الجمعة 10 مايو 2024

الحوار الوطني والهوية الإبداعية للمجتمع المصري


د/عبد الوهاب برانية

مقالات10-7-2023 | 11:24

د/عبد الوهاب برانية

من الضروري أن يطرح في جلسات الحوار الوطنى ولجانه الثقافية هموم المثقفين والمبدعين الذين هم جزء من القوى الناعمة التي تمثل مجتمعنا المصري
أقل ما يمكن أن نلمسه من تغييب اللغة ما نراه فى أسماء بعض الشوارع والحوانيت ومراكز البيع والتسوق، ليست لها علاقة بالهوية المصرية
الإبداع الأدبي والفني في خلق جيل واع بذاته، متدارك لهويته، يعمل دائما على إثبات وجودها والحفاظ عليها، حتى لا تكون عرضة للضياع

 

 

ماذا يعني الحوار الوطني؟.. سؤال لابد منه قبل الانتقال إلى ما بعده من حديث الهوية والإبداع، فقد اتفق في العام الماضي 2022م خلال إفطار الأسرة المصرية، أن كلف فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية كلَّ القوى الوطنية والحزبية وكافة تيارات وفئات المجتمع بإدارة حوار وطني حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة؛ لخلق مجال للقوى الوطنية كافة لإيجاد مساحة مشتركة تكون نقطة انطلاق لمناقشة كل القضايا المتنوعة التي تشغل وتهم المواطن المصري بكل فئاته وأطيافه، حيث ستتحول نتائج هذا الحوار وتوصياته إلى سياسات وقرارات تنفيذية تحقق الاستقرار والرفاهية لهذا المجتمع.

حديث الهوية

أما حديث الهوية فله شأن آخر؛ إذ الدعوة إلى الحوار الوطني ليست في أساسها إلا محاولة لترسيخ الهوية الوطنية وتعميقها في سلوكات وثقافات المجتمع المصري؛ ليتعانق الحاضر والماضي في لُحمة واحدة متوخيين مستقبلا جميلا تشرئب إليه قلوب الذين أشربوا حب الأوطان وامتلأت نفوسهم بعبق الماضي وشذى الحاضر ولا تزال تهفو إلى إشراقة المستقبل.

والهوية مشتقة من الهُوَ كما تشتق الإنسانية من الإنسان، والهوية كما يشير الجرجاني في (التعريفات): الأمر المتعقَّل من حيث امتيازه عن الأغيار، فالهوية في أساسها تنطوي على تمثيل خصوصية الوجود فيما يفرق هذا الوجود عن وجود الغير، بمعنى أن الهوية هي الوعي بالذات الموجودة المتميزة عن غيرها من الذوات الأخرى بما يجعلها كالعلامة على الشيء، تعرف به ويعرف بها. ومن هنا يأتي الحوار الوطني ليناقش التحديات التي تواجه الهوية الوطنية على جميع مستوياتها وصنوفها وطبائعها المختلفة وذلك في ظل ظروف مخاطر العولمة وما يشهده المجتمع المصري بكونه جزءا من المجتمع العالمي، يعيش مخاطر وتحديات مختلفة الأشكال، من تحديات اقتصادية واجتماعية وصحية وثقافية في ظل وسائل الاتصال السريعة والمتنوعة التي أسهمت بشكل كبير في تغيير معالم بعض الهويات وإخضاعها لمخرجاتها شديدة التأثير.

ولذا يكون من الضروري أن يطرح في جلسات هذا الحوار ولجانه الثقافية المنبثقة عن المحور الاجتماعي هموم المثقفين والمبدعين الذين هم جزء من القوى الناعمة التي تمثل مجتمعنا المصري.

تغريب اللغة

وأول ما ينبغي الالتفات إليه من ذلك محاولات تغريب وتغييب تلك الهوية المصرية، ومن مظاهر ذلك التغييب تغييب اللغة عن أصولها بتجاهلها وإهمالها حتى تغدو غريبة بين جمهورها، فينكرها أهلها، بينما يتعرفون على غيرها من اللغات ويألفونها، وهو لون من العقوق، لم يكن منتظرا من مجتمع عربي أن يتنكر للغته التي تحمل جزءا كبيرا من حضارته وثقافته وتراثه، وكم رأينا من مظاهر ذلك التغريب والتغييب للُّغة في ممارسات أصحابها، شفاهيا وكتابيا وفي المحافل والمنتديات والمؤتمرات والمحاضرات وقاعات الدراسة بالمدارس والمعاهد والجامعات، مما حدا ببعض الغيورين على اللغة إلى اتخاذ بعض الإجراءات الوقائية للحفاظ على الهوية اللغوية، مثل قرار رئيس جامعة الأزهر أ.د. سلامة داود رقم 3022 لسنة 2022م بشأن إلزام أعضاء هيئة التدريس بالقطاع العربي والشرعي والكليات المناظرة باللغة العربية الفصحى في التدريس والحوار في مرحلتي الإجازة العالية والدراسات العليا حفاظا على هويتنا العربية وتيسيرا على الطلاب الوافدين، وقد ثمَّنتُ هذا القرار وصاحبه بمقطوعة شعرية قلت فيها:

في كل يوم توافينا بمكرمة/ مذ صرت ربانها يا درة الأزهـرْ

أبنت عن معدن قد كان مدخرا/ منذ انتسبتَ إلى تعليمـــــه الأنورْ

كانت مخايلكم تنبي بمنشغل/ بما يثمن دور الأزهر الأكبر

والآن حلمك بالإصلاح نلمسه/ كأنما أنت فيه المصلح الأشهر

فسر على درب مولانا وسيدنا/ الطيب الذكر شيخ الجامع الأزهر

ذاك الذي علمه قد عز مطلبه/ ونوره ساطع كالبدر أو أكثر

ولقد بلغ تغييب الهوية اللغوية مداه، ما جعل حافظ إبراهيم شاعر النيل ينعى على صانعي ذلك التغييب منحاهم بقوله على لسان اللغة العربية:

أيهجرني قومي عفا الله عنهم/ إلى لغة لم تتصل برواة

وما أشده وأقساه استنكار حافظ في هذا البيت الشعري الاستفهامي! وقد كان ذلك قبل قرن من الزمان في حياة شاعر النيل، فماذا يكون موقف حافظ لو كان بيننا، يخالطنا ونخالطه، ويرى من تغريب اللغة ما نراه؟! وماذا عساه أن يقول حينئذ؟

وأقل ما يمكن أن نلمسه من تغييب اللغة ما نراه من وجود أسماء لبعض الشوارع، ليست لها علاقة بالهوية المصرية، مع أن حياتنا الثقافية مكتظة بالمبدعين والقامات العالية والرموز التي تمثل هويتنا، فما لهذه القامات أُبعِدتْ واحتل غيرها صدارة المشهد؟! وقل مثل ذلك في أسماء الحوانيت والمراكز الطبية والثقافية وغيرها، وكلها تعلن في صخب عن تواري الهوية الوطنية خلف هويات لا تمت إلينا بأدنى صلة.

فأسماء الشوارع والحوانيت ومراكز البيع والتسوق لا ينبغي أن تنحرف عن هذا المسار الوطني، والمعلمون والإعلاميون وأساتذة الجامعات والمحاضرون وخطباء المساجد والوعاظ كلهم يمثلون حلقات متصلة في سلسلة الحفاظ على الهوية اللغوية، وترسيخ تلك القيمة أضحى هو الآخر واجبا وطنيا يتحتم على متخذي القرار التنبه له وعدم إغفال أهميته، فاللغة من صميم رسالة هؤلاء جميعا.

ضمانات الحفاظ على الهوية

وإذا كنا نطالب بالحفاظ على الهوية الوطنية وعدم تغريبها، فمعنى ذلك أن تلك الهوية موجودة ولها جذور، وأن أفراد هذا الشعب يدركون جيدا أهمية الوعي بالذات، وأن ذلك الوعي كالجين المتوارث عبر العصور، ويبقى على الجميع ضرورة اتخاذ كل الإجراءات والاحتياطات التي تضمن لتلك الهوية الثبات والسلامة وعدم التبدل أو الاعتلال، ولذا لا يدهشنا إحساس المصري بقيمة انتمائه وارتباطه الإنساني والوجداني بوطنه، ويكون قول الزعيم الوطني مصطفى كامل: (لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا) بمثابة المرجعية الوطنية الراسخة في الانتماء والتعلق بالوطن والتشبث بكل ما ينتمي إليه.

ولقد أضحى واجبا على الجميع أن يتنبهوا إلى المخاطر المحدقة التي تنذر بتقويض بنيان الانتماء الوطني، سواء تم ذلك بوعي أو بدون وعي، وأضحى على الجميع كذلك ضرورة القيام بواجباتهم الوطنية والإنسانية والتصدي لكل المخاطر التي تهدد هذا الانتماء علانية وسرا، وكذلك ضرورة مراجعة الثقافة المجتمعية وتعزيز وجودها في كل بيت مصري.

دور الأسرة والتعليم

ومع ملاحظة أن التعليم هو الخطوة الأولى في عملية ترسيخ قيم الانتماء، فلا يمكن أبدا إغفال دور الأسرة في تشكيل أو بناء الشخصية، وبخاصة بعد أن دخلت وسائل التكنولوجيا كل بيت وغزت العقول وأحكمت قبضتها على توجهات الناشئة والطليعة والشبان والشيب معا؛ مما جعل دور الأسرة إلزاميا وحتميا إلى جوار المؤسسات التعليمية والتوعوية، فإذا انحسر هذا الدور أو توارى خلف ضغوط الحياة واكتظاظها بالشواغل والصوارف المختلفة فلا يلومن المجتمع إلا نفسه؛ إذ يكون كلٌّ قد تخلى عن دوره ومسئولياته تجاه أفراد أسرته الصغيرة المحدودة، وبالتالي فإنهم يكونون عرضة للمخاطر التي تأخذهم حيث تريد لا حيث يريد لهم ومنهم مجتمعهم، وهنا تقع التبعة على المقصرين، وما أدق وأجمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.." فهل تَحَمَّلَ كلٌّ مسئولياته تجاه مجتمعه الصغير المحدود أو مجتمعه الكبير متسع الأرجاء؟!

وعلى رأس تلك المسئوليات مسئولية الأسرة عن بناء الشخصية المنتمية الوطنية، ثم مسئولية التعليم بمناهجه وضوابطه وقيمه المثلى في هذا البناء، ولا شك في أن تراجع دور المؤسسة التعليمية جزئيا يمثل ثلمة بغيضة في جسد المجتمع، ومن لحظة غياب هذا الدور أو تراجعه حتى نكون منصفين غاب معها الضمير المراقب والحارس المتابع الأمين على عقول ووجدانات ناشئتنا، في ظل وجود البدائل أو القوالب الصماء لمراكز الدروس الخصوصية (السناتر) التي تنخر كالسوس في جسد المجتمع ومقدراته، إذ لا يعني القائمين عليها إلا تحصيل المكاسب لا ترسيخ القيم، حيث التعليم منفصلا عن التربية والتوجيه، وبالتالي تأتي مخرجات تلك المراكز مفرغة من مضمونها، بعيدة عن جينها الموروث، الذي كانت به الهوية الوطنية في مأمن ثم غدت عرضة للتمزق والضياع.

ولقد صورتُ هذه المخاطر في قصيدة بعنوان (تدارك الهوية) ومنها:

 قد كنت ألمس الاحترام براحتي/ بين الجميع فعم في الدنيا الرخاءْ

الأم نعم الأمُّ والأبُ مثلها/ هذان ليس سواهما عين الوفـــــــاءْ

والصحب والزملاء من أجيالنا/ عشنا معا بالود نعم الأصدقاءْ

قد كان ذا جيلي وجيلَ مشايخي/ ما بالها الأجيال تجتر الغثاءْ!

فُقِدَتْ هويتهم فضاعت لا ترى/ إلا هُوُيَّاتٍ هبــــــاءً فـــــــــي هبـــــاءْ

أين المبادئ؟ ويكأن أصولها/ ضاقت بدنيانا فلاذت بالخفاءْ

غابت معالم الاحترام تخرمتْ/ فتبجح الغاوون وانكسف الحياءْ

وتراجع التعليم عن أهدافــــــــــهِ/ وغدت مدارسنا خواءً في خواءْ

أين المدارس والمبادئ ويحنا؟/ أين الشباب الطامحون الأوفياءْ؟!

هي صرخة دَوَّى صداها عندنا/ والكل قلد في صداها الببغاءْ

وهنا يأتي دور الحوار الوطني ليضع يده على تلك المخاوف وينبه إلى مخاطرها على المجتمع، حين لا يكون هناك وازع ديني تتم تنشئة المتعلمين عليه، ولا وازع وطني وتربوي يتم غرسه في نفوس هؤلاء، وبالتالي يكونون عرضة للاستقطاب الفكري والعاطفي، فيسلمون أنفسهم لمن يأخذهم إلى حيث يريد.

وهنا يأتي دور الإبداع الأدبي والفني في خلق جيل واع بذاته، متدارك لهويته، يعمل دائما على إثبات وجودها والحفاظ عليها، حتى لا تكون عرضة للضياع فتأخذ معها الخيرات والمقدرات إلى طريق اللاعودة.

إن مجتمعنا المصري مجتمع حافل بألوان الإبداع وصنوف المبدعين، وهم القوى الناعمة التي تخاطب المشاعر والعقول معا، وتترك الأثر السريع في نفوس المتلقين، فقصيدة شعرية أو قصة قصيرة أو رواية أدبية بمقدورهم تغيير الكثير من سلوكيات بعضنا المستهترة، التي تسبب تراجع الهوية في تكوينها، وإن لوحة فنية ومشهدا دراميا ومقالة محررة بعناية لكفيلين بصنع عقول مشرئبة إلى المستقبل، طامحة إلى غد أجمل. فكما يترك العبث آثاره المدمرة في العقول والسلوكيات، نرى ذلك في الأغاني الهابطة والمشاهد الساقطة والتجرؤ على المبادئ والتقاليد- فعكس ذلك تماما يحدث حينما توضع للفن الضوابط، ولا يعني ذلك أننا نريد فرض الوصاية على المبدعين، بحيث نضيق عليهم الخناق ونقيد حرية التعبير لديهم، فلا يعبرون عما في نفوسهم، ولا يكونون إلا أبواقا تردد ما يُملَى عليهم، كلا وألف كلا، فليس ذلك سبيل الإبداع ولا هو من بواعثه، ولكن نريد للإبداع ألا يصرخ في واد فارغ من الآدميين، ونريده كذلك ألا يغرد خارج السرب، فما أحلى الغناء على أوتار الوطن وأعواده لمعالجة همومه وضبط معدلات الأداء عند المنتسبين إليه!

وإن على الجميع في ظل هذا الحوار الوطني أن يراجع نفسه، فيعرف ما له وما عليه، وأن يؤدي دوره ويحمل رسالته الإبداعية والفنية بأمانة، كي يسلمها إلى الأجيال القادمة بلا عوج ولا انكسار ولا تراجع عن المحيط الاجتماعي والسياسي والدولي الذي يمور بالأحداث وتتلاحق فيه الاضطرابات بشكل دائم دون هوادة أو توقف.

 

Dr.Radwa
Egypt Air