتبتسم دون سبب واضح ثم تعود من رحلتها وكأنها تقول في نفسها ليس هذا هو الوقت المناسب، فتعود من جديد في جدية والتزام لتكمل حديثها وتنتهي من شرح مادتها ببراعة كعادتها، كنت أنتهز فرصة الاقتراب منها وسؤالها عن أي شيء بسيط رغبةً مني في الحديث معها فكم كنت أعشق ابتساماتها العذبة التى سكنت وجهها لتملأه نورًا يضيف جمالًا آخر إلى جمالها.

كانت تلاحظنا بقلبها، إنها تبدو حديثة التخرج فهى صغيرة في السن مقارنة بغيرها، في يدها اليمنى خاتم خطبتها يزينها، ويزدان بها، أكاد أراها الآن وأنا أكتب كلماتي بعد أن تخطيت العقد الخامس من عمري وفي صدري أحمل أمنيتي بأن تقرأ معلمتي ما أكتبه الآن عنها.

تفقدتني يومًا بنظرة ثاقبة حين لمحت الحزن قد بدا على وجهي بعد أن نادتني لتعطيني ورقة مكتوب فيها قولًا مأثورًا باللغة الإنجليزية لاقرأه في الإذاعة المدرسية في اليوم التالي، ولما رأت الدموع تملأ عيني وضعت الورقة جانبًا، ثم حدثتني بهدوء ودعتني أن أخبرها بما يشغل بالي ويحزنني، راحت تربت على يدي كأنها تشجعني للحديث معها وتجنبني الشعور بالخجل إذا ما سعى للنيل مني. 

أخبرتها بأن أمي قد ذهبت إلى المستشفى لتضع مولودها ولم تعد منذ أيام وبأن حالتها حرجة وسيضطر الأطباء لعمل عملية قيصرية لها وأخذت أبكي ، فقالت لي: «إن شاء الله ماما هاتقوم  بالسلامة وترجع البيت ما تخافيش دي حاجة بسيطة خالص يا حبيبتي» ، ثم أخرجت منديلًا ورقيًا من حقيبتها لتجفف لي دموعي.

 في اليوم التالي وقبل موعد حصتها أرسلت لي طالبة تدعوني للذهاب إليها ومقابلتها في حجرة المعلمات، ذهبت إليها لأجد ملامحها ما زالت متأثرة بما رويته لها بالأمس، عانقتني برفق ثم سألت عن آخر أخباري، فأخبرتها بأن أمي قد وضعت وأنجبت توأمين فابتست وقالت: «ألف مبروك ، يلا بينا نكتب لها كلمتين حلوين على الكارت اللطيف ده، ويا رب يعجبك ذوقي ، وأول ما تروحي تزوريها تديها الكارت وتقولي لها أنا بحبك يا ماما وحمد الله على سلامتك يا حبيبتي».

وعندما التقيت بأمي وأخبرتها بتفاصيل الموقف شعرت بسعادة غامرة وطلبت مني أن أشكرها كثيرًا وأبلغها السلام، وحمدت الله على أن رزقني بمعلمة طيبة القلب مثلها، سيظل المعلم الجيد في مخيلتنا نموذجًا رائعًا في كل شيء يبقى بذاكرتنا ويسكن قلوبنا مهما ازدادت أعمارنا تظل مواقفه العظيمة خالدة بداخلنا لا تمحى ولا تنسى.
 
ولكل معلم حمل لنا الخير معه، لكل معلم منحنا من علمه وجهده ما استطاع مبتغيًا بهذا وجه الله ننحني احترامًا وتقديرًا له ولعطائه من لحظة رؤيتنا له في أول يوم إلى الآن بل وحتى إلى الأبد.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة