الإثنين 29 ابريل 2024

حدود البراح فيما هو قادم وما راح

مقالات24-7-2023 | 00:19

سأل أحد أصدقائي منذ يومين على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي "ماذا لو أتيحت لك فرصة تأليف كتاب .. ماذا سيكون عنوانه"؟ فوجدت عنوان هذا المقال وقد قفز إلى ذهني بلا أي بادرة استئذان، لا أعلم الدوافع ولا المحفزات بيد أنني من المؤمنين بشدة بكل التفاصيل المعنوية غير المادية الملموسة، وأحيا بها، وأتلمس خطواتي بالأشياء المحسوسة التي أتلذذ بها حسياً ومعنوياً، لا الملموسة التي يسهل الوصول إليها بالحواس المعتادة بعيداً عن نعمة الإحساس، أو الإبصار بالقلب.
   فدوماً ما أسأل ذاتي وأرد عليها، أيهما تفضلين المكان الطيب أم الصحبة الطيبة؟ فأرد بالطبع الصحبة الطيبة تُحَلِّي كل الأماكن، وماذا تفضلين الملبس الطيب أم الكلمة الطيبة؟ فتكون الإجابة لصالح الكلمة الطيبة التي هي ذاتها الملبس والغطاء والستر والحما من غارات البشر الكلامية والسلوكية.
   لذا، فإن كلمة "البراح" في حد ذاتها المادة الخام التي تؤسر القلب والجوارح لامتداد معانيها واتساع رقعة مرادفاتها، البراح هو طريقك للإحساس بالراحة والأمان والود والألفة والتفهم والبساطة مع شخص بعينه، أو قد يكون مع أي كائن حي آخر، أو في مكان ما بعينه، أو مع أي فعل مادي أو معنوي قد يطلقك إلى حدود عنان هذا البراح، كسماع الموسيقى، أو مشاهدة فن ما، أو ممارسة رياضة ما.
    البراح هو سبيلك للخلاص من الزحام في الفكر والبشر والأفعال وكل عالم المفروضات، هو تلك المساحة الفارغة من التشويش والتفاصيل المزعجة الممتلئة داخلنا حتى بلوغ الحلقوم وأعلى المخ، هو الملاذ الآمن في كلام بعض البشر القريب، المخلص، الوفي، صادق العهد، نقي السريرة، هؤلاء البشر -إن كانوا بشراً حقيقياً لا كائنات بين فصيلة البشر والملائكة- هم آخر دروعنا للحماية من ويلات الزمن، ومن غدر باقي البشر، ومن مساوىء أفعالهم، ومن كل ما هو ماضِ وحاضر وغيبٍ.
    تلك المساحة الممنوحة والمسموحة بين البعض والبعض الآخر كعلاقات إنسانية مفتوحة الفهم والأجل، هي سفينة نوح المُرساة على جبل الجودي، هي طوق النجاة للفرار من كل طوفان الخذلان والأحزان، لا نأمل في دنيا زاهية برّاقة نغتر بها اليوم وتغدر بنا في الغد، بقدر ما نأمل في حدود البراح في العلاقات، تلك الأماني التي قد لا تجد لها سبيلاً في بعض الأحيان، تظل حالة من الانسجام بين الشخص وذاته، يحيا بها مهما تبدلت المواقف وتغير حال الشخوص أو دوافعهم.
  ولكن يظل سقف البراح ممدوداً لكل من نراهم بقلوبنا لا أعيننا، لا نبصرهم أبدا كباقي تفاصيل البشر بأجسامهم المعتادة، وسلوكياتهم المكررة، وكلماتهم اليومية، لكننا نبصرهم بتفاصيل منزهة عن أحكام البشر وقوانينهم، وفقاً لمحكمة العدل الروحية، التي تستخدم فيها الحبر السري للنفوس، وللهوى، وللجوارح.
   إن تقوى الجوارح من تقوى النفوس، فطوبى لمن غلب طيب نفوسهم، سوء الدنيا ... وفاق براحهم، كل حدود الدنيا.

Dr.Randa
Dr.Radwa