يأتي هذا المقال هو الجزء الرابع والأخير مصداقًا لعنوانه، وكان هدفنا طيلة هذه السلسلة أن نقدم للقارئ صورة واضحة عن النهج الذي اُستخدمه فلاسفة اليونان، من خلال نموذجان. إلا أننا وجدنا أن هذا التصور يحتاج إلى مزيد من التفسير والتحليل، اللازمان لإكمال هذا التصور في ذهن القارئ، لذلك عزمنا أن نضيف على ما قدمناه جزآن آخران، ليكونا المتممان لهذه السلسلة.
عزيزي القارئ توقفنا في المقال السابق عند تساؤل، هل قدم لنا “ديمقريطس” و“أفلاطون” تصور واضح فيما يخص الإدراك الحسي، أم انهما ترك الأمر دون تفسير واضح وصريح؟ ولكي تكون إجابتنا دقيقة وسليمة، سنقوم بعرض التفسيرات التي قدمها لنا “ديمقريطس” و “أفلاطون”مثل: تفسير الحرارة والبرودة، والرؤية وغيرها من التفسيرات التي تندرج تحت الإدراك الحسي.
نبدأ عزيزي القارئ بتفسير الحرارة، يري “أفلاطون” أن الإحساس بالحرارة يرجع إلى ان الأجسام الأولية، او الجسيمات، أو القصيمات، او الذرات، التي يتكون مها عنصر النار والتي تتصف بنعومتها ودقة أضلاعها وحدة زواياها وسرعة حركتها حيث ان صورتها هي الرباعي الأوجه أو الخرم، فينشأ عن ذلك التأثير المادي الانفعال الحسي بالحرارة أو الإحساس بالحرارة ويظهر تأثير “ديمقريطس” واضحًا حيث انه يري ببساطة أن ذرات الأجسام الخارجية تصطدم بذرات النفس المنتشرة في أنحاء البدن تبدل مواضعها ويتبع ذبك إحساسًا معينًا. هذا عن الحرارة، وماذا عن البرودة؟
يري“أفلاطون” ان الإحساس بالبرودة يرجع إلى ان الأجسام التي تتكون منها المواد الرطبة تدخل البدن فتلفتي بالأجسام التي يتكون منها هو أيضًا، ونظرًا لأن عنصر الماء يتكون كما يقول “أفلاطون” من أضخم الأجسام فإن هذه الأجسام تضغط أجسام البدن فيتغير أشكال هذه الأجسام بسبب الضغط عليها فتصبح ساكنة متوازية بعد أن كانت متحركة غير متوازية، أي يصبح لها صورة العشرين وجهًا بعد أن كان لها صورة الرباعي الأوجه.
وذلك إن “أفلاطون” يمنح الماء أعسر أنواع المجسمات أو الجسيمات حركة، ويهب النار أيسر أنواع الجسيمات حركة. وهكذا يفسر “أفلاطون”متأثرًا بـ”ديمقريطس”الصفات الحسية بفعل أشكال أو صور الأجسام الأولية (الذرات عند “ديمقريطس”).
ونأتي الآن لتفسير الرؤية، يري “أفلاطون” ان العينين أو (حاملي النور) على حد تعبيره خلقت من نار صافية لا تحرق تفيض نورًا لطيفًا يألف كل نهار. فيعتقد “أفلاطون” ان الرؤية تتم عن طريق لقاء تيارين من النور، ينبعث الأول من العينين والثاني يصدر عن الأجسام المرئية، ويجب أن ننتبه أيضًا إلى وجه آخر للتشابه ينم عن تأثير “ديمقريطس” المقدس على“أفلاطون” الإلهي وهو أن نور العينين الذي يدرك المرئيات هو في حقيقته نار أي أن ما يدرك المرئيات هو من طبيعة نارية وهذا أيضًا هو رأي “ديمقريطس”الذي ذهب إلى ان ذرات لعقل نارية كروية.
وهناك أيضًا تفسير يتعلق بالطعوم أو المذاقات، يفسر “أفلاطون” الطعوم المختلفة بنظرية الجسيمات أيضًا، أي انه الجسيمات المنظفة غاية التنظيف إلى درجة إتلاف الأنسجة تعطينا الطعم المر، والتي تتبخر في حرارة الفم وتتسرب في الأنف تسمي حادة، والتي تحدث تخمري تسمي مزة، والتي تلائم حالة اللسان تسمي عذبة. فهناك إذًا سبعة طعوم أو مذاقات أساسية في رأي “أفلاطون”.
وأيضًا تفسير الروائح،يفسر “أفلاطون” حاسة الشم بنظرية الجسيمات أيضًا، فيقول من وجهة نظرة أن ثمة ضباب أو دخان يدخل إلى الانف فينشأ الإحساس بالروائح وهذا الضباب أو الدخان يتكون بالطبع من جسيمات صغيرة تلتقي بجسيمات البدن فيحدث الشم والإحساس بالروائح.
وأيضًا تفسير الصوت والسمع، يفسر “أفلاطون” الصوت بأنه صدمة ينقلها الهواء خلال الأذنين إلى الروح، والحركة الناشئة عن هذه الصدة هي السمع وهذا هو نفس تفسير “ديمقريطس” للسمع بدون أي تعديل كما هو واضح من النفس.
وهناك أيضًا تفسير الألوان، يقول في تفسيره للون الأبيض والأسود على سبيل المثال، فهو يفسر الألوان أيضًا على أساس نظرية الجسيمات، فيقول إن الأجسام الأولية أو الجسيمات الصغرى عندما تندفع منطلقة من الأشياء الأخرى وتقع على البصر، تكون عناصرها أصغر وأكبر أو معادلة البصر أو تصغرها، فالأولي منها تضم شمل تيار البصر، والثانية تبعثره.
وأيضًا تفسير الإحساس باللذة والألم، يعتقد “أفلاطون” أن الإحساس بالألم ينشأ عندما يدخل البدن جسيمات مخالفة في طبيعتها لجسيمات البدن،فمثلا إذًا دخلت جسيمات مواد رطبة أي من طبيعة مائية،إلى البدن في الوقت الذي تكون فيه جسيماته متحركة غير متوازية، أي تكون ذات طبيعة نارية عندئذ نحس بألم البرد، أما الإحساس باللذة فينشأ عندما تدخل البدن جسيمات توافق طبيعته بالمعني الذي بيناه.
وهكذا يقدم لنا “أفلاطون” في طيمايوس نظرية آلية في تفسير الإدراك الحسي هي نفسها نظرية “ديمقريطس”التي تعرضنا لها من قبل. والسؤال الآن، هل قدم لنا هذان الفيلسوفان تفسيرًا واضحًا للوجود؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع مقالنا القادم.