الأحد 5 مايو 2024

الحوارات الوطنية.. تحديات الدعوة وممكنات الإنجاز


عبد الناصر قنديل

مقالات10-7-2023 | 11:22

عبد الناصر قنديل

الدعوة التى أطلقها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى بتفعيل آلية ( الحوار الوطني ) تحت مظلة مؤسسة الرئاسة وبمشاركة كافة القوى الوطنية أضافت للمشهد بعدا جديدا
الحوار الوطنى إطار لبناء التوافق على مجموعة من أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة المقبلة سعيا نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة تتسع لكل أبنائها
تزامنت الدعوة للحوار مع وجود عدد من الأزمات والتحديات التي تتطلب إعادة تجديد الولاء الشعبى والمساندة الجماهيرية للسياسات القائمة ومدى نجازتها فى التصدى لتلك المشكلات والتغلب عليها

تمثل الحوارات الوطنية آلية بالغة المرونة والانضباط يمكن تذهب إليها الديمقراطيات الكلاسيكية بدعوة كافة الفصائل والأطياف السياسية لجلسات نقاشية وحوارية مستهدفة من ورائها تحقيق أحد هدفين رئيسيين هما

- التغلب علي حالات الاحتقان السياسى الناتج عن انسداد في ممرات التنافسية النيابية بما قد يجعل من ديمقراطية صندوق الاقتراع موضع شك وانعدام ثقة في قدرته على التعبير عن التوجهات العامة والقوى الحقيقية في المجتمع سواء لمسببات تتعلق بالقدرة على التأثير غير الموضوعى فى النتائج أو ارتفاع حدة العزوف عن المشاركة فى العمليات الانتخابية المتوالية.

- الحاجة إلي طرح بدائل للسياسات العامة تمثل تنويعات للتدخلات المنشودة للتغلب علي الأزمات المجتمعية والسياسية يمكن لمتخذ القرار الاستفادة منها وتطوير التدخلات التنفيذية فى احتواء المشكلات الناتجة عن الصراعات الإقليمية والدولية وما تتركه من أثار علي برامج التنمية الحكومية والوفاء باحتياجات المواطنين.

غير أن الدعوة التي أطلقها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في حفل إفطار الأسرة المصرية 2022 بتفعيل آلية (الحوار الوطني) تحت مظلة مؤسسة الرئاسة وبمشاركة كافة القوى الوطنية ـ دون إقصاء أو استبعاد إلا لمن تلوثت يداه بالدماءـ والتى كانت بدايتها بالمؤتمر الاقتصادى الذة انعقد فى أكتوبر من ذات العام أضافت للمشهد بعدا جديدا .

حيث أكدت الدعوة للحوار علي حيادية الرئيس وعدم انحيازه تجاه دعم ومساندة أى من القوى السياسية أو الأحزاب القائمة فى المشهد وترسيخه لمنطوق نص المادة الخامسة من الدستور والتى تجعل من التعددية السياسية والحزبية أساسا للنظام السياسى الوطنى يلجأ خلالها الرئيس لكافة القوى والجماعات السياسية والمجتمعية للتوافق حول أفضل السياسات التنفيذية التي يمكن عبرها احتواء العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن خلل في السياسات الحكومية أو متأثرة بأوضاع دولية أنتجتها أزمات وصدامات عالمية أدت لتوقف الإنتاج والتبادل الاقتصادى بين مختلف دول العالم .

حيث تزامنت الدعوة للحوار مع وجود عدد متنوع من الأزمات والتحديات التي تتطلب إعادة تجديد الولاء الشعبى والمساندة الجماهيرية للسياسات القائمة ومدي نجازتها في التصدى لتلك المشكلات والتغلب عليها بداية من التعامل مع مجتمع ما بعد جائحة كورونا ( كوفيد 19 ) التي أدت لتوقف عجلات الإنتاج وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادى وفقا لما تشير له الشواهد الأولية من أن التعافى من هذه الأزمة سيكون متفاوتاً بقدر تفاوت آثارها الاقتصادية الأولية إذ تحتاج الاقتصاديات الصاعدة والفئات المحرومة اقتصادياً وقتا أطول كثيرا لتعويض ما نجم عن الجائحة من خسائر فقدان الدخل وسبل كسب العيش كما أثرت الأزمة تأثيراً حاداً على معدلات الفقر وعدم المساواة على مستوى العالم حيث ارتفع معدل الفقر العالمى لأول مرة منذ جيل كامل وأدت حالات فقدان الدخل غير المتناسبة فيما بين الفئات المحرومة إلى ارتفاع كبير في عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها رغم كافة محاولات الاحتواء وتقليل الأضرار التي اتبعتها الحكومة المصرية في ضوء التعليمات الرئاسية.

كما كان من بين العوامل المؤثرة في المشهد العام اشتعال الاقتتال العسكرى المسلح بين روسيا وأوكرانيا والذي مثل انفجارا عنيفا للصراع المكتوم بين التحالف الغربى وبين الطموحات الروسية والتي تجاوزت أثاره الأطراف المباشرة فى أرض المعركة ليتحول لتسونامي دولى من موجات عنيفة ومتوالية لارتفاع أسعار السلع والخدمات التي اختلت سلاسل الإمداد العالمية المرتبطة بها نتيجة لفقدانها للتدفقات الآمنة منها في ضوء مكانة وحجم مساهمة أطراف القتال فى توفيرها .

ولقد أنتجت التحديات السابقة حالة من التذمر المجتمعى واضطراب الرضاء الشعبى عن السياسات العامة المطبقة وما نتج عنها من ارتفاعات في أسعار الخدمات وغياب للرقابة علي الأسواق وتراجع مستويات المعيشة حتى أن البعض رأى في الدعوة للحوار الوطنى خطوة استباقية من جانب النظام لامتصاص الغضب المتوقع في الشارع من جراء تداعيات الأزمة الاقتصادية ودعم هؤلاء تفسيرهم بأن الدعوة إلى الحوار قد جاءت ضمن ( 13 ) قرارًا لرئيس الجمهورية ارتبط اثنان منها فقط بالجانب السياسيدى وهما (القرار السادس) المتعلق بإعادة تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسى (والقرار الثامن) الخاص بالدعوة للحوار السياسي بينما غلب الطابع الاقتصادى على التكليفات الأخرى.

بينما في مقابل هذا التفسير الاقتصادى ركزت بعض أحزاب المعارضة على الترويج لتفسير سياسى مفاده أن الحوار الوطنى ليس سوى محاولة للخروج من أزمة سياسية تمر بها البلاد حيث انعكس هذا المدخل في فهم وتفسير الدعوة إلى الحوار الوطنى على طريقة تعاطى بعض فصائل المعارضة السياسية مع الحوار إذ سعت هذه القوى إلى تكييفه على أنه حوار بين السلطة والمعارضة أو الموالاة والمعارضة وأن الهدف النهائى للحوار هو إخراج النظام من أزمة متوهمة .

ومع اتخاذ الخطوات التنفيذية للحوار بالإعلان عن اختيار الأستاذ ضياء رشوان منسقا عاما للحوار والمستشار محمود فوزى رئيسا للأمانة الفنية وعضوية ( 19 ) عضوا في مجلس أمناء الحوار يمثلون ( 11 ) تيارا سياسيا ومجتمعيا وفكريا ثبتت صحة الدعوة والرؤية الرئاسية لضرورات انعقادها بإعلان الأمانة الفنية للحوار عن تلقيها لعدد ( 96،532 ) مقترحا وطلبا للمشاركة فى محاوره المختلفة وتحديد المحاور الرئيسية للحوار ( السياسى ـ الاقتصادى ـ المجتمعى ) بما انبثق عنها من لجان نوعية بلغ عددها ( 19 ) لجنة تم اختيار مقرر ومقرر مساعد لكل منها بمجموع ( 44 ) عضوا ينتمون لعدد ( 17 ) تيارا سياسيا ومجتمعيا وفكريا مع تحديد ( 113 ) قضية وطنية مطروحة للنقاش والتوافق حول التوصيات الرئيسية التي يمكن تقديمها لمؤسسة الرئاسة كبدائل قابلة للتنفيذ ومعالجة القصور أو الخلل المرتبط بالتعامل معها بما يجعل من الحوار الوطنى الحالى الأكبر والأكثر تنوعا وثراء فى التاريخ المصريى الممتد منذ وضع أسس الدولة المصرية القديمة.

والحقيقة أن الدعوة لانعقاد الحوار الوطني لم تكن ـ كما حاول البعض أن يتوهم ـ بمثابة محاولة للإفلات أو الهروب من اتخاذ النظام السياسى لعدد من الخطوات والإجراءات التى تستهدف تحقيق الإصلاح السياسى بقدر ما أتت معززة ومساندة لتلك المسارات لاسيما وأنها قد تواكبت مع اعتماد الدولة المصرية لعدد من الإجراءات المهمة لتحقيق التطور الديمقراطى والمجتمعى كان في مقدمتها الإعلان عن الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ( سبتمبر 2021 ) وإلغاء مد حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد ( 25 أكتوبر 2021 ) وتفعيل لجنة العفو الرئاسى ( 26 أبريل 2022 ) الأمر الذى يشير إلى أن الإصلاح السياسي يأتي كجزء من مبادرة يقوم بها النظام وليس محصلة لصراع سياسي بين السلطة والمعارضة وبالتالي التأكيد علي عدم دقة طرح ملف الحوار الوطنى باعتباره خطوة استباقية من جانب النظام لتجنب أزمة سياسية قائمة أو متوقعة.

في ذات الوقت فأن عملية الإصلاح السياسى هى أحد أبعاد تطور النموذج المصرى فى التحول السياسى والاقتصادى بحيث يصبح الحوار الوطنى في هذه الحالة إطارًا لبناء التوافق على مجموعة من أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة المقبلة سعيا نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة تتسع لكل أبنائها وتسعى لتحقيق السلام والبناء والتنمية حسبما ورد في كلمة رئيس الجمهورية من منطلق أن القضاء على الإرهاب وتفكيك بنيته والعمل علي تثبيت مؤسسات الدولة وقطع شوط كبير في عملية التنمية تمثل فى مجملها شروطًا ضرورية لنجاح واستدامة عملية التحول الديمقراطى والتنموى بشكل عام.

ولقد أثبتت القوى السياسية والتيارات المجتمعية مدي الاحتياج لتفعيل مثل تلك الآليات للحوار الداخلي كأداة ديمقراطية معززة لتوحيد القراءات المرتبطة بتحديات الممارسة التنفيذية وضبط وتقييم البدائل المطروحة كحلول لتلك المشكلات للتعاطى معها سواء بالتوسع في عقد اللقاءات الداخلية أو التنسيقية في إطار محاولة صياغة مواقف موحدة داعمة ومساندة للأخذ بسياسات ومداخل لتجاوز تلك التحديات حيث عقدت تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين عدد من الاجتماعات مع القوى السياسية والخبراء إضافة للقاءات الجماهيرية والشعبية في إطار محاولة رسم خارطة بالأولويات الوطنية لقضايا الحوار وهو ما تكرر مع العديد من الأحزاب والقوي السياسية التي جمعت بين السعى لصياغة مواقفها من قضايا وموضوعات الحوار وبين تعزيز الاهتمام الشعبى برصد ومتابعة الخطوات التنفيذية التى يجرى اتخاذها على الأرض مثل مستقبل وطن والشعب الجمهورى والتجمع والحركة المدنية وغيرها.

وللتدليل علي صحة الفرضيات السابقة فإننا نجد أنه خلال أسبوعين فقط من بدء الجلسات الفعلية للحوار الوطني ( 14 : 25 مايو 2023 ) قد انعقدت ( 24 ) جلسة حوارية لمناقشة ( 14 ) ملفا تمثل ( 12,4 % ) من إجمالي القضايا التي سيناقشها الحوار موزعة علي المحاور الثلاثة بإجمالي للمتحدثين بلغ ( 800 ) متحدث وبزمن ( 91 ) ساعة انعقاد حضرها ( 2060) مشارك مع فتح العديد من الملفات الهامة والحساسة على كافة المستويات بداية من طبيعة النظام الانتخابى الوطني للمعوقات التى تحول دون فعالية الأحزاب لقضايا التمييز والحاجة لإنشاء المفوضية الوطنية وقضايا الوصاية علي المال وما يصاحبها من معوقات وصولا لتقييم برامج الحماية الاجتماعية وتحديات التعليم قبل الجامعى والتي شهدت أول استجابة رسمية من مؤسسة الرئاسة التي أحالت للحوار مشروع قانون لإنشاء المجلى الأعلى للتعليم قبل الجامعي الأمر الذي يعزز من ممكنات التفاؤل والترقب لنواتج الحوار وقدرته علي الوصول للأهداف والغايات التي كانت سببا في دعوة الرئيس لتفعيل أدوات التنظيمية.

علي أن قدرة الحوار على تحقيق النتائج والمستهدفات التي تلبى الطموحات الشعبية وتعالج أى قصور أو اختلال في شكل السياسات القائمة بما يسهم في تحقيق معدلات التنمية المنشودة والارتقاء بالمستوى المعيشى للمواطنين يظل رهنا بعدد من التحديات التالية :

أولا : وجود إرادة حقيقية لدى القوى السياسية والمجتمعية للتوافق والوصول لمساحات من العمل المشترك والجبهوى لتجاوز تحديات المرحلة وتخفيف أثارها الضاغطة علي حياة المواطنين بعيدا عن ممارسات الابتزاز السياسى أو الضغط لانتزاع مكاسب حزبية ضيقة بصورة تجافي الواقع الحقيقي لطبائع الأمور أو قراءة معطيات المشهد المجتمعى فى صيغته الأصلية.

ثانيا : قدرة الأحزاب السياسية والجماعات علي ترجمة الشعارات والعبارات السياسية التي ترفعها في مواجهة السلطة القائمة لسياسات حقيقية ذات سمات موضوعية قابلة للتنفيذ وممكنة التطبيق خاصة وأن الانتقال بالشعار من دوائر الإبهار اللفظي لواقع الممارسة يظهر أن العديد من تلك اللافتات لم يكن يحمل بداخله قدرة حقيقية علي تحقيق الغايات والمستهدفات التي يعلن عنها بل وفى بعض الحالات أتت تلك الاقتراحات كأداة للنكوص عنها.

ثالثا : وجود أجندة زمنية محددة المعالم والتوقيتات فيما يتعلق بإنجاز الحوار ورفع توصياته لرئيس الجمهورية للنظر واتخاذ القرارات المرتبطة بما تتضمنه التوصيات وهو ما يمثل تحديا يحول دون تحول الحوار من وسيلة تستهدف تحقيق المصالح العليا للمواطنين إلي غاية فى ذاته تعيد إنتاج الأزمة وربما تسهم في تفاقمها.

غير أنه يبقي في النهاية أن الرئيس عبد الفتاح السيسي بدعوته للحوار الوطني  وفقا لما  أعلن عنه من محددات وغايات قد ذهب بالدولة المصرية نحو صياغة عقد اجتماعى جديد يفترض أن تسعي كافة أطرافه نحو توافق حقيقى يحدد الأولويات الرئيسية والغايات المنشودة بما يعزز من أطر ومستهدفات الجمهورية الجديدة التي سيتحمل الجميع أعباء الوصول إليها بمثل ما سيتحصلون عليه من مغانم حال الانتصاف لها.