الجمعة 19 ابريل 2024

عشر سنوات.. الثورة مستمرة


حلمي النمنم

مقالات9-6-2023 | 15:18

حلمي النمنم

يتصور البعض أن الثورة ليست سوي  نزول المواطنين إلي  الشارع لعدة أيام أو أسابيع تنتهي إلى الإطاحة بمجموعة حاكمة أو بنظام بأكمله، وعند ذلك تنتهي  الثورة، هذه المرحلة ليست سوي  البداية، وإن شئنا الدقة هي  تمهيد للثورة.. وعلي  ذلك فإن الذين يحصرون ثورة 30 يونيه 2013 في نزول الملايين إلي  الشارع ذلك، وصولا إلي  قرارات 3 يوليو 2013، يحدون من معني  الثورة.. بالتأكيد كان نزول عشرات الملايين إلي  الشوارع مهيبًا وجليلًا أكثر من 30 مليون نسمة، وكان اجتماع رموز الأمة، يتقدمهم وزير الدفاع، آنذاك الفريق أول عبدالفتاح السيسي, حدثا مهما برموزه وبالقرارات التي  صدرت عنه.. الثورة ليست عدة أيام فقط وإسقاط طخمة حاكمة يمكن أن يتم بعدة طرق، ليس بالضرورة، أن يكون عبر التظاهر وغضب الشارع، عرف التاريخ حالات كثيرة لإسقاط نظم وحكام دون مظـاهرات أو ثورات.

تكون الثورة بمقدار التغيير الإيجابي الذي  يحدث في الدولة وعلي  بناء المجتمع، وهذا ما يجعلنا نتوقف طويلا أمام ثورة 30 يونيه، ونقول إنها لم تنته  مازالت قائمة ومستمرة، هي  فعل متواصل لم يتوقف علي  مدي  عشر سنوات، وهي  تقود إلي  تغيير وتطور حقيقي  في مصر، علي  كافة المستويات، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا.

سياسيًا تم تعديل الدستور سنة 2014 في استفتاء عام، التعديل يضع حدا فاصلا بين دستور ما قبل التعديل وما بعده .. التعديل اتجه إلي  إقرار مزيد من المواد والخطوات نحو بناء الدولة المدنية – الوطنية – الحديثة ؛ مثل وضع مادة لإنشاء مفوضية وطنية ضد التمييز، وهي  قيد النقاش – الآن – داخل لجان الحوار الوطني  ومثل الاقرار بحرية العقيدة والنص علي أنها مطلقة، وحق الآخرين في العيش كمواطنين داخل المجتمع، بكامل وكافة الحقوق والالتزامات أو الواجبات.

ويرتبط بهذا النص الخطوات التي  اتخذتها الدولة بسن القوانين والتشريعات، مثل قانون بناء دور العبادة الموحد سنة 2016، وبمقتضي  هذا القانون انتهي  السبب الرئيسي  لأجواء الاحتدام الطائفي  الذي  عشناه منذ أحداث الخانكة سنة 1972، احتدام واحتكاك طوال 44 عاما، أنهاه هذا القانون إلي  الأبد، هناك أكثر من 2400 كنيسة في أنحاء الدولة تم "تقنين" وضعها إلي  اليوم.

سياسيًا كذلك أتيح تمثيل نيابي واسع للمرأة في البرلمان بمجلسيه، النواب والشيوخ، وأيضًا للمواطنين الأقباط وكذلك الشباب، بما يعني  إتاحة الفرصة لتوازن مجتمعي  وإنساني  وبناء كوادر سياسية قادرة مستقبلًا علي  تحمل كافة المسئوليات وتمثيل أوسع للمجتمع.

وفي  الملف السياسي  هناك ثورة حقيقية، قادها الرئيس عبدالفتاح السيسي  وسوف تبدو نتائجها أكثر في السنوات القادمة، لقد عشنا قرونا والدولة المصرية يمكن اعتبارها "دولة العاصمة", الخدمات والمميزات كلها في العاصمة، إلي  حد أن المصريين لا يطلقون عليها اسمها الحقيقي  القاهرة بل يسمونها "مصر" لأنها تختزل الدولة كلها، بسبب هذا التركيز في العاصمة اتجهت بعض الأقاليم في العصر العثماني  لتستقل إداريًا وسياسيًا عن العاصمة، حدث ذلك في جرجا مثلا، ولم يكن السلطان العثماني  يمانع في ذلك ما دامت الأموال ستصله من الأقاليم، ومنذ عهد محمد علي  كان هناك مطالب عديدة بالاهتمام بالأقاليم وتقديم بعض الخدمات لها، وحدث شيء من ذلك، لكن بقيت العاصمة كما هي, متمركزة ومنفردة بالكثير من الخدمات, إلي حد أن د. جمال حمدان في كتابه العمدة "شخصية مصر" وصف هذه العلاقة بين العاصمة والأقاليم بالرأس الكاسح والجسم الكسيح، غير أن هناك محاولة جادة وعميقة منذ سنة 2014 لتغيير هذه العلاقة، يختفي  فيها الكاسح والكسيح، بل تتوزع الخدمات بعدالة وتصل إلي كل بقعة في مصر، مع التركيز علي  المناطق التي  حرمت طويلًا، وهمشت كثيرًا وهكذا لم يعد المواطن مضطر إلي  أن يسافر من سوهاج وقنا أو دمنهور وكفر الشيخ ودسوق مثلا إلي  القاهرة، ليحول لابنه من مدرسة إلي  أخري  أو ليستخرج بطاقته أو جواز السفر، بات ذلك متاحًا في المحافظات وحتي  في المدن الصغري  بها، ناهيك عن النقلة الضخمة التي  تحدثت وهي  "الحكومة الذكية" أي  إمكانية تحقيق الخدمة والحصول عليها عبر شبكة الإنترنت، باختصار كثير من الأوراق يمكن الحصول عليها والمواطن في البيت.

ومن يراجع الكثير من شكاوى المصريين عبر عقود، كانت كلها من التردد علي  المكاتب والتعنت البيروقراطي, منذ الستينيات كانت هناك مقولة شهيرة يرددها المسؤولين أو الموظف في وجه المواطن, "فوت علينا بكرة يا سيد"، وقد لا يأتي  "بكرة" أبدًا، وقد يتأتي متأخرًا جدًا، عبر طرق ملتوية بعد شهور مثلا وربما سنوات، هذه النقلة تقدم الخدمة بسرعة للمواطن وبكرامة، وهي  كذلك تضرب التعنت البيروقراطي  والفساد الوظيفي  في مقتل، وتمثل تطويرا وإحياء للجهاز الإداري  للدولة.

يرتبط بذلك خطوات أخري, تمثل الثورة في عمقها، وهو مشروع "حياة كريمة" والذي  يخدم بشكل مباشر 58 مليون مواطن في أنحاء مصر كلها.

أهمية هذا المشروع، أن يمد يد الاهتمام والتحديث إلي  المدن والقري  المصرية، وهذه المدن أهملت كثيرًا عبر عقود تحديدًا منذ سنة 1967م، وبذلك تحولت إلي  طاردة للسكان، يهرب منها أهلها، إلي  المدن الكبري, خاصة القاهرة ثم الإسكندرية، وبذلك تضخمت العاصمة وراحت تبتلع كل شي ء، وقد اقترح البعض في وقت من الأوقات وضع قيود علي  دخول العاصمة والإقامة بها، وتبين أن ذلك يخل بالدستور ويتناقص مع حق التنقل وحرية السكن، باختصار يضرب المواطنة في مقتل, وبسبب هذا الازدحام نمت وتوسعت العشوائيات حول القاهرة والمدن الكبري, في سنوات التسعينيات تكونت حول القاهرة 34 منطقة عشوائية، أدت إلي  ظاهرة "ترييف العاصمة"، الآن يتم التحرك علي  مستويين، في الوقت نفسه، الأولي : الاهتمام بالمدن والقري  عبر مشروع حياة كريمة، والدولة مصممة عليه، الرئيس يتابعه بنفسه، وتم إدراج الخطط وتحديد الميزانيات ويتم العمل بوتيرة متقدمة، رغم المتاعب الاقتصادية.

الثاني : التصدي  بإرادة سياسية وإدارية قوية ونافذة للعشوائيات، بالقضاء عليها، النموذج أمامنا هو منطقة الدويقة، هذه المنطقة تشكلت منذ سنوات السبعينيات، ومن أوائل التحقيقات الصحفية الميدانية التي  أجريتها في بداية حياتي  الصحفية، كان داخل الدويقة، ثم بعدها منطقة عزبة عزيز عزت علي  تخوم حي  العجوزة، كان المشهد في الثمانينيات مروعًا, فما بالنا بما وصل إليه سنة 2012.. ؟! ودخلت الدولة معركة, تم نقل سكان الدويقة إلي منطقة الأسمرات ومن أسخف ما سمعنا, مقولة مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي  هاجمت نقلهم واعتبرته تهجيرا قسريا، فأثارت عليها سخرية الجميع .

لم تقف الثورة عند هذا الحد, لكنها انتقلت إلي  تحقيق حلم تطلعنا إليه طويلًا، وهو ضرورة الخروج من الوادي, لا يصح أن نترك شواطئنا علي  البحرين المتوسط والأحمر دون إعمار بشري, ولا أن نترك الصحراء خالية، ونتكدس حول النهر، خرجنا إلي مدن جديدة وتجمعات سكنية واعدة، هناك 15 مدينة ذكية يتم بناؤها مع السيسي مدينة العلمين الجديدة نموذجًا.. والأسبوع الماضي  كان الرئيس في شرق العوينات لمتابعة حصاد القمح، هذا المشروع الذي  نادي  به فاروق الباز منذ منتصف السبعينيات وعرضه علي  الرئيس السادات ثم مبارك، لكنه لم يتحقق إلا مؤخرًا.

في  المدارس قالوا لنا إننا نعيش علي  6% من مساحة مصر؛ هي  المناطق المحيطة بالنيل, لكننا الآن صرنا بعد التوسعات نعيش علي  حوالي  14% من المساحة ومن المقرر أن تصبح 17% سنة2023، بما يفتح الأفق والأمل لمصر جديدة.

أما العاصمة والمدن القديمة فلنتذكر الدراسات التي  خرجت بعد سنة 2000 وكانت تصرخ بأن سرعة السيارات والحركة في شوارع القاهرة سوف تكون "صفر" سنة 2025.

لم تكن الدراسات تضرب بالغيب، لكنها كانت مؤسسة علي  حالة الطرق والجسور في القاهرة وسعة الشوارع وعدد السيارات، فضلا عن عدد السكان، وكانت العاصمة وصلت إلي  حد الاختناق، فجاءت ثورة 30 يونيو بالمشروع الأضخم وهو بناء العاصمة الإدارية، ودخول شبكة طرق ومواصلات جديدة وحديثة.

أهم ما في العاصمة الجديدة أنها بنيت في الصحراء, أي لا تمثل اعتداء علي الأراضي الزراعية ولا هي كذلك تمثل زحامًا للقري وللمدن القائمة في وقت ما كان الطلب أن تقام العاصمة علي طريق مصر-الإسكندرية الزراعي ثم الصحراوي أي إضافة مزيد من التكدس حول الدلتا وتبديد المساحة المنزرعة, العاصمة الإدارية بنيت في المنطقة الصحراوية التي تفصل القاهرة عن السويس, في وقت ما كان الباحثون يطلقون عليها صحراء السويس.

العاصمة الجديدة تعني  نقل المقرات الرسمية والحكومية خارج منطقة وسط البلد, ومن ثم يخف الضغط عليها، عمليًا تم إغلاق مجمع التحرير كمكاتب حكومية، هذا المبني  وحده كان يستقبل يوميًا 2 مليون مواطن من أنحاء الدولة، في عملية التحديث الإداري لم يعد المواطن مطالبًا بدخول هذا المجمع.

وهناك شبكة طرق وجسور ضخمة أقيمت داخل العاصمة وحولها، وكذلك في أنحاء البلاد كلها، من أسوان جنوبًا وصولًا إلي  رفح في أقصي  الشمال الشرقي للبلاد.

دعنا الآن من أولئك المتنطعون والممتعضون الذين يسخرون من بناء الجسور ويرون أنها ليست أولوية أولي، الطرق هي أولوية أولي  ومطلقة، الغريب أن هؤلاء المتنطعون ظلوا عبر عقود يلقون دروسا علينا في أن منطقة مصر الجديدة حين تأسست بدأت بالمترو، أي الطرق والمواصلات.

هذه الخطوات ليست كل شيء، هناك الكثير والكثير، مثل اهتمام الدولة بتوطين الصناعات، أي لا نتحول إلي  مجرد تجمع منتجات الآخرين وتنشر التوكيلات واقتصاد السمسرة وتهريب المستورد .. والمهم في كل هذا أن الدولة راحت ترد الاعتبار لجناح الوطنية المصرية بين أبناء الطبقة الوسطي, لأننا منذ نهاية حرب أكتوبر سنة 1973وبدء عصر الانفتاح الاقتصادي، كانت الأولوية للجناح الذي  يعتبر الوطنية، شعارات زائفة تنم عن انغلاق فاتجهوا إلي الانفتاح والسخرية من الوطن، وبات الاستيراد هو الشعار حتي  مأكولات الأفراح والأعراس كان البعض يتباهي  باستيرادها من الخارج، تأتي  ساخنة بالطائرة إلي حيث يجلس المعازيم!!
كل هذا تحقق في أجواء لم تكن تشجع علي  الإنجاز، نحن منذ ثورة 30 يونيه نخوض حربا قاسية، شنتها جماعة حسن البنا، لاحتلال شمال سيناء في المنطقة ما بين العريش وحتي  الحدود الدولية لإقامة "ولاية شمال سيناء" عليها، هذه الحرب كلفتنا ثلاثة آلاف شهيد من أبناء القوات المسلحة والشرطة المدنية، فضلا عن مواطنين عاديين، وإلي  جوارهم أكثر من 13 ألف جريح، ماديًا التكلفة كانت مليار جنيه شهريًا، بأرقام وأسعار عشر سنوات مضت، لنتذكر أننا في حرب أكتوبر المجيدة فقدنا أقل من هذا العدد من الشهداء، المعروف أن جماعة حسن البنا وتنظيمها الدولي ليس سوي غطاء لأجهزة مخابرات عديدة ودول معادية لمصر, بالأحرى لا تريد لمصر النهوض والتقدم وهو نفس هدف الجماعة الإرهابية رغم هذه الحرب الضروس وما رافقها من حرب إعلامية ونفسية مازالت تشن إلي  يومنا هذا, تمت هذه الانجازات..

إنها روح الثورة واستمراريتها وإنها الجمهورية الجديدة.. ثورة 30 يونيه مستمرة.