الجمعة 17 مايو 2024

رفاعة الطهطاوى والنفى إلى السودان


د. انتصار محمد

مقالات10-8-2023 | 18:25

د. انتصار محمد

● أثار نفى رفاعة عديدا من التأويلات والتفسيرات التى لا يمكن أن يغفل عنها التاريخ والمؤرخون والتى ترتبط ارتباطا وثيقا بإشكالية عصر عباس الأول
● قضى رِفاعة فى السودان نحو ثلاث سنوات قاسى فيها الأمَرَّين، لا كُرهًا فى السودان وإنما لشعوره أنها منفى، ولم يعد إلى مصر إلا بعد اغتيال الخديوى عباس الأول
من المسكوت عنه فى التاريخ الحديث والمعاصر والغموض يشوبه هى الغمامة التاريخية التى أحاطت بنفى رفاعة الطهطاوى إلى بلاد السودان والأسباب الحقيقية وراء نفيه فى عهد عباس الأول الذى تولى عرش مصر فى 27 نوفمبر  ١٨٤٨م بعد وفاة إبراهيم باشا، وكان محمد على لا يزال حيًّا يعانى من مرضه الأخير وفى 2 أغسطس ١٨٤٩م انتقل محمد على إلى الرفيق الأعلى، فاستقلَّ عباس بحكم  مصر فترة مابين 1848 – 1854.
وأنا هنا لا أتحدث عن تلك الفترة من عهد عباس الأول وما بها من تقييمات إيجابية أو سلبيات أحاطت به، ولكن السؤال هو ماذا حدث لرفاعة الطهطاوى فى عهد عباس الأول  بعد أن كانت مكانة الطهطاوى تحلق فى الأفق فى عهد محمد على باشا، فقد حظى رفاعة بمكانة عظيمة كتبت فى التاريخ وسجل التاريخ مجهوداته وأعماله حتى أطلق علية رائد حركة النهضة المصرية الحديثة فى التعليم والفكر والترجمة والأدب والتأليف والصحافة  وغيرها  فهو علم من علماء مصر.
عام ١٨٢٦ م اختير لمنصب "إمام وواعظ" فى البعثة العلمية التى أرسلها محمد على إلى فرنسا. وذلك بعد أن رشحه شيخه ومعلمه حسن العطار أن يكون أماما للبعثة، والتى بلغ عددها أربعين طالبا تم أرسلهم على متن السفينة الحربية الفرنسية (لاترويت) لدراسة العلوم الحديثة، ودرس رفاعة اللغة الفرنسية هناك وبدأ بممارسة علم الترجمة، وبعد خمسٍ سنوات حافلة أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدَّم مخطوطة كتابه الذى نال بعد ذلك شهرة واسعة "تخليص الإِبريز فى تلخيص باريز".
وعاد رفاعة الطهطاوى لمصر  1831م ولديه من الطموح والآمال الواسعة، فاشتغل بالترجمة فى مدرسة الطب التى افتتحت فى أبى زعبل، فى عام ١٨٣٣ انتقل من مدرسة الطب إلى مدرسة المدفعية طره،ثم عمل على تطوير مناهج الدراسة فى العلوم الطبيعية.  
واقترح على محمد على إنشاء مدرسة الألسن فوافق وعهد إليه باختيار طلابها وتم افتتاحها عام 1835م مدرسة للترجمة، التى صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعُين مديرًا لها إلى جانب عمله مدرسًا بها واستمرت مدرسة الألسن تعمل لنحو خمسة عشر عامًا، تحولت خلالها إلى منارة للعلم والمعرفة، وواصل الطهطاوى مشروعه التنويرى والثقافى ووضع أساس الحركة النهضوية فى شتى المجالات إلى أن تولى الخديوى عباس الأول حكم مصر وهنا تبدلت الأحوال وواجه رفاعة الطهطاوى الكثير من المشكلات، فقد أغلق مدرسة الألسن وأوقف أعمال الترجمة، وقصر توزيع جريدة الوقائع على كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفى رفاعة إلى السودان سنة  1850م، وهنا أثار نفيه عديدا من التأويلات والتفسيرات التى لا يمكن أن يغفل عنها التاريخ والمؤرخون والتى ترتبط أرتباط وثيق بأشكالية عصر عباس الأول.
فى مقدمتها ما جمع عليه المؤرخون بأن عصر عباس باشا الأول عهد الرجعية، ففيه وقفت حركة التقدم والنهضة التى ظهرت فى عهد محمد على باشا، لم يكن عباس كجدِّه وعمِّه، بل لعلَّه كان على النقيض منهما؛ ولهذا يكاد يُجمِع مؤرخو عصره على وصْفه بالجمود والرجعية.
فقد ذكر الأستاذ الدكتور عماد أبو غازى فى مقدمة كتاب الطهطاوى «المرشد الأمين للبنات والبنين»: كان رفاعة صاحب مشروع حضارى وثقافى لتحديث مصر فكريا، والتقى مشروعه بمشروع محمد علي لبناء الدولة الحديثة، فكان نموذجا إيجابيا للقاء المفكر بالدولة، وقف معها عندما كان مشروعه الفكرى متوافقا مع مشروعها السياسى فى عصر محمد على وإسماعيل، وابتعد، بل أُبعد ونُفى عندما اصطدم المشروعان فى عصر عباس الأول وهو الخديوى القائل "الأمة الجاهلة أسلس قيادة من الأمة المتعلمة".
بينما قرأت للأستاذ عبد الرحمن الرافعى أن هناك سببَا يتصل بنفى رفاعة الطهطاوى ربما ما كتبه الأخير فى كتابه «تخليص الإبريز» إذ أنه يحوى آراءً ومبادئ لا يرغَب فيها الحاكم المُستبد. وعباس باشا الأول كان فى طبعِه مُستبدًّا غشومًا، فلا بدَّ أنَّ الوُشاة قد لفتوا نظره إلى ما فى كتاب رِفاعة ممَّا لا يعجب الخديوى عباس، فرأى أن يُبعِده إلى الخرطوم ليكون السودان منفًى له. فمن الجائز أن يكون عباس باشا قد رأى نفى رفاعة وأمثال رفاعة إِلى السودان ليُبعِدهم ويُبعِد أفكارهم وثقافتهم عن مصر، واتَّخذ لنفيهم أسباب ذات واجهة وهى الاستفادة بهم فى إنشاء مدرسة بالخرطوم.
ويري المُؤرِّخ الإيطالى «ساماركو»: «أن أظهر ما تتَّسِم به حكومة عباس عداؤه الوحشي للحضارة الغربية، وكرهه العنيف لجميع الأعمال التى كوَّنت مَجد جدِّه، والتى بذل هو كلَّ الجهد فى تحطِيمها شيئًا فشيئًا.
وذكر الدكتور عزت عبد الكريم أن الخديوى عبَّاس أن «سياسة عباس قامت على تَسفِيه الجهود التى بذلَها محمد على وإبراهيم فى ميدان الإصلاح الداخلى"
وأنَّ هناك احتمالَين لإبعاد رِفاعة إلى السودان، أولهما: سعى علي مبارك "الذى عاد من أوروبا مليئًا بالأطماع والذى كان يَحقِد على رِفاعة وما وصل إليه من مكانة عظيمة. وقد قرَّب عباس إليه علي مبارك وأبعد رِفاعة إلى السودان، والثانى: ما يُحتمَل أن يكون رِفاعة قد لقِيَه من مُعارضة بعض المشايخ المُتعصِّبين الذين ربما عدُّوه مُتطفِّلًا على مَيدانهم فى دراسة الشريعة والفقه ".
وتظل إلى الأن الأقاويل  والتفسيرات والتحليلات التاريخية تدور حول حقيقة ما وراء نفى رفاعة الطهطاوى  والعلاقة الشائكة بينه وبين الخديوى عباس الأول لم يوضِّح رِفاعة نفسه ولم يوضِّح المؤرخون المُعاصِرون أسبابه الحقيقية. ولكنهم ربطوا بين سياسة الخديوى عباس الأول وما حدث لرفاعة الطهطاوى طوال فترة حكم الخديوي عباس، ولكن فى الأخير كلها لا تستند لسند أو وثيقة تاريخية ..
عام 1849م، صدرت أوامر لرفاعة الطهطاوى بالذهاب إلى السودان لتولى نظارة مدرسة ابتدائية يقوم بإنشائها هناك، فتلقى رفاعة الأمر بجلد وصبر وكان الأمر أشبه بمنفى لرفاعة، وذهب إلى هناك، وظل هناك فترة دون عمل استغلها في ترجمة رواية فرنسية شهيرة بعنوان «مغامرات تلماك»أو " مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك لمؤلفها الفرنسى فينيلون، ثم قام بإنشاء المدرسة الابتدائية، التي ضمت نحو أربعين تلميذًا، ولم يستنكف «المعلم الأول» أن يدير مدرسة صغيرة، وأولى تلاميذها عناية خاصة. واشترك معه في التدريس علَم من أعلام النهضة العلمية التعليمية في عصر محمد على؛ وهو محمد أفندى بيومى أستاذ الرياضيات فى المهندسخانة ورئيس أحد أقلام غرفة الترجمة.
وعن فترة نفى الطهطاوى إلى السودان قال " تّوجهت بالقضاء والقدر إلى بلاد السودان وليس فيما قضاه الله مفر، أقمت بُرهة خامدالهمة،جامد القريحة في هذه المُلمّة،حتى كاد يُتلفني سعير الإقليم الغائر بحّره وسمومه، ويبلعنى فيل السودان الكاسر بخرطومه، فما تسليّت إلا بتعريب تليماك وتقريب الرجاء بدور الأفلاك".
قضى رِفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات قاسى فيها الأمَرَّين، لا كُرهًا في السودان وأنما لشعوره انها منفى، فهو القائل: "فمتى زالت من السودان وسائل الوخامة والسقامة, ودخلت أهاليها بحسن الإدارة فى دائرة الاستقامة، صارت هى والديار المصرية  فى العمار كالتوأمين، وفى إيناع الأثمار صنوين
نحن غُصنان ضمَّنا عاطف الوجــد جميعًا فى الحب ضمَّ النطاق
                 فى جبين الزمان منك ومني غُرة كوكبية الإنفلاق
عاد رفاعة إلى مصر بعد اغتيال الخديوى عباس الأول عام 1854 فى قصره المطل على النيل ببنها. ثم تولى الحكم سعيد باشا ،وأسند إلى رفاعة الطهطاوى فى عهد الوالى الجديد سعيد باشا عدة مناصب تربوية، فى عام ١٨٥٥م أوكل إليه محمد سعيد باشا رئاسة المدرسة الحربية، وقد جمع بين هذه الوظيفة ونظارة قلم الترجمة، ورئاسة مدرسة المحاسبة والهندسة ومدرسة العمارة، ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربى، وقضى فترة حافلة أخرى من العمل الجامع بين الأصالة والمعاصرة حتى انتكس سعيد فأغلق المدارس وفصل رفاعة عن عمله سنة 1861م.
وفي سنة  1863م تولى الخديوى إسماعيل الحكم، وعاد رفاعة للعمل وتولى رئاسة تحرير  أول مجلة ثقافية فى تاريخ مصر "روضة المدارس".  
إحياء التراث ، و ظل الطهطاوى يعمل في الكتابة والترجمة والتأليف حتى توفى فى 27 مايو 1873 م عن عمر يناهز 72 عاما تقريبا.
رفاعة الطهطاوى أصبح رمزَا لعصره كله نظرًا لميزاته الشخصية العديدة ولكن أهمها أنه نظر إلى الجديد بعين أصيلة لم تتنكر لذاتها ولم تبدأ من الصفر.