الخبرة التاريخية لنهضة الحضارات والأمم تؤكد انها قامت على عنصرين أساسيين وهما الأخلاق والعلم، فالعلم منارة ترتفع به الامم، ولكنها لا تستفيد بمنجزها العلمي دون وجود الاخلاق.
وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حينما انشد شعره الخالد : "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ". وأنشد ايضا بيته الشعري الخالد " بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال " و " كفاني ثراء أنني غير جاهل وأكثر أرباب الغنى اليوم جهال" .
وهذه المعاني القيمة والمقدسة التي حملتها أشعار أحمد شوقي ظلت حية ومتوارثه في الوجدان الشعبي العربي بما يدفع الاسر العربية للحرص على تعليم ابنائهم و لا يدخرون ما في وسعهم من نفقات باهظة لتوفير تعليم جيد لهم .
غير ان مخرجات التعليم في وطننا العربي تعكس تدني التعليم ومن ثم تدني مخرجاته علميا وعمليا وأخلاقيا، نتيجة فساد المنظومة التعليمية التي كرست جهودها لتبوأ التعليم الخاص موقع القيادة، وفتحت الابواب على مصراعيها أمام غول الدروس الخصوصية.
الأزمة في مصر
فقد صارت الدروس الخصوصية ظاهرة مستشرية في معظم أرجاء العالم العربي وبلغت نسبتها في مصر 69% من عدد الطلاب، وهي نسبة مرتفعة جدا مقارنة بدول العالم بما جعلها تعليم موازٍ له هيكله الاقتصادي حيث يُقدر أن حجم إنفاق الأسر المصرية على الدروس الخصوصية رسميا بما يزيد على عشرين مليار جنيه مصري.
ورغم هذه المليارات المنفقة على التعليم، فأننا نعاني من نقص العمالة الماهرة نتيجة غياب نظام تعليمي يتيح التدريب الضروري في إطار برامج التعليم والتدريب الفني والمهني مما أدى لازدياد نسبة البطالة بين الشباب.
وعندما نحلل الدروس الخصوصية كمشهد سينمائي، نجد الطلاب يتسربون كأسراب غفيرة من المدراس الى مراكز الدروس الخصوصية " دون وجود رقيب تربوي عليهم، مما أدى الى انتشار فوضى التربية وفساد الأخلاق وضياع للتعليم.
فقد يتحصل الطالب على بعض العلم في مراكز الدروس الخصوصية، لكنه لا يتلقى أو يدرس الأخلاق وتعلم الانضباط وبهما تأتي المعرفة وتنتج الحكمة،
الأزمة في المغرب
ويكاد يتشابه مأزق الدروس الخصوصية في مصر مع المغرب، حيث دفع عامل عدم الثقة في التعليم العمومي بعدد كبير من الأسر إلى المزاوجة بين التعليم الحكومي أو الخاص والدروس الإضافية الخصوصية (الليلية غالبا) باعتبارها منقذاً لأبنائهم من التأخر الدراسي، ولهم في ذلك مبررات وقناعات تصطدم بالحقيقة التي تؤكد سلبية هذه الدروس غالبا ومساهمتها بسحب الثقة من التعليم العمومي، مما يزيد في تأزم الوضعية التعليمية.
وفي هذا السياق يكشف الواقع المعاش، حجم المأساة وتأثيرها المدَمر على الأسر المغربية بخاصة الأسر محدودة الدخل، فقد أشارت دراسة إلى ارتفاع حجم ما تنفقه الأسرة المغربية على الدروس الخصوصية إلى ما يعادل 10 في المائة من ميزانية الأسرة بالإضافة إلى نسبة 10 في المائة تنفقها تلك الأسرة على بند التعليم ليصل مجموع ما تنفقه إلى 20 في المائة من ميزانيتها.
اما في الأردن
فقد بدأت هذه القضية تنتشر بين الناس حيث كان سابقا الدروس الخصوصية فقط لمرحلة التوجيهي و من النادر جدا ان يلجأ اي طالب للدروس الخصوصية الا لو كان لديه مشكله خاصة مثلا اصغر سنا عن زملائه بالصف و المناهج لا تناسب سنه او انتقل من مدرسة الى مدرسة او من بلد الى بلد يعني كانت مجرد حالات خاصة و فردية و لكن حاليا بدأت تنتشر الدروس الخصوصية بين الاطفال بشكل كبير و اتصور ان السبب كثرة الواجبات المدرسية و كأن معلم الصف يترك الكثير من الاعباء التدريسية للأم في البيت و لعلها غير مؤهلة تعليميًا او امرأة عامله او لديها من الظروف ما يمنع ان تقوم بتدريس اولادها او حل الواجبات معهم
اما المدارس في القرى والمدن النائية غير منتشر بها الدروس الخصوصية وذلك لصعوبة ظروف المعلم والطلاب معا ولكون المحيط في القرى والمدن الصغيرة الجميع يعرف بعضو يعلمون ظروف بعضهم البعض ويقدرون ضعف الموارد المالية فلا يتجبر المعلم على الطالب او العكس ،ولا يلزم المعلم الطالب بالدروس الخصوصية رغم ضعف موارد المدرسة والبيئة المدرسية.
ولكن في العاصمة وخاصةً في المدارس الخاصة نجد ارتفاع غريب في ظاهرة الدروس الخصوصية
التأثير السلبي
لا شك ان تواصل التلاميذ في تعليمهم في الدروس الخصوصية بعد انتهاء اليوم المدرسي يؤثر سلبا على صحة ونفسية التلميذ، فالدروس الخصوصية يتلقاها الطالب ليلا في وقت تكون فيه طاقته على الاستيعاب والادراك قد نفذت وهو ما يحد من قدرته على التحصيل العلمي بسبب الإرهاق اليومي للعقل وقضاء أكثر من ثمان ساعات بالمدرسة، بالإضافة إلى تعب الجسد الصحي بالمقعد الذي يعدُ سجناً معنوياً، يضاف إلى ذلك الاكتظاظ الملحوظ بقاعة الدرس الخصوصي بسبب نهم المدرس ورغبته في المال على حساب المعرفة.
وهذا يعني عمليا ان التلميذ لا يستفيد من هذه الدروس سوى مضاعفة الإرهاق وزيادة النفور من الدراسة، بجانب مخاطر العامل النفسي عندما يصبح التلميذ مجبراً على النجاح حتى لا يواجه غضب الأسرة، وهو ما يحرك داخله رد سلبي وهو الخوف من الامتحان والذي يترتب عليه تعطيل قوَة الذاكرة أثناء الإنجاز، وهذا يترتب عليه حتما الرسوب بدل النجاح. ومن خلال كل ذلك لا يصبح للمعرفة الفاعلة معنى بالنسبة للتلميذ وتفقد التربية كل جسر بنفسية التلميذ المضطربة التي تتأزم بصورة خطيرة، ولا يصبح النجاح سوى غاية وبأي وسيلة ومهما كان الثمن.
فالدروس الخصوصية تمثل إحدى شبكات الفساد في المنظومة التعليمية، حيث أن مديري المدارس والمشرفين ومسؤولي الإدارات التعليمية يتقاسمون جزءا من العوائد المالية للدروس الخصوصية في بعض الاماكن نظير السماح للمدرسين بالغياب المنظم لكي يتفرغوا لأداء مهمتهم في المنازل والمراكز وقاعات الدروس الخاصة التي تملأ بها المدن.
ويقترن النظام التعليمي بالفساد المشجع على الدروس الخصوصية، ومنها نظام أعمال السنة والامتحانات تدفع الطلاب الى اللجوء الى الدروس الخصوصية.
فالأساتذة لا يؤدون واجباتهم في قاعة الدرس فيضطر التلميذ إلى أخذ دروس ليلية يمنحه على إأثرها الأستاذ نقطاً خيالية متميزة، ويحتسبها في الامتحانات. وقد يعطى التلاميذ الاختبار المقرر إنجازه بالمدرسة أو الثانوية مسبقاً، مصحوباً بالأجوبة أحيانا ليحصل التلميذ على درجات متميزة. وهذا إيهام لأسرة التلميذ بأنَه استفاد من دروسه الخاصة، وكوسيلة إعلان مجانية دنيئة لبقية التلاميذ…وفي مقابل ذلك يمنح درجات ضعيفة جداً لكل من رفض إضافة دروس ليلية عنده كوسيلة إجبار وانتقام بشعة تتنافى مع كل القيم، وهذا واقع مر تثبته الوقائع التي يحكيها الآباء يومياً.
وقد أصبح العديد من أساتذة المواد العلمية واللغات يفرضون على تلامذتهم دروسا خصوصية علناً، وهذا السلوك المقيت يجعل الآباء يشككون في مجانية التعليم ويعتبرونها أكذوبة، خاصة بعد أن تحولت الدروس الخصوصية الي نوع من الإفساد في الأرض لأنَها تؤثر على عقول ومستقبل التلاميذ والطلاب وتصيبهم بالاعتمادية والخمول العقلي كما تصيب المجتمع بالخلخلة الاجتماعية.
ويرجع خبراء ومتخصصون انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية الي اولا: قصور في الإدارة التعليمية في تأدية دورها التعليمي وتكدس المناهج الدراسية، وعدم اهتمامها بتنمية القدرات والمهارات العليا وعدم مسايرتها لتطورات العصر. وثانيا: ارتفاع كثافة الأقسام، وتعدد الفترات الدراسية ونمطية الامتحانات، وعدم نجاحها في قياس قدرات ومهارات وميول التلاميذ. وثالثا: ضعف التقدير المادي والاجتماعي للمدرس . ورابعا: ضعف دور جمعيات أمهات وآباء التلاميذ في مواجهة الدروس الخصوصية وقصور نقابة المهن التعليمية في تأدية دورها المهني إزاء الأستاذ معا .
حلول عالمية
وتؤكد الدراسات والتقارير
الدولية أن معظم مجتمعات العالم وليس مصر او المغرب او الاردن فهي امثلة وليس للحصر ليس هم فقط من يعاني من الدروس الخصوصية، فوفقا لدراسة صادرة عن معهد التخطيط الدولي التابع لليونسكو تبلغ نسبة طلاب المرحلة الثانوية الذين يتلقون دروسا خصوصية 8 % من عدد الطلاب في انجلترا, وفي اليابان 8.6 % من تلاميذ الصف الثالث الثانوي يتلقون دروسا في منازلهم وفي كندا 9 .%، وفي بنجلاديش إحدى دول العالم الفقيرة بلغت نسبة من يتلقون دروسا خصوصية 21 % في آخر إحصائية.
وفي بعض الدول الأوروبية والهند وكوريا الجنوبية تأخذ الدروس الخصوصية أشكالا عدة منها ما يتم بطريق الانترنت ومنها ما تنظمه المدرسة نفسها بعد انتهاء ساعات اليوم الدراسي كما أنها تقتصر على مواد دراسية معينة.
في حين دول العالم المتقدم لجأت الي تنظيم وتقنين هذه الاوضاع لمساعدة التلاميذ المتعثرين دراسيا في مواد معينة كالرياضيات، ففي أمريكا مثلا صدر القانون الشهير nochildleftbehind أي لا تترك طفلا متعثرا تعبيرا عن اهتمام الدولة بالتلاميذ المتعثرين دراسيا بهدف مساعدتهم على تجاوز تعثرهم الدراسي بينما اقامت دولا أخرى مثل ألمانيا وفرنسا اخضاعها لمجموعة من الاشتراطات والالتزامات عبر تقنين عمل مراكز الدروس الخصوصية وان بعضها تحول الى شركات منها ما يتبع المدارس والإدارات الحكومية. ولهذا فإن الدروس الخصوصية في هذه الدول لم تتحول لظاهرة تهدد الدور التربوي والثقافي للمدرسة. فمن يعمل في الشركات والمراكز ليسوا من المعلمين النظاميين في المدارس لأن هذا العمل يتعارض مع واجباتهم الوظيفية وأوقات دوامهم في المدارس. فالذين يقومون بالدروس الخصوصية في هذه الدول أغلبيتهم من الطلاب حديثي التخرج والمتقاعدين من رجال التعليم ومن النادر أن يقوم معلم نظامي بإعطاء دروس خصوصية لتلاميذه الذين يقوم بالتدريس لهم في المدرسة.
كلمة حق
لا يخفي على أي أحد حقيقة تسبب الدروس الخصوصية في انهيار التعليم وانهيار المبادئ وانهيار الأخلاق ، وهو ما يدعونا ويدعو كل مسئول في بلادنا العربية لشن تشريعات قانونية لوقف العمل بالدروس الخصوصية والعودة إلى الصف الدراسي وتغليظ العقوبات ضد من يمارس هذا العمل.
وعلى المؤسسات الثقافية والتربوية والاعلامية العمل بكل جهد ومثابرة من أجل اعادة الاحترام للمدرسة وللمدرس وحفظ وجوده واحترامه لنفسه ليعود القدوة التي تربينا عليها جميعا.
كما يمكن تدريب اولياء الامور على تعليم ابنائهم فنون التعلم الذاتي وسبل استخدام مصادر المعلومات والتعليم التعاوني وأساليب البحث العلمي والاجتماعي والمنطقي وربط التعليم بالحياة اليومية وتأهيل المدرس لإنهاء دوره الحالي كمجرد تسجيل حي للمعلومات ليصبح مساعداً لعملية التعلم وكذلك تغيير نظام الامتحانات الحالي القائم على الحفظ والتلقين ليهدف إلى قياس القدرات والمهارات العقلية.
ولا شك أيضا ان المناهج الدراسية في عالمنا العربي بحاجة ماسة لإعادة بنائها على أسس علمية تربوية واخلاقية على أيدي خبراء متخصصين، يحددون أهداف المناهج وطرق اختبارها وتصفيتها وتنظيمها واختيار الخبرات والأنشطة اللازمة لتحقيقها في ظل الاعتماد على التعليم الذاتي.
وبحسب متخصصين في هذا المجال، فان تحقيق ذلك يتطلب استحداث وظائف أخرى غير المدرس بصورته التقليدية، مثل مرشد المادة الذي يجيب على استفسارات التلاميذ المرتبطة بالمواد الدراسية، والأخصائي العلاجي الذي يقدم المساعدة السريعة لشرح النقاط الصعبة والأخذ بأيدي التلاميذ الضعفاء، وكذلك المدرس المساعد الذي يتولَى بعض الأعمال المعاونة للمدرس العادي أثناء الحصة وبعدها كتصحيح الواجبات والإجابات وعقد المناقشات وتسيير التعليم التعاوني.
ويبقى عنصرا مهما في العملية التعليمية السوية، تتمثل في دقة اختيار العاملين بمهنة التدريس، وقبل تسلمهم العمل ووضع دستور وقسم أخلاقي لمهنة التدريس ينص على فصل المدرس الذي يتورط في الدروس الخصوصية وفي نفس الوقت النهوض بمجموعات التقوية في المدارس والاعداديات والثانويات لتكون بديلاً ناجحاً عن هذه الدروس الخصوصية.
كما يجب ان يتعاون العالم كله في ايجاد مأزق التعليم الذي سقط بفخ الرأسمالية المتوحشة واضاعت التعلم الفطري والقدرات الخاصة للصغار كما اضاع البعد الأخلاقي في التعلم، فعلى اصحاب الضمائر الحية في العالم ان يبذلوا جهدهم في دفع شعوب العالم لتتبنى تعليم ذو بعد أخلاقي، والبعد الأخلاقي والتربوي .. اساس في العملية التعليمية .
وسأختم مقالي بالمهم وهو رواتب المعلمين يجب اعادة النظر في رواتب المعلمين فكيف سيعطي المعلم كل ما لديه من معلومات وطاقة وفكر وتربية وهو مشغول البال ومهموم يفكر بكيفية سد ديونه وكفاية اهل بيته واولاده فهو ايضا في بعض الاحيان او بعض المدارس او بعض البلدان مسلوب الحق رغم انه اساس المجتمع كله فأي عالم او سياسي او طبيب فهو مر تحت يد المعلم فلا يجوز ابدا ان يتلقى اصحاب المهن كلها رواتب اعلى من المعلم فهذا ليس منطقيا ابدا فرفقا بالمعلم ليرفق بأولادكم.
سارة طالب السهيل