الإثنين 29 ابريل 2024

النهج الفلسفي اليوناني (3– 4)

مقالات11-7-2023 | 12:16

أنهينا الجزء الثاني من موضوعنا عند التساؤل، هل قدم لنا "ديمقريطس" و"أفلاطون" أنواعًا من المعرفة؟ نجد عزيزي القارئ خلال قراءتنا لفلسفة ديمقريطس إن أهم ما يميز نظرية المعرفة عنده أنها تميز بين (الحقيقة) و (المظاهر)، بين (العقلي) و(الحسي). أما أفلاطون فلديه المعرفة نوعان: الأول هو، معرفة ظنية بالمتغير والمحسوس. أما الثاني هو، معرفة يقينية بالتبات المعقول.

ويحدد أفلاطون المعرفة الحسية، إن من يعرف الأشياء الجميلة المتعددة لا يعرف الجمال في ذاته إنما يعيش في الحق في الحلم، أفلاطون يعرف الحلم وهو أخذ ما يشبه الشيء ليس على أنه مجرد شبيه، بل على أنه الشيء نفسه. ونستنتج من هذا الموقف نتيجتين:

الأولي: الاعتراف بأن المعرفة الحسية حتى وإن كانت ظنية غير يقينية إلا أنها نوع من المعرفة.

الثانية: إن موضوعها، أي عالم الحس ليس عالما من وجود وهي، فصحيح أنه ليس له وجود لمثل الخالص، ولكنه من الصحيح أيضا انه ليس بالعدم الخالص وإلا كانت معرفته جهلا كاملًا.

أما المعرفة اليقينية فأدتها هي العقل وموضعها هو المثل. إذآ أهم ما يميز نظرية المعرفة عند أفلاطون هو التمييز بين الحقيقة والظاهر، أي بين العقلي والحسي. ففهي هذا كان متأثرا بديمقريطس وكانت فلسفته نابعه من فلسفة ديمقريطس.

أي أنه المعرفة العقلية عند كليهما هي المعرفة اليقينية، والمعرفة الحسية عند كليهما هي نوع من المعرفة حتى وإن كانت لا تصل إلى اليقين، والمعرفة الحسية عند ديمقريطس ضرورية للمعرفة العقلية وذلك لأنها التي تمد العقل ببرهانية، أما عند أفلاطون مدخل إلى المعرفة العقلية، فلولا الأشياء المتساوية الحسية ما تذكرنا المساواة في ذاتها.

كما أن ديمقريطس أدلي برأي في إدراك الحواس للأشياء، خلاصته ان المرئيات الخارجية تنبعث عن صور علي الحواس فتؤثر فيها، فتعكس صورها في الذهن. ما صفات الأشياء كاللون والطعم والرائحة فلا تقوم بالأشاء نفسها، ولكن تنفعل لما حواسنا ولذلك نختلف في مقدار التأثر بها. أما لدي أفلاطون فنجد أن خلاصة في الشق هذا، القول بأن العلم لا يمكن أن تأتي به الحواس وحدها وغن العقل هو الاداة التي نستعين بها في الوصول إلى المعرفة مهما كان نوعها ولا بد من التفريق بين العلم الصحيح والرأي الشخصي.

 وإلي هنا سار أفلاطون في نفس الطريق التي سلكها أستاذه سقراط حيث أنتهي إلى أن المدركات العقلية وحدها التي يعبر عنها بالتعاريف هي العلم، ولكنه لم يقف عند هذا الحد الذي وقف عند سقراط، بل تابع السير حتى وصل إلى الحقيقة المطلقة بنظرية المثل. والسؤال الآن، هل نستنجد مما سبق وجود اختلاف بين اتجاه كلًا من "ديمقريطس" و"أفلاطون"؟

عزيزي القارئ أن السبب في اختلاف أتجاه ديمقريطس وأفلاطون يرجع إلى الاختلاف في مزاج كل منهما، ذلك أن ديمقريطس كان أقرب إلى العلماء، أما أفلاطون كان شاعرًا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يرجع إلى تأثير أفلاطون بهرقليطس وسقراط ومحاولته إيجاد منطقة متوسطة لنفسه بينهما. فأفلاطون يوافق هرقليطس على ان العالم متغير، ويوافق سقراط على أن العلم يكون بالكليات الثابتة.

فكان أفلاطون قد وضع الماهيات السقراطية في عالم منفصل مفارق للعالم الحسي وسماه عالم المثل، ويقول فندلباند – فيلسوف ألماني – في هذا الصدد موضحًا أثر سقراط أمد أفلاطون باللبنات الأولي التي ميزت بناءه الفلسفي عن بناء ديمقريطس. إن العلاقة الواضحة جدا بين النسقين العقليين لديمقريطس وأفلاطون تتغير فجأة إلى تضاد حاد بمجرد أن ندرك الباعث الذي تجاوز منه المفكران حسية بروتاجوراس ونسبيته وبمجرد أن نلاحظ أيضا النتائج التي نتجت من ذلك. فقد عني ديمقريطس عناية بالبصر، فيقول إن الأشياء الخارجية ينبعث عنها من تلقاء نفسها صور مادية تنطبع في الهواء بين العين والمحسوس، ثم تنعكس هذه الصورة الهوائية على العين وتنفذ إلي داخل الجسم.

وقد ذهب عند تفسير للإدراك الحسي إلى التفرقة بين الصفات النسبية المتغيرة التي ترجع إلى الذات إلى الذات المدركة، والصفات الموضوعية الثابتة المستقلة عن الذات في الأشياء المدركة. وخلاصة رأي ديمقرايطس في المعرفة هي ان اهم الحواس هي حاسة للمس، فالذوق مثلا يحدث من تلامس اللسان بالطعوم المختلفة غير ان حالة الجسم العامة تؤثر في طبيعة الإحساس، فالشيء الواحد كما يقول مثلا قد يحدث إحساسات مختلفة بحسب حالة الأشخاص الذين يتقبلون الإحساسات المختلفة. والسؤال الآن، هل قدم لنا "ديمقريطس" و"أفلاطون" تصور واضح فيما يخص الإدراك الحسي، أم انهما ترك الأمر دون تفسير واضح وصريح؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa