الإثنين 29 ابريل 2024

تلك آثارنا (17).. مسجد سارية الجبل بالقلعة

مقالات14-7-2023 | 21:28

على ربوة عالية في أعلى جبل المقطم، حيث قلعة صلاح الدين الأيوبي، أو قلعة الجبل، يطل علينا من بعيد، بمئذنته المدببة السامقة وقبابه الناهضة، عميقاً في تاريخه، وحيداً في مكانه، فريداً في طابعه، فهو أقدم عهداً من القلعة التي تحتضنه الآن وتحتويه.

وكما أنشيء وحيداً بعيداً، عاش حياته بعيداً وحيداً، ربما قل مرتاديه، وربما غفل عنه الناس فنالت منه الحياة وأعطته ظهرها، لكنه سرعان ما يجد من يحنو عليه ويرفق به، ويأخذ بيديه، فيجبر كسرته، ويقيم ظهره.

صار مقصد العلماء، والفقهاء، موطن أضرحة النبلاء والكرام. ولا يقتصر تفرد هذا الجامع على طابعه وموقع وتاريخه، بل يمتد لاسمه، فمن النادر والفريد أن نجد جامعاً، أو مسجداً، يحمل ثلاثة أسماء، لعل أكثرها شهرة اسم "سارية الجبل"،

وسمي بذلك لبنائه بالقرب من ضريح ينسب إلى الصحابي "سارية بن زنيم بن عمر بن عبد الله الكناني" أحد قادة جيوش المسلمين في عهد عمر بن الخطاب، وهو وصاحب قصة التخاطر المشهورة، التي حدثت بينه وبين أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في فتوحات بلاد فارس عام 23 هـ (645م)، فقد ناداه عمر حين كان يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم جمعة بقوله: يا سارية: "الجبل .. الجبل " أي إلزم الجبل أو احتمي بالجبل، ولم يفهم المصلون وقتها ماذا قصد بهذا أمير المؤمنين إلَّا عندما رجع "سارية" من الغزو وحكي من أن العدو تكاثر على جيش المسلمين وكانوا في خطر عظيم عندها سمع صوتاً ينادي: "يا سارية الجبل، الجبل".

عندئذ التجأ بأصحابه إلى سفح جبل وحمي الجبل مؤخرة الجيش وواجه هو وجنوده  الفرس من جهة واحدة ففتح الله عليهم وانتصروا.

ويوجد هذا الضريح المنسوب إلى الصحابي الجليل رضي الله عنه في الركن الشمالي من الفناء الخاص بالمسجد.

أما التسمية الثانية فتنسب الجامع إلى سليمان باشا الخادم، وهو الذي بناه على أنقاض مسجد قديم لأبي منصور قسطه الأرمني والي الإسكندرية في العصر الفاطمي وكان ذلك سنة 535هـ/1141م.

فأمَّا أبو منصور هذا فقد كان غلام المظفَّر بن أمير الجيوش "بدر الجمالي"، فأسلم، ليقرر الجمّالي اعتاقه، ويتقلب في وظائف الدولة الفاطمية حتى يُصبح واليًا على الإسكندرية (١١٤٠م -٥٣٥هـ)، فأسس هذا المسجد قبل بناء قلعة صلاح الدين الأيوبي بنحو ثلاثين عامًا (فقد بنيت القلعة عام 572هـ) كما هو مثبت على اللوحة التأسيسية للجامع، وقد جدده السلطان الظاهر برقوق "برقوق" عام784هـ ، بعدما شهد الجامع على حادثة الصلح بينه وبين الخليفة العباسي، إثر أزمة كادت تودي بمستقبل برقوق السلطاني.

حتى إذا جاء سليمان باشا الخادم، واليًا على مصر من قبل السلطان العثماني سليمان القانوني، أعاد بناء الجامع وجدده على النظام العثماني، فصار أول مسجد بني في مصر على الطراز العثماني وكان ذلك عام 935هـ (1528م)، وقد قام بنقل اللوحة التأسيسية  للجامع، التي ترجع إلى أبي منصور قسطه، إلى ضريح الأخير بالجهة الغربية من الجامع، ووضع بدلاً منها لوحة رخامية مثبَّته بأعلى الباب الغربي للجامع أثبت فيها هذه التجديدات.

ولا زالت هذه التجديدات هي الأبقى، ولا زالت الزخارف المعمارية على الطُرز العثمانية موجودة وباقية لليوم، ومن هنا فهو ينسب إليه.

كما عرف الجامع أو المسجد بمسجد «الدريني»، هو الاسم التالي في سجل أسماء «سارية الجبل»، ويُنسب إلى الشيخ الفقيه المحدِّث أبو الحسن علي بن مرزوق بن عبد الله الرديني، وكان يأوي إلى مسجد سعد الدولة بالقلعة، ثم تحول منه إلى هذا المسجد بعد بنائه في عهد "قسطه"، ونقل مجلسه العلميّ إليه، واستمر في  التدريس به إلى أن مات سنة 540هـ .

ظل الجامع فترة من التاريخ لا بأس بها موضع اهتمام ورعاية الحُكام، ومسرح حل معضلاتهم المعقدة، فضلاً عن مقصد للتبرُك بأضرحة من دفنوا تحت ثراه مثل الشيخ الدريني، والشيخ محمد الكعكي، وبانيه "أبو منصور القسطة"، فضلاً عن الضريح المنسوب للصحاب يالجليل "سارية بن عمر".

ويتكون المسجد من قسمين قسم مغطى بقبة في الوسط تحيط بها أنصاف قباب مزينة بنقوش ملونة، تتخللها كتابات متنوعة، ويكسو جدرانه من أسفل وزرة من الرخام تنتهي بشريط من الخط الكوفي المزهر آيات قرآنية وبتوسط جداره الشرقي محراب ومنبر من الرخام. وبالجدار الغربي باب يؤدي إلى القسم الثاني.

والقسم الثاني هو عبارة عن صحن أوسط مكشوف فرشت أرضيته بالرخام الملون يحيط به أربعة أروقات تغطيها قباب محمولة على عقود ترتكز على أكتاف وبالجهة الغربية من الصحن قبة صغيرة بها عدة قبور عليها تراكيب رخامية ذات شواهد تنتهي بنماذج مختلفة لأغطية الرأس التي كانت منتشرة في ذلك العصر.

وقد ألحق بالصحن من الجهة الغربية قبة صغيرة بها عدة قبور عليها تراكيب رخامية ذات شواهد تنتهى بنماذج مختلفة لأغطية الرأس التي كانت منتشرة في ذلك العصر.

هذا وقد كانت قباب المسجد جميعها مكسوة بالقاشاني الأخضر.

أما مئذنة الجامع فتقع بين الحرم وبيت الصلاة، وهي مشيدة على الطراز العثماني (القلم الرصاص)، وهي أسطوانية الشكل ذات تضليع ولها دورتان كل منهما تبرز عن البدن بواسطة مقرنصات متعددة المحطات، وتنتهي من أعلى بمخروط تغطيه ألواح من القاشاني الأخضر، وهذا الطراز من المآذن العثمانية ساد استعماله في أغلب المساجد التي أنشئت في العصر العثماني، وأصبح شارة من شارات العمائر الدينية العثمانية في العالم.

ولعل من الأشياء التي ينفرد بها جامع سليمان باشا احتواؤه على مساحة مكشوفة ترتكز على تسعة أعمدة خشبية، وربما كانت تستخدم للصلاة في الصيف في صحبة رياح الشمال الباردة، كما ألحق بالمسجد كُتَّاب لتعليم صغار المسلمين القرآن، ومكان للوضوء بالناحية الغربية، وحديقة بالناحية الشرقية، وتمَّ ترميم المسجد منذ ثلاثة أعوام تقريباً من قبل ورازة الآثار والسياحة.

Dr.Randa
Dr.Radwa