الأربعاء 26 يونيو 2024

الشاعر السوري أسامة إسبر: «شمس مستعجلة» ولادة جديدة للجسد خارج التصورات الموروثة| حوار

أسامة إسبر

ثقافة8-7-2023 | 18:32

محمد الحمامصي

بعنوان "شمسٌ مُسْتعجلة" عنوان الديوان الجديد الصادر عن المركز العربي للصحافة في القاهرة للشاعر والفوتوغرافي والمترجم السوري أسامة إسبر، يقع في 335 صفحة من القطع المتوسط ويضم قصائد كتبها الشاعر في السنوات الأخيرة، حيث يعيش في أمريكا، هو الرابع الذي صدر له في السنوات العشر الأخيرة، فقد صدرت له ثلاثة دواوين، هي "على طرقي البحرية"، "على ضفة نهر الأشياء"، و"قال لي جسدي".

 

كما صدرت للشاعر عدة ترجمات من بينها رواية جوليا فيليبس "الأرض التي اختفت"، و"رسائل حب إلى الموتى"، للكاتبة الأمريكية آفا ديليرا، ورواية إيان ريد "الغريم"، ورواية "أشياء تسقط من السماء"، للكاتبة الفنلندية سيلجا آهافا، ورواية "أيام فان جوخ الأخيرة" لأليسون ريتشمان،  وبمناسبة صدور ديوانه عن المركز العربي للصحافة في القاهرة كان لنا هذا الحوار حول الشعر والترجمة وهموم الكتابة.

 

** صدر لك ديوان جديد في القاهرة عن المركز العربي للصحافة وضمن سلسلة "تحولات" التي يشرف عليها الشاعر أدونيس، ما الذي يعنيه لك هذا؟

 

** سعيد أن يصدر ديواني الشعري الجديد "شمس مستعجلة" ضمن سلسلة "تحولات" في القاهرة، هذه السلسلة التي هي ثمرة تعاون بين أدونيس في الإشراف والتحرير والصحافي عبد الرحيم علي في النشر، لفتح أفق جديد للشعر العربي الجديد. إن إطلاق سلسلة كهذه ضروري جداً في وقت يعزف فيه الناشرون عن نشر الشعر، وتتراجع فيه القراءة، وتغيب معايير النشر، وتهيمن ذائقة تبسط الشعرية بطريقة تساويها بالكلام العادي. ما أعنيه بهذا هو أن طباعة الشعر لم تعد تخضع لمعايير جمالية فنية، كما أن الاعتبارات المادية والعلاقات الشخصية تَطغى على عالم النشر. ما يزيد الأمر تعقيدًا هو عزوف كثير من الناشرين العرب عن تطوير تجربة التحرير لديهم، أو إخضاع الكتاب لقراءة متخصصة، وتصحيح أخطائه، من هنا تأتي أهمية صدور ديواني الشعري "شمس مستعجلة" ضمن سلسلة تحولات. 

 

ولذا أودّ أن أنتهز الفرصة كي أشكر القيمين على السلسلة التي تمثل دعماً للشاعرات والشعراء الشبان من خلال إصدار كتبهم وهذه خدمة جليلة للثقافة العربية ستذكرها الأجيال، وهذا يشكل بالنسبة لي شخصياً قفزة نوعية على صعيد النشر.

وأشعر بغبطة خاصة لطباعة هذا الديوان، ولا يسعني إلا أن أكرر شكري على منحي هذه الفرصة الثمينة في سلسلة "تحولات"، والتي تشق مسارًا مختلفًا في عالم النشر الشعري، عربيًا.

** ما الذي يمكن أن تقوله عن ديوانك الجديد "شمس مستعجلة"، ما الذي قدمته فيه ويختلف عن سابقه؟

 

** أترك المسألة للقراء، أود أن أذكر فقط أنني أردت أن أغريهم بالغوص إلى أبعد وفي استدراجهم إلى مناطق غير مكتشفة شعريًا، وأتمنى أن أكون قد أفلحت في ذلك. 

إن الكتابة الشعرية تتجاوز ما يُجْمع عليه في مرحلة أو مدة ما، وعلى الشاعر دائماً أن يخرج على اللغة الشعرية السائدة ويبحث عن لغته الخاصة، بمعنى أن الكتابة لم تعد تنطلق من مسبق، بل تشكل نفسها وعالمها عبر تشكيلها للنص. صار النص الشعري متجاوزًا لحدوده الثقافية، ويتحرك في جغرافيا أوسع، ثمة عودة إلى الطبيعة، وتأكيد لهذه العودة، من أجل ولادة جديدة للجسد خارج التصورات الموروثة، ثمة عملية غسل وتنقية، تنطلق من جغرافيا جديدة لكنها تحيل إلى الجسد، صار عالم القصيدة أكثر حرية، فهو متجاوز للحدود الثقافية، والشعر لا يصدر عن مسبقات فكرية وذهنية، ربما يختلف هذا الكتاب في خروجه على اللغة الشعرية المتعالية على الواقع، وأعني بذلك أن شعري في هذا الديوان يتولد من علاقة بصرية مع أشياء أراها وأعيشها في أفق التجربة الحياتية أحاول أن أستقصيها وأربطها بأفق دلالي أوسع، و أحاول أن أحرر اللغة من غرورها اللفظي والإصغاء على مستوى أعمق.

** هل أثرت تجربتك في التصوير الفوتوغرافي على تجربتك في هذا الديوان؟

 

** دائمًا يقودني التصوير إلى الطبيعة وإلى جمالها، ولقد دخلتْ مفردات الطبيعة وعوالمها المقدسة إلى شعري. تبدأ القصيدة عندي من شيء مادي ملموس، أعني من لقاء بين العين وشيء مادي يثير لدي تساؤلات ويقودني إلى أبعد، وحالما تنقدح الشرارة البصرية، يتولد سياق للشيء يُخْرجه من إطاره المألوف ويشبكه بما هو أبعد منه، من خلال خيوط دلالية تكشف التقاطعات المخبأة في العالم الذي نعيشه، هذا يضيئه في محيطه وفيما وراءه، ويكشف خفاياه ويربطه بما هو أبعد منه، إنه نوع من الحكاية الشعرية المصعدة كي لا تسقط في مطب نثري، ومحاولة للخروج من الإيقاعات المألوفة، للبحث عن آفاق تعبيرية جديدة.

والتصوير له قوانينه الإبداعية المنفصلة، لكنك حين تخرج في جولة في الشارع أو في الجبال أو على شاطئ البحر كي تصور، فأنت تندغم في الإيقاع الكوني، وتتولد لديك مفردات قاموس شعري جديد، وهذا ما قادني إليه التصوير، لقد ساعدني على فهم وجودي الجسدي في سياق أكبر، في حركية التحول التي تصنع كل شيء في الوجود، وتأمل هذا التحول، يفتح منافذ جديدة للقصيدة.

 

** هل للرؤية الصوفية ملامحها في هذا الديوان كما في ديوانك السابق"وقال لي جسدي"؟

** لا أعتبر نفسي أمتلك رؤية صوفية، فنظرتي إلى الوجود لا تنبع من مؤثرات ذات طابع صوفي أو ديني. التصوف في النهاية يربط المسألة بمرجعية وبالتالي لا يمثل تحررًا عميقًا، غير أن تميز التجرية الصوفية يتجلى على صعيد الكتابة، وخاصة أنها تشكل نمطًا فريدًا في الكتابة العربية وخروجاً عن السائد لكن الشعر لا يمكن أن يربط أي شيء بمرجعية أو يسعى إلى إقناعك بالتوحد مع سيرورة خلق تدب في الوجود. في ديوان "وقال لي جسدي"، استخدمت مفردات من النفري وخاصة عبارة "وقال لي"، كي أوضح نظرتي أكثر. الجسد يقول، لا يهمس أو يتألم أو يئن أو يصدر أصواته الخاصة فحسب، الجسد أوسع وأشمل من هذا، فهو ليس فقط هذا المركّب البيولوجي المؤلَّف من لحم وعظام ودم وشرايين والمشحون بالموروث، ليس آلة بوح أو شكوى فحسب، ليس ما كُتب عنه، من أجل توجيهه وضبطه، ليس ما يُلقن له كي يقوله، الجسد هو فضاء ثقافي ووجودي وبيولوجي، وطن نعيش فيه، الوطن الحقيقي، وهو متصل بالبنيات الرمزية والأسطورية والدينية والفكرية، وبالتالي يُستتبع ويُقَوَّل ويُضْبط ويُستزلم، ولا يسمح له بأن يقول شيئًا، ولهذا جاء الديوان بعنوان "وقال لي جسدي"، ثمة لغة مضادة، غير ملقنة ولا يمليها أحد، وهي تنفجر من الجسد وتأخذ شكلًا شعريًا، والقصيدة هي إصغاء لما يُقال في هذا السياق. وفي الديوان الجديد "شمس مستعجلة"، أتحرك في مناخ حياتنا الأرضية وفي احتمالاتها.

 

 

** تعيش في أمريكا وحتمًا هناك انعكاسات على تجربتك عامة، كيف ترى هذه الانعكاسات؟

 

** لقد غيرتني الحياة في أمريكا، وغيرت نظرتي إلى الأشياء، وإلى دور الثقافة، أمريكا هي بلد الريادة العلمية والحداثة، والتعليم والجامعات الكبرى والتجريب والغليان الفني المتواصل والتقدم التكنولوجي والتوسع المديني، وكل شيء فيها ينطلق نحو المستقبل، وتشعر كما لو أنك تجري على الطريق السريع نحو المجهول، زدْ على ذلك أن أمريكا هي بلد الشعر العظيم، هناك شعراء كبار غير معروفين جيداً في لغتنا العربية، وثمة تنوع هائل للشعرية، بحسب الأزمنة والأمكنة والخلفيات الثقافية. ولقد قرأتُ شعراً عظيماً وتأثرت به، وتبين لي من خلال هذه القراءة أن الشاعر العظيم هو الذي لديه ما يقوله، بطريقة تعبير خاصة للقارئ، ثم فكرت بيني وبين نفسي أن قصيدة تمزج بين فضائيْ القصيدة العربية والقصيدة الأمريكية لا بد أن تتقدم بقوة في مسار الشعرية.  حين وصلتُ إلى أمريكا استقريتُ في مدينة شيكاغو، وهناك عثرتُ على كتاب كارل ساندبرغ "قصائد شيكاغو"، والذي ترجمته إلى العربية وصدر عن دار خطوط وظلال العام الماضي،  قراءة هذا الديوان فتحت ذهني على العالم الواقعي، عالم المهاجرين والعمال والحياة اليومية والكفاح من أجل تأمين لقمة العيش، وكيف أن اللغة الشعرية تخرج من غنائيتها التجريدية وأثقالها البلاغية كي تصبح صوت الواقع، ولكن عبر الشعر المصفى، ثمة قصائد كثيرة لساندبرغ تندرج في العادي ولكن هناك قصائد شعرية صرفة، وأخرى تعكس تأثره بالمدرسة التصويرية. التأمل في تجارب كتابية كهذه نوّر بصيرتي شعرياً.

حين تقرأ شاعرًا أمريكيا آخر مثل ماري أوليفر، والتي أحبها على نحو خاص لأنها تمتلك فلسفة خاصة في نظرتها إلى الطبيعة وتكتب بلغة تعكس فكرًا عميقًا نصل إليه من خلال شعرية أخاذة أو والاس ستيفنز، أو مروين أو لورنس فيرلينغيتي تشعر أن القصيدة هي ثورة تأخذ شكلًا لغويًا، نحتٌ في صخر اللغة العام لصناعة شكل فني، ترى أن القصيدة مشغول عليها بوسوسة فنية لانهائية، وأنها مثل لوحة بيكاسو التي تخضع إبداعيًا لعمليات هدم وحذف متلاحقة حتى تصل إلى نقطة لا تستطيع فيها أن تحذف كلمة واحدة، وذلك لتأكيد مسألة مهمة وهي أن هناك ما يُسمى لغة الشعر ولغة النثر ويجب أن يكون الفرق بينهما جلياً. أقول بكل تواضع إنني أتعلم من فتوحات تعبيرية كهذه. إن الشعر هو فن في النهاية، ويجب أن نحرص على إظهار هذا الفن.  هذا هو الباب الذي فتحتْه لي حياتي في أمريكا، أن أطلع على تجارب شعرية مختلفة، وأستقصي ما يمكن أن تقودني إليه على صعيد الكتابة. هناك أمور أخرى كثيرة يمكن التحدث عنها تتعلق بالحياة وطبيعة النظام والسياسة الخارجية والاقتصاد، لا يتسع لها المجال هنا.

 

** لك تجربة مع الترجمة مهمة جدًا، حدثنا عن هذه التجربة وتأثيراتها المختلفة؟

 

** تستهويني ترجمة الكتب، ولقد أحببت هذا منذ أن كنت طالبًا في الجامعة، عليك تكريس جزء كبير من وقتك لها لذا قد تسرقك من أن تكون شاعرا أو كاتبا قبل أي شيء آخر.

الترجمة لم تعد تساعد على الحياة بالمعنى المادي في خضم هذا التضخم، وخاصة في عالمنا العربي، كما أن كثيراً من الناشرين لا يتقيدون بالقوانين ولا يلتزمون أخلاقيًا مع المترجم، يمكن أن تمضي سنوات في ترجمة كتاب ويأتي ناشر كي يسطو على جهودك بكل برودة واستهتار. ثمة انتهاك لحقوق المترجم والمؤلف وصل حداً لا يطاق لهذا تشعر أنك تعيش في أفق من الحقوق المهدورة، كما لو أن الناشر سلطة أخرى تجهز على ما تبقى من حقوق.

 تحتاج الترجمة إلى ترسيخ العمل المؤسساتي، إن غياب هذه المعادلة يؤدي إلى استعجال في إنجاز الترجمات، وترويج الكتب التجارية، وسيطرة التجار والمتنفعين على عالم النشر. وكما تعلم، لم تعد الترجمة تخضع لمعايير دقيقة، إن أي كتاب يمكن أن يُترجم إلى لغات أخرى أو إلى العربية لأسباب لا علاقة لها بالإبداع، بالتالي علينا أن نعيد النظر في كثير من الأمور، كي تسير حركة الترجمة على المسار الصحيح.

أرغب بأن أكون شاعرًا ومبدعًا بلغتي أكثر مما أريد أن أكون مترجمًا إليها، وأسعى إلى ذلك. وما يمكن تعلمه من الترجمة لا يقدر بثمن، خاصة أنها رحلة عبر الثقافات واكتشاف لأساليب الكتابة المختلفة في لغات أخرى ما يغني التجارب الأدبية.