كان عمله الموسوعي «شخصية مصر» أحد أبرز أعماله الإبداعية، التي تمكنت من اقتحام أحد أبرز القضايا الخلافية حول الهُوية المصرية مقدما وصفا علميا لها بقلم رشيق قائلا:
«فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء، وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوى، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم، وهي بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط».
وبقدر ذلك الوصف الساحر لمصر على خريطة العالم الطبيعية، وبقدر ما تضرب مصر في عمق التاريخ الإنساني، إلا أن ذلك يلقي عليها بأعباء جمة وخطيرة، ليس كونها محط أعين القوة العظمة كونها حلقة الوصل بين الشرق والغرب، لكن شعبها يصعب السيطرة عليه، على المدار التاريخ كانت مصر نصب أعين المحتلين، كان شعبها يثور ويتخلص من هؤلاء الطغاة، لكن الأمر لا يعني نهاية المخاطر.
قدم د. جمال حمدان قراءة لمستقبل مصر خلال فترة اعتزاله للمجتمع، تناولها موقع الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، خلال معرض الكتاب في دورته الـ51 والذي تم اختيار «حمدان» شخصية المعرض، وتشير تلك القراءة إلي «إن مصر إذا لم تتحرك لكي تكون قوة عظمى تسود المنطقة بأثرها، فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما "كالقصعة!" أعداء وأشقاء وأصدقاء أقربين وأبعدين».
ويواصل موقع هيئة الإذاعة البريطانية نقل فقرة أخرى لـ«حمدان» يقول فيها «لقد ظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدّعون هيدرولوجيا كانت مصر سيدة النيل، بل مالكة النيل الوحيدة - الآن فقط انتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص، والمستقبل أسود».
توقفت كثيرا عند قراءة الفقرة السالفة، وكأنني أستمع لجرس إنذار يدقه «حمدان» منذ زمن عزلته.. ولا يزال صدى ذلك الجرس يتردد حتي تلك اللحظة الآنية، لقد كانت عبقرية الرجل في قدرته علي رسم الصورة جغرافيا وصياغتها تاريخيا فيمكنه استشراف المستقبل، هنا عندما تطالع أعمال ذلك الفيلسوف العاشق للجغرافيا تدرك أنك تقرا الواقع الراهن.
لم يكن كتاب «شخصية مصر» عمله العبقري الوحيد، بل قدم لنا عملا عظيما هو «إستراتيجية الاستعمار والتحرير» يقول «حمدان»
إن « إسرائيل من البداية إلى النهاية استعمار من الدرجة الأولى والثانية معًا ، استعمار بالأصالة والوكالة في نفس الوقت ، ونقصد بذلك أن إسرائيل قامت وأقيمت بفعل ولحساب الصهيونية العالمية ، وكذلك قامت وأقيمت بفعل ولحساب الاستعمار العالمي ، فهو بالنسبة للصهيونية العالمية ملجأ من الشتات وأخطاره المحتملة أو الموهومة ، وهي بالنسبة للاستعمار العالمي قاعدة متكاملة آمنة عسكرياً ، ورأس جسر ثابت استراتيجياً ، ووكيل عام اقتصادياً، وهي في كل أولئك تمثل فاصلاً أرضياً يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها ، وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها ، ونزيفاً مزمناً في مواردها ، وأداة جاهزة لضرب حركة التحرير ، وإسرائيل بهذا المعنى دولة مرتزقة لا شك تعمل مأجورة في خدمة الاستعمار العالمي بمثل ما هي صنعه وصنيعته وربيبته ، وهذا الالتقاء والتداخل العميق بين مصالح الصهيونية والإمبريالية العالميتين هو مفتاح الوجود والمصير الإسرائيلي برمته»
القارئ لأعمال «حمدان» يمكنه أن يري كيف يتحرك ذلك الكيان اللقيط على رقعة الشرق الأوسط، ومحاولة ترتيبه من جديد، بهدف صياغة المنطقة في شكل أنظمة متناحرة ضعيفة لا يمكنها صناعة قرارها بعيدا عن الغرب، وبقاؤها هو الضمان الحقيقي للغرب لإدارة المنطقة من أسفل الطاولة.
لن أستطيع في بضعة سطور تقديم أفكار ذلك الفيلسوف العاشق للجغرافيا، لكن يبقي أن أدعو القارئ الكريم لقراءة أعماله الموسوعية إن أراد استشراف المستقبل و فهم ما يجري في تلك اللحظة الآنية.