الإثنين 6 مايو 2024

أنا.. وشياطين الشعر!!

مقالات14-6-2023 | 17:16

لم يكن من المستغْرَب أن ينسب العرب قديماً إبداع الشعراء إلى قوى خفيَّةٍ وكائناتٍ غير مرئيةٍ توحي به إليهم، وحينما بحثوا عمَّنْ يمكنهم نسبة ذلك الإبداع إليه فلم يجدوا في مخيَّلتهم غيرَ الجنًِّ، وقد اعتقد العرب في قدرات الجن الخارقة على إنجاز الأعمال الغريبة التي يعجزون عنها، فمثلاً يزعم أهل"تدمر" أن مدينتهم بنتها الجنُّ للنبي سليمان.!! فهل تصيبنا الدهشة أن ينسب العرب أجلَّ ما يمتازون به وهو الشعر إلى الجن؟!! ذلك ما ذكره المعري في ديوانه"سقط الزند": "كان أرباب الفصاحة كلّما رأوا حَسَناً عدّوه من صنْعة الجنّ"، وقد حدَّد العرب أماكنَ سكناهم ، إذ اعتقدوا أن الجن والأرواح يسكنون كلَّ مكانٍ غير مطروقٍ، ولعل أشهر هذي الأماكن في بلاد العرب"عبقر ووبار" إذْ يقول الزمخشري في "الكشاف": "العبقري منسوب إلى عبقر، إذْ يزعم العرب أنه بلد الجن، فينسبون إليه الأعاجيب"، ولعل مفردة "العبقرية" مأخوذة من "عبقر" لتدلَّ على القدرة الذهنية، والمهارة العقلية التي تمنح صاحبها التفوُّق في الإبداع !!                       

لقد حملت إلينا الأخبارُ الكثير من الحوارات التي دارت بين الشعراء الجاهليين والجن، ولا يمكن إنكار احتمال احتكاك الجن مع الشعراء أكثر من غيرهم من العوام، وذلك بسبب توافُرِ ظروفٍ تجعلهم أكثرَ قرْباً للقائهم ؛ فالشعراء يفضلون الوحدة والليل والأماكن النائية عن سكنى الناس.

واجتماع هذه الظروف الثلاثة مشهورٌ لدى الناس أنه يجعل احتمالية لقاء الجن أكبر. فهذا الشاعر الجاهلي "تأبط شرًّا" - ولم أجد شاعرا أكثر منه - تحمل أشعاره الكثير من الطرائف التي يستحيل تصديقها؛ فمرةً يَعْرِض له كبشٌ وهو خارج المنزل فيحمله إلى أمه ليضعه أمامها فإذا به يستحيل غولا..!!، ومرةً يستضيف الجن في بعض أسفاره إذ نزلوا به ضيوفا بعدما أشعل ناره ليلاً، وثالثةً نزلتْ به الغول جارةً على هيئة فتاةٍ حسناءَ (فَأصْبَحْـتُ وَالْغُـولُ لِـي جَـارَةٌ * فَيَـا جَارَتَـا أَنْـتِ مَـا أَهْـوَلاَ)، ولافتتانه بجمالها دعاها لممارسة الفحشاء فانقلبت إلى صورتها الحقيقية (وَطَالَبْـتُـهَـا بُضْعَهَـا فَالْتَـوَتْ * بِـوَجْـهٍ تَهَـوَّلَ فَاسْتَغْوَلاَ)، ليدور بينهما قتالٌ عنيفٌ ينتهي بقتْلها، ويؤكد أن جثتها لم تزل هناك في أحد كثبان الصحراء (فَمَنْ سَـالَ أَيْـنَ ثَـوَتْ جَارَتِـي * فَـإِنَّ لَهَـا بِالـلِّـوَى مَـنْـزِلاَ)..!! كما وَرَد في أشعار "أمية بن أبي الصلت" و"الأعشى"وغيرهما ما يشير إلى ذلك، بل سمَّى الكثير من الشعراء الذين حملت أشعارهم أخباراً عن أصحابهم من الجن ؛ فهذا "حسَّان بن ثابت" يقول :(ولي صاحبٌ من بني الشيصبان فطوْراً أقول .. وطوْراً هُوَهَ ).!!، وهذا"جرير"الشاعر الأموي يقول :(إني ليُلْقي عليّ الشعر مكتهِلٌ من الشياطين إبليس الأباليس").!!، وهذا "بشار بن برد"يذكر اسم شيطانه ورغبته في مشاركته نظم الشعر إلا أن الشاعر فضّل الانفراد في قول الشعر: ( دَعَانِي شِنِقْنَاقٌ إِلَى خَلْفِ بَكْرَةٍ * فَقُلْتُ: اتْرُكَنِّي .. فَالتَّفَرُّدُ أَحْمَدُ )!!. 

 ليسرع بنا الركْبُ إلى العصر الحديث، فنُمْعِن النظر في عملين شعريين : أولهما "مسرحية (مجنون ليلى)" لأمير الشعراء "شوقي" إذ وصل شوقي بمجنون ليلى "قيس" إلى وادي "عبقر"بعدما هام على وجهه، وثانيهما مُطَوَّلةُ (عبقر) للشاعر "شفيق المعلوف" أحد شعراء الرابطة الأندلسية حيث يروي لنا أن شيطانه قد أتاه ليحمله إلى وادي "عبقر" ليحكي لنا ما رأته عيناه وما سمعته أذناه، ولا يخفى علينا أمران : الأول ...أن ذلك ترسيخٌ لأسطورة شيطان الشعر الذي ينفث في روع الشاعر ما يبوح به من قصائد، والثاني أن "شوقي"أحد أقطاب الكلاسيكية التي تعتز بتراثها الشعري ، وتعمل على إحيائه، وكذلك "شفيق المعلوف" أحد شعراء العصبة الأندلسية التي ما تنكَّرتْ لتراثها، وقد وظَّف الشاعران الأسطورة العربية ؛ لكن شوقي كان أكثر إيجازاً في وصف الوادي واتفق الشاعران في موقف الجن -سكان الوادي- تجاه أفعال البشر الحمقاء (قيس في المسرحية - الشاعر نفسه في المطوَّلة).                                                                   

لنصل إلى محطتنا الأخيرة وهي الشعر الأفريقي وقصيدة «سان لوي» للشاعر السنغالي "أليون بادارا كوليبالي"، و"سان لوي" مدينة سنغالية اسمها الحقيقي "سانت لويس" تقع عند مصب نهر السنغال، أسسها الفرنسيون حيث ينظَّم بها سنوياً العديد من المهرجانات الثقافية والفنية التي تجمع الفولكلور بالفن الحديث، وأناشيد الصوفية بموسيقي الجاز... والسنغالي"كوليبالي" مأخوذٌ بفتنتها وسحرها إذْ تستضيف مهرجاناً دولياً للشعر باللغة الفرنسية ، ولذلك يقف مدهوشاً من عدم عثوره على الجن الذي يصنع أسطورة المدينة ويتساءل هل مردُّ ذلك إلى عدم اكتراث السكان بهذي الأساطير ... لكنه يؤكد وجود أسطورةٍ للمدينة وحمايةٍ خارقةٍ من هؤلاء الجن رغم عدم رؤيتهم.. فمع السنغالي "كوليبالي" وقصيدة (سان لوي): 
حلّقتُ فوق سان لوي في النهار ... حلّقتُ فوق سان لوي في الليل
لم ألتق في أي مكان الجن التي تصنع أسطورتها
لم أحسّ في أي مكان ... بوجود الجن التي تحميها
هل تركتْ -لعدم اكتراث سكّانها - بيوتها الخفية ... واختبأتْ في الغابات المقدّسة؟!!
حلّقتُ فوق سان لوي في النهار ... حلّقتُ فوق سان لوي في الليل،
لم ألتق في أي مكان الجن التي تصنع أسطورتها !!
لم أحسّ في أي مكان بوجود الجن التي تحميها !!

Egypt Air