الأربعاء 1 مايو 2024

النجار والأستاذ

مقالات29-7-2023 | 16:50

يأتي بعض الأشخاص بأشياء قد تسبب لك العديد من المشكلات أو المنغصات وهم يحسبون أنهم يقدمون لك أعظم صنائع المعروف في حين أنك تراهم قد ألقوا بك في طريق غير محبب لك على الإطلاق وهذا ما كان من صديق أبي الذي كان يعمل معلمًا بإحدى المدارس الحكومية في منتصف السبعينيات وقد كنت حينها أدرس في المرحلة الابتدائية، كان هذا الرجل يبدو لطيفًا عندما يأتي لزيارتنا وأستطيع وصفه بأنه كان خفيف الظل من خلال حديثه إلى أن اكتشفت أن هذا الوجه لم يكن إلا قناعًا زائفًا يخفي خلفه وجهًا آخر مختلف كل الاختلاف عما استوطن مخيلتي عنه، وتبدأ أحداث القصة عندما اقترح هذا الرجل على أبي اقتراحًا ظن من وجهة نظره أنه يأتي في صالحي وهو ذهابي لمنزله حتى أتلقى درسًا خصوصيًا مجانيًا عنده معللًا هذا بأنه لديه مجموعة من تلاميذ يدرسون في نفس الصف الذي أدرس فيه وجميعهم في مثل سني.

اعتذر له أبي بعد أن قدم له الشكر على عرضه قائلًا : "إحنا دلوقتي في إجازة نص السنة خليها ترتاح شوية وهى مش محتاجة لدرس خصوصي ولاحاجة، هى مجتهدة ماشاء الله عليها، وعلى كل حال كتر خيرك"، تلقى الرجل كلمات أبي على أنها وثيقة يقر فيها بالاستغناء عنه وعن خدماته، فأقسم بأغلظ الأيمان بأنه سوف يغضب كثيرًا إن لم يجدني في الغد وسط تلاميذه في التاسعة صباحًا، ثم وجه حديثه إلىّ قائلًا : "بكرة إن شاء الله تكوني موجودة وتجيبي كتبك معاكي"، نظرت إلى أبي لأجده قد استسلم لإلحاح صديقه وطلب مني مضطرًا تنفيذ هذا الأمر الذي كان في زمننا يعتبر وصمة على جبين صاحبه فعبارة درس خصوصي كانت تعني معنًا واحدًا فقط هو عدم الاجتهاد والتقصير من جانب التلميذ في استذكاره وجديته، حيث يلجأ لدرس خصوصي لمساعدته وكان هذا يعرضه للمعايرة والتنمر من قبل المحيطين به فهذا كان عملًا مشينًا في حق صاحبه.

أيقظتني أمي في الصباح الباكر وهى تواسيني قائلة: "معلش ياحبيبتي أصل بابا اتحرج منه لما لقاه مصمم على رأيه وحس إنه عايز يجامله بالطريقة دي فاضطر إنه يوافق"، أعدت لي طعام الإفطار فرفضت تناوله وأنا أتذمر من هذا الوضع الذي لم يكن في الحسبان أبدًا، وضع سيحرمني من الاستمتاع بالإجازة واللعب مع إخوتي وأبناء عمي، تفهمت أمي سبب رفضي فقامت بوضع بعض الساندوتشات لي في حقيبتي ربما أشعر بالجوع هناك فاضطر لتناول طعامي.

كان الراديو حينذاك هو الصديق الذي يلازمنا في كل وقت أذكر أنني كنت أستمع في تلك اللحظات إلى برنامج يحمل اسم "طريق السلامة" برنامج محفور في ذاكرتي بموسيقاه وأغنيته الشهيرة، ثم تلاه برنامج "همسة عتاب" بموسيقاه التي تثير الشجن للآن في نفسي وبمجرد انتهاء برنامج همسة عتاب قمت بمغادرة المنزل حتى أكون هناك في موعدي.

بخطوات تجمع ما بين الإقدام والإحجام سرت متجهمة حتى وصلت لهذا المنزل الذي سطرت في رحابه إحدى أسوأ ذكرياتي، صعدت درجات السلم حيث الحجرة التي سيكون فيها الدرس، كان المنزل في أسفله دكان نجار صغير يمتلكه أحد أخوال هذا المعلم الذي يسكن في الدور العلوي من المنزل ، لفت نظري وجود كمية هائلة من الأخشاب فوق سطح المنزل فتعجبت، ولكني ربطت بين وجودها وبين مهنة خاله على الفور، طرقت باب الحجرة وألقيت السلام على المعلم الذي كان في الغرفة بمفرده يشرب فنجانًا من القهوة ويجلس في بقعة من الحجرة تسطع فيها أشعة الشمس، رد السلام على ثم أشار لي بالجلوس على مقربة منه قائلًا : "برافو عليكي جيتي قبل الميعاد تبقي شاطرة صحيح زي ما بابا قال عنك ". 

مرت لحظات قليلة وبدأ الأولاد يتوافدون على المكان الواحد منهم تلو الآخر، يلقي كل منهم السلام ويذهب إلى مقعده بعد أن يتفقدني أولًا وهو يتساءل في نفسه عن هذا الوجه الجديد الذي حضر اليوم لأول مرة ليكون بينهم ، بدأت الجولة الأولى حين جاء أحدهم متأخرًا عن موعده بوقت كبير، طرق باب الحجرة ووجهه مبلل بالدموع مرتعدًا فهو يعلم عن معلمه مالا أعلمه أنا عنه، ومن دون سؤال علل سبب تأخيره بأن أمه لم توقظه مبكرًا ، نظر إليه المعلم بغضب شديد وأمسك به كأنه فأر صغير وقع في مصيدة أعدت للإيقاع به، قام بسحب الولد بقسوة وخرج ليلتقط عصًا من ذلك السطح الممتليء بالعصي المتنوعة في الأطوال والأحجام، ثم انهال بالضرب على جسد هذا الصغير الذي لم تفارق صورته خيالي.
 
ظل الولد يصرخ حتى وصل صوته لكل من في البيت تقريبًا فإذا بسيدة مسنة تصعد وهى تلتقط أنفاسها بصعوبة لترجوه وتتوسل إليه أن يتركه ويسامحه لأجل خاطرها، لكنه كا يرفض بشدة ويستمر في الضرب إلى أن وقفت أمامه لتمنعه وتتوعده بالمقاطعة إن لم يتركه ففعل في النهاية، إنها زوجة خاله الطيبة الحنونة التي أحببتها كثيرًا، وعلى العكس تمامًا تشكل إحساس بداخلي بالخوف الشديد من هذا الرجل القاسي القلب، بدأ بشرح أحد الأناشيد التي ما زلت أذكرها جيدًا، وأنكر عليه أن يقوم بشرحها فما أصعب أن يصف غليظ القلب صورًا جمالية بهذا الحسن، كان النشيد بعنوان "أشرق الصبح".

سأل المعلم تلاميذه عن واجبات الأمس وعن معاني مفردات النشيد التي طلب منهم حفظها وبدأ يوقفهم ويستمع إليهم وهم يواجهونه كما يواجه عصفور صغير نسر كبير يخشى أن يقضي عليه إذا ما تعثر وهذا ما حدث بالفعل مع تلميذة منهم حين تعثرت في إلقاء النشيد وبدا عليها الرعب حتى كادت أن تفقد النطق من خوفها، عنفها وطلب منها أن تفتح يدها فتفتحها وهى ترتجف لتسقط فجأة العصا على يدي أنا وتسبب لي تجمعًا دمويًا في إصبعي، بكيت بشدة وأنا أشعر بالقهر برغم كل محاولاته العديدة لإرضائي إلا أنني لم أقتنع ولم أرضى وقررت عدم العودة إلى هذا المكان فور انصرافي عنه من أول يوم وإلى الأبد. 

حانت لحظة مغادرة المكان لحظة التحرر من التواجد مع هذا الإنسان المتعجرف، حملت حقيبتي وهممت بالعودة إلى بيتي، رأتني السيدة الطيبة أثناء نزولي على السلم وأنا ما زلت أبكي فأخذت تهدئ من روعي وأدخلتني معها إلى شقتها وقدمت لي كوبًا من عصير الليمون كانت هذه السيدة تشبه كثيرًا السيدة التي قامت بأداء دور "الدادة عزيزة" في فيلم صغيرة على الحب، إنها كانت تستنكر ما حدث وتتألم من أجلي، ثم نادت على زوجها لتطلب منه ألا يترك أخشابًا على السطح بعد اليوم وأنها لم تعد تحتمل ما يحدث من ابن أخته كل يوم، عدت إلى البيت فأطلقت لنفسي العنان في إطلاق صرخة كنت قد حبستها في صدري، ومددت يدي لأضعها في يد أمي لكي ترى ما حدث لي وأنا أسرد لها تفاصيل القصة، فانفعلت وأقسمت بالله بأنها لن تدعني أذهب إليه مرة أخرى بعد أن ألحق بي الضرر النفسي والجسدي، وعند عودة أبي من عمله ومعرفته بتفاصيل ما حدث لي قام بتطييب خاطري ثم ذهب إلى صديقه معاتبًا وعاد مسرعًا ليطمئنني ويخبرني بأنه قد أنهى الأمر وبأنه لن يسمح بذهابي عنده مرة أخرى.

 كل معلم سيبقى في ذاكرة طلابه علامة على طريقهم مهما طال بهم العمر ومهما مر بهم الزمن إن كان رقيقًا لطيفًا حنونًا سيبقى أثره وتبقى سيرته العطرة تسكن وجدان طلابه فتتسابق الدعوات الطيبات له ممن تعلموا على يده كل معاني الإنسانية قبل تعليمهم ما احتوته الكتب من علم ومن فن، ومن أدب.

Dr.Randa
Dr.Radwa