في حي عتيق من أحياء القاهرة القديمة، يحمل اسم قائد مملوكي شجاع، وسلطان عظيم من سلاطنة المماليك، صاحب أسطورة شعبية لا زالت تحتفظ بها الذاكرة الجمعية والتراث الشعبي، هو السلطان "الظاهر بيبرس"، رابع سلاطين الدولة المملوكية، هذا الحي الذي له طابع الخاص، وتاريخ عريق، وأينما دبّت قدماك، وحيثما يممت وجهك وألقيت بصرك سوف يطالعك التاريخ فيه، من شرفات المنازل، ومن مآذن المساجد وأبراج الكنائس، ومن واجهات المعابد القديمة، ومن أنفاس الأزقة وروائح الشوارع وألوان أحجار البيوت.
في هذا الحي المتخم بعبق التاريخ وأنفاس الحياة، يحتل قصر من أروع قصور القاهرة التاريخية ميداناً تخرج منه الشوارع والطرق كأنه الشمس المشرقة وهي الأشعة الخارجة منه، وهو قصر حبيب باشا السكاكيني.
يقبع القصر في مكانه، منذ أن أنشأه صاحبه عام 1897، لم تتغير معالمه وهيئته، بيد أن حالته تغيرت، فقد أصابه من الوهن والضعف ما يصيب من يدور عليه الزمان من المباني والإنسان، بينما تغيرت الشوارع حوله، وتغولت المباني في محيطه واستطالت عليه، وهو لا يزال منتصب القامة مرفوع الهامة، وسط ميدان يحمل اسم صاحبه،
اختار حبيب باشا السكاكيني لقصره موقعاً جذاباً، يحتل فيه مركزاً يشع منه ثمانية طرق رئيسية، أشهرها ما صار شارعاً باسمه، وبالتالي أصبح القصر نقطة مركزية في المنطقة.
أشرف على بناء القصر معماريون إيطاليون، جاءوا خصيصاً للمشاركة في بنائه، ليكون نسحة من قصر قد شاهده حبيب باشا في إيطاليا ووقع في غرامه، فأراد أن يبني مثيله في مصر فكان هذا القصر المميَّز في طابعه ومعماره، وقد تداخلت فيه طرز وعناصر معمارية وزخرفية مختلفة، لكنه يعدُّ نموذجاً فريداً لفن الروكوكو في مصر.
لم يكن من السهل الحصول على مثل هذا الموقع لبناء القصر عليه في ذلك الوقت، لكن علاقة السكاكيني باشا مع خديوي مصر سهلت هذه المهمة. فقد وصل جابرييل حبيب السكاكيني المولود في دمشق بسورية، إلى مصر وهو في عمر يتراوح بين 16-17 سنة ليتولى وظيفة في شركة قناة السويس الوليدة في بورسعيد، وبعد أربع سنوات عمل لحسابها بمبلغ بسيط من 3-4 فرنكات فرنسية في الشهر، انتقل إلى القاهرة بعدها، فقد ساقته الأقدار ليكون مقرباً لدى خديوي مصر، إسماعيل باشا، وذلك عندما ساهم في حل مشكلة انتشار الفئران في منطقة قناة السويس في غضون أيام عن طريق نشر قطعان من القطط الجائعة فأكلت الفئران فيها، وقضت على الوباء قبل استفحاله.
ولنباهته وقدرته على حسن التصرف والمبادرة كلفه الخديوي بمهمة استكمال بناء الأوبرا الخديوية، فعمل فيها تحت أشراف المعماري الإيطالي بيترو أفوسكاني Pietro Avoscani، كان الوقت المطلوب للتنفيذ ومن ثم الافتتاح قصيراً، فابتكر السكاكيني نظام العمل في ورديات (shift)، 3 فترات في 8 ساعات للفترة الواحدة لمدة 90 يوماً، حتى نجح و انتهت أعمال بناء دار الأوبرا في الوقت المناسب لوصول وزيارة الملوك الأوروبيين إلى مصر لحضور أفخم احتفال لافتتاح قناة السويس في 17 نوفمبر 1869. وكان الخديوي إسماعيل سخيَّاً معه بطريقة لا حدود لها، فكافأه بأن أسند إليه من ساعتها، عقود الأشغال العامة، فصار في النهاية من المقاولين الأثرياء في ذلك الزمان، وحصل على لقب "البكاوية" وهو في سن الـ 39 عاماً ثم الباشوية بعدها بسنوات، ويقال أنه جمع ثروته من تجارة السكاكين والأسلحة، ولهذا سمي بالسكاكيني وذلك قبل العمل في المقاولات.
وقد بنى قصره هذا على قطعة أرض منحت له على بركة أرض تسمى بركة "الشيخ قمر" بحي الظاهر (نسبة إلى الظاهر بيبرس السلطان المملوكي الذي بنى جامعه الشهير بالحي ويحمل اسمه حتى اليوم). ولا زال هناك شارع بالحي رئيسي يسمى "شارع الشيخ قمر".
شُيِّد القصر على مساحة 2698 متراً مربعاً، و يضم أكثر من 50 غرفة، ويصل ارتفاعه لخمسة طوابق، ويحتوى على أكثر من 400 نافذة وباب و 300 تمثال (العهدة على ما يذكره الآخرون)، للعديد من الأفراد منها تمثال نصفي لحبيب باشا السكاكيني.
وقباب القصر مبنية على الطراز البيزنطي المنتمي للعصور الوسطى، وان كانت حديقة القصر الملتفة حول المبنى ضيقة بعض الشيء ولا تناسب مساحته الكبيرة غير أنها لا زالت تحتفظ ببعض أشكالها العتيقة.
كان يوجد داخل القصر تمثال فتاة درة التاج، وبقايا تمثال على هيئة تمساح فضلا عن أشكال فتيات وأطفال، وتماثيل صنعت من الرخام لسباع في الحديقة، اختفى لونها الأصلي وتآكل سطحها.
ويوجد في القصر بدروم يحيط بأركانه 4 أبراج، به 3 قاعات متسعة و4 صالات، فضلاً عن الغرف المخصصة للخدم.
توفي صاحب القصر عام 1923 وتم تقسيم ثروته، ثم انتقلت ملكية القصر إلى وزارة الصحة المصرية فقد كان أحد ورثة السكاكيني باشا طبيبا، وفي عام 1961 تم نقل متحف التثقيف الصحي من عابدين إلى القصر بأمر من محافظ القاهرة، وفي 1987 تم نقل متحف التثقيف الصحي من عابدين إلى قصر المعهد الفني بإمبابة ليتحول إلى أحد المعالم الأثرية والتاريخية المهمة، ضمن قطاع الآثار الإسلامية والقبطية التابع لهيئة الآثار (وزارة السياحة والآثار حالياً) بعدما صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1691 لسنة 1987 ليتم تسجيله كمعلم أثري تحت رعاية المجلس الأعلى للآثار.
القصر الآن يخضع إلى مشروع ترميم وصيانة وتأهيل قد يستغرق عامين أو أكثر؛ في محاولة لعودته إلى الحياة وعودة الحياة إليه، وليعود إلى رونقه القديم كتحفة معمارية فريد من نوعها في مدينة القاهرة وشاهدة على تاريخ الحي العريق وتاريخ العمارة في مصر.