الأربعاء 27 نوفمبر 2024

مقالات

أين زِرُّ النسيان ...؟!!

  • 5-7-2023 | 14:02
طباعة

طويلٌ جداً -بالنسبة للكثيرين منا- مشوار الحياة ، وكثيرا ما نتعرَّض في ذلك المشوار - سواء أكان طويلاً أمْ قصيراً - للعديد من المواقف المريرة ، وللكثير من المواقف السيئة ، والتي تجعل المرارة تنضح من منافذ الصدور . ومن المؤكد أن هناك منا من يستطيع تخطيِّها ويتجاوز آثارها المدمرة والمضي قُدُماً في حياته ، وأيضاً منا مَنْ يسقط فريسةً في هاوية تلك المرارة ..!! ولو أردنا أن نتتبَّع الخطى الأولى للمرارة في النفس الإنسانية ..!! لوجدناها تتولَّد داخلنا بعد التعرُّض لظلمٍ كبيرٍ، فنغضب بشدة ، ثم نتألم كلما تذكرنا أو رأينا من تسبَّب في ذلك الظلم .وتبدأ المرارة في التغلغل داخلنا فتتطور إلى المقْت الشديد لهؤلاء الظالمين مع الإلحاح الشديد رغبةً في الانتقام منهم ولو كانوا أقرب المحيطين بنا كما قال "طرفة بن العبد": وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً * *عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ )!!

لذا فالمرارة .. - مثلما يعتبرها أطباء علم النفس - شرارة الانتقام، والثقب الأسود الذي يلتهم كل ما حوله من نجومٍ مضيئةٍ وأفلاكٍ متألقةٍ ، ومن أكثر المشاعر البشرية السامة المدمرة ...!! وتخيل معي عزيزي القارئ أنك تعرضتَ يوما ما لظلمٍ في عملك ، أو في علاقاتك بالمحيطين بك ثم أسلمت نفسك لشعور المرارة وسيطرت عليك الرغبة ..!!،إنك بذلك ستكون ظالماً نفسَك مثما ظلمك الآخرون !! وستحرم نفسك رؤية جوانب مضيئة في الحياة والاستمتاع بمباهجها ، وسيقتل هذا التشاؤم براعم التفاؤل التي تحاول النفاذ كل صباح إلى ضوء الشمس ..!! 

وكثيرا ما تردِّد أنفاسُنا التي تنضح مرارةً وخذلاناً بيت "أبي الطيب المتنبي" ( كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا * * وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا ) ، هذا السقوط المريع الذي يجعل من داء المرض دواءً شافياً من كل الآلام، وتصير المنايا على اختلاف ألوانها وتنوع صورها حال انهيار النفس .. تصبح هذي المنايا أمانيا !!

وما تمناها "المتنبي" إلا بعدما عزَّ الصديق الحقيقي ( تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى ** صَديقاً فَأَعيا أَو عَدُوّاً مُداجِيا )!!، إننا في تلك اللحظة نحتاج حضناً صادقاً ويداً حانية تربِّتُ على أكتافنا المكدودة ، وبسمةً صافيةً تزيح بوداعتها ما عجزنا عن احتماله من أثقال الحياة القاسية !! 

وتأتي قصيدة ( البكاء ) للمبدع "محمود درويش" لتصور حال الإنسان الذي يدرك بعقله أن البكاء لا يجدي ولكن ماذا يفعل ؟!! وسط دوافع البكاء وأمواج المرارة التي تأخذ بأطواقه فيقول : ( أنا أبكي ! أنا أدرى أن دمع العين خذلان .. وملحُ  / أنا أدري ، وبكاءُ اللحن مازال يلحُّ ) ورغم محاولات المحيطين مساعدته في تجاوز هذي المرارة إلا أنهم يفشلون ...لماذا؟!! لانعدام رغبته هو في مساعدة نفسه ، وإصراره على البقاء وسط الأطلال بانهزاميةٍ شديدةٍ تقتل كل بوادر الإنقاذ  
( لا تَرُشّي من مناديلك عطراً !! لستُ أصحو.. لستُ أصحو / ودعي قلبيَ.. يبكي ! شوكة في القلب مازالت تغزُّ )“ ... ليفتح لنا الرائع "أحمد مطر" جانباً جديداً للمرارة ممزوجاً بالسخرية من خلال أسطرٍ شعريةٍ قصيرةٍ وقليلةٍ ..!! يقدِّم الشاعر تعريفاً وافياً وموجزاً لنفسه يقدمه للقراء في قصيدته “مواطن نموذجي” :

 (كيسٌ من الجلدِ أنا فيه عظامٌ ونَكَدْ !!/ فوهتهُ شُدت بحبلٍ من مَسـَدْ / معلقٌ بين السماءِ والثرى ... في بلدٍ أغفو ... وأصحو في بلـدْ !!) ‍، فعلى كاهله يحمل هموم الأمة حيثما رَحَلَ ورُحِّل، وحيثما هاجَر وهُجِّر، مزج السخرية من الواقع المرِّ الذي تحياه هذه الأمة بمرارة هذا الواقع !!

لنصل محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي والشاعر النيجيري "إيفي أماديومي" وقصيدته الرائعة ( مرارة ) ، وأجمل مافي القصيدة هذا التكثيف المحكم والمجاز الطريف الذي يجعل مغادرة المرارة أمراً مستحيلاً ولو بغَسْل الروح وعصْرها مرَّاتٍ عديدةٍ فهي ليست ثوباً يتخلَّى عما فيه بمساحيق الغسيل ..!! إنها المرارة القاتلة التي تسكن الروح حتى الموت لتبوء كل محاولات الصفح والتسامح بالفشل فإلى ( مرارة ) والنيجيري "إيفي أماديومي" :                                                                                       

لو أنك...
عصرتني وغسلتني   عصرتني وغسلتني
عصرتني وغسلتني
حتى أفرغت ما في جوفي
مثل ورقةِ شجرٍ مُرٍّ ذبلتْ بعد طول انتظار
فلن تستطيع أن تنزع المرارة من داخلي !!

أخبار الساعة

الاكثر قراءة