- استأجر رفاعة لنفسه معلما خاصًا يعطيه دروسًا فى الفرنسية نظير بضعة فرنكات كان يستقطعها من مصروفه الشخصى الذى كانت تقدمه له إدارة البعثة
- رفاعة الطهطاوى ظاهرة ثقافية فريدة فى تاريخ مصر المعاصر استحق أن يطلق عليه لقب رائد التنوير في العصر الحديث، لما تميز به من علم ورؤية
- كان رفاعة أصيلا ومعاصرا، فقد ترجم فيه متون الفلسفة ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم، ثم نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية، ويستصدر أمراً لصيانتها، ومنعها من التهريب
ربما يرسم المرء لحياته خطا ونهجا يسير عليه، لينتهى به الطريق إلى حيث يصبو. لكن كم من العلماء والشخصيات الفذة فى حياتنا ومجتمعاتنا أرادت تحقيق هدف بعينه، لتدرك ما تتمناه، وينتهى بها المطاف إلى حيث يشاء الله، أو إلى حيث قدر لها أن تكون. ويقدم لنا التاريخ أمثلة كثيرة من هؤلاء العلماء والنجوم الذين يعيشون فى عالمنا.
فحين جاء الشيخ طه حسين من بلده فى الصعيد إلى القاهرة للدراسة بالأزهر الشريف لم يكن يخطر بباله سيسافر إلى فرنسا، بل ويتزوج سيدة فرنسية، كانت سنده فة غربته، وأنه سيصبح عميدا للأدب العربى.
وحين جاء أحد المخرجين في السينما الغربية ليختار بطلا مصريا لأحد أفلامه، وهو الفنان رشدى أباظه، وقع اختياره النهائى على عمر الشريف بدلا منه، لينطلق من بعدها إلى العالمية، ويصبح نجما من نجوم هوليوود، رغم أنه لم يخطط إلى ذلك، والصدفة والقدر هما من رسما له طريقا مغايرا لما كان يسير عليه.
وهاهو رفاعة الطهطاوى، الذي جاء من بلدته فى الصعيد للدراسة بالأزهر الشريف، فتكلفه الحكومة المصرية بمرافقة البعثة التعليمية إلى باريس ليشرف على شؤونها الدينية ويعلم أعضاءها شعائر الإسلام ويعمل على مراعاتهم لها أثناء دراستهم بفرنسا عام 1826م. غير أن القدر كان له رأى آخر، ويتحول الشيخ رفاعة إلى الدراسة كبقية أعضاء البعثة، إضافة إلى عمله الدينى الذى رافق البعثة التعليمية المصرية لأجله، ويعود إلى مصر عالما رفيع الشأن والمقام، ويصبح رائدا للتنوير فيها. فما القصة؟
ولد رفاعة رافع الطهطاوى فى 15 أكتوبر سنة 1801م فى مدينة طهطا، بسوهاج؛ ولقى عناية خاصة من أبيه، على الرغم من تنقله بين عدة بلاد فى صعيد مصر؛ فحفظ القرآن الكريم، ثم عاد إلى موطنه طهطا بعد أن توفى والده. ووجد من أخواله، وهم شيوخ وعلماء، اهتماما كبيرا، فحفظ على أيديهم المتون التى كانت متداولة فى هذا العصر، وقرأ عليهم شيئا من الفقه والنحو.
ولما بلغ رفاعة السادسة عشرة من عمره التحق بالأزهر في سنة 1817م، حيث تتلمذ عل يد عدد من علماء الأزهر الكبار، وكان من بينهم الشيخ حسن القويسنى، وإبراهيم البيجورى، وحسن العطار، وكان هذا الأخير ممن وثق الطهطاوى صلته بهم ولازمهم وتأثر بهم. وتميز الشيخ العطار عن أقرانه من علماء عصره بالنظر في العلوم الأخرى غير الشرعية واللغوية، كالتاريخ والجغرافيا والطب، واستفاد من رحلاته الكثيرة واتصاله بعلماء الحملة الفرنسية فى المجمع العلمى بالقاهرة.
وبعد أن أمضى رفاعة فى الأزهر ست سنوات، عمل بالتدريس فيه سنة 1821 م وهو فى الحادية والعشرين من عمره، والتف حوله الطلبة يتلقون عنه علوم المنطق والحديث والبلاغة والعروض. وكانت له طريقة آسرة فى الشرح جعلت الطلبة يتعلقون به ويقبلون على درسه، ثم ترك التدريس بعد عامين والتحق للعمل بالجيش المصرى الذي أنشأه محمد على إماما وواعظا لإحدى فرقه.
وفي سنة 1826م قررت الحكومة المصرية إيفاد بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا لدراسة العلوم والمعارف الإنسانية، في الإدارة والهندسة الحربية، والكيمياء، والطب البشرى والبيطرى، وعلوم البحرية، والزراعة والعمارة والمعادن والتاريخ الطبيعى. وبالإضافة إلى هذه التخصصات يدرسون جميعا اللغة والحساب والرسم والتاريخ والجغرافيا. وحرصا من محمد على باشا على أعضاء البعثة من الذوبان فى المجتمع الغربي قرر أن يصحبهم ثلاثة من علماء الأزهر الشريف لإمامتهم في الصلاة ووعظهم وإرشادهم، وكان رفاعة الطهطاوى واحدا من هؤلاء الثلاثة، ورشحه لذلك شيخه حسن العطار.
وما إن تحركت السفينة التي تحمل أعضاء البعثة حتى بدأ الطهطاوى في تعلم الفرنسية في جدية ظاهرة، وكأنه يعد نفسه ليكون ضمن أعضاء البعثة لا أن يكون مرشدها وإمامها فحسب، ثم استكمل تعلم الفرنسية بعدما نزلت البعثة باريس؛ حيث استأجر لنفسه معلما خاصًا يعطيه دروسًا في الفرنسية نظير بضعة فرنكات كان يستقطعها من مصروفه الشخصى الذي كانت تقدمه له إدارة البعثة وكان قدره 250 قرشا في الشهر، وأخذ يشترى كتبًا خاصة بالفرنسية، وانهمك في قراءتها. وأمام هذه الرغبة الجامحة للشيخ رفاعة فى التعلم قررت الحكومة المصرية ضم رفاعة إلى بعثتها التعليمية، وأن يتخصص فى الترجمة؛ لتفوقه على زملائه فى اللغة العربية والثقافة الأزهرية. وقد لقى رفاعة عناية ظاهرة من العالم الفرنسى جومار الذى عهد إليه محمد علي بالإشراف العلمى على البعثة، ومن المستشرق الفرنسي الكبير دي ساسى، واجتاز كل الامتحانات التى عقدت له بنجاح باهر، وكانت التقارير التى ترسل إلى محمد علي تتابع أخبار البعثة تخص رفاعة بالثناء والتقدير.
وفي سنة 1832م عاد الطهطاوى إلى مصر من بعثته وكانت قد سبقته إلى محمد علي تقارير أساتذته فى فرنسا تحكى عن تفوقه وامتيازه وتعلق عليه الآمال فى مجال الترجمة. وكانت أولى الوظائف التى تولاها بعد عودته من باريس، وظيفة مترجم بمدرسة الطب، فكان أول مصرى يعين فى مثل هذا العمل. وفى العام التالى انتقل رفاعة الطهطاوى من مدرسة الطب إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) بمنطقة طره كي يعمل مترجماً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.
ويعتبر الطهطاوى أول منشئ لصحيفة أخبار في الديار المصرية حيث قام بتغيير شكل جريدة الوقائع المصرية التي صدر عددها الأول في 3 ديسمبر 1828م، أي عندما كان الطهطاوي في باريس، لكنه تولى الإشراف عليها حين عاد سنة 1842م وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية؛ حيث جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وأصبح للجريدة فى عهده محررون من الكتاب كان من أبرزهم أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين.
وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى؛ ووضع الأساس لحركة النهضة التى صارت حتى يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه، ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة! كان رفاعة أصيلاً ومعاصراً من دون إشكالٍ ولا اختلاف، ففى الوقت الذى ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربى ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة، ويستصدر أمراً لصيانتها، ومنعها من التهريب.
وظل جهد رفاعة يتنامى في الترجمة والإشراف على التعليم والصحافة؛ فأنشأ أقساماً متخصِّصة للترجمة في الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات؛ وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد؛ ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية. وكانت ضمن مفاخره: استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية، وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية؛ هذا إلى جانب الكتب التي قام بترجمتها بنفسه، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها.
كان رفاعة الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين المحترفين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب والعمل على إقامة نهضة فكرية فى الديار المصرية، وتقدم باقتراحه إلى محمد علي ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت باسم مدرسة الألسن، وهى التى تعرف الآن باسم كلية الألسن بجامعة عين شمس، ومدة الدراسة بها خمس سنوات، قد تزاد إلى ست. وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة 1835م، وتولى رفاعة الطهطاوى نظارتها (أي عمادتها)، وكانت تضم فى أول أمرها فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية.
وقد بذل رفاعة جهدًا عظيمًا في إدارته للمدرسة، وكان يعمل فيها عمل أصحاب الرسالات ولا يتقيد بالمواعيد المحددة للدراسة، وربما استمر فى درسه ثلاث ساعات أو حتى أربع دون توقف واقفًا على قدميه دون ملل أو تعب يشرح لهم الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. وقد تخرجت الدفعة الأولى في المدرسة سنة 1839م وكان عددها عشرون خريجًا، وكانت مترجمات هؤلاء الخريجين قد طبعت أو فى طريقها إلى الطبع.
واتسعت مدرسة الألسن لاحقا، فضمت قسمًا لدراسة الإدارة الملكية العمومية سنة 1844م، لإعداد الموظفين اللازمين للعمل بالإدارة الحكومية، وقسمًا آخر لدراسة الإدارة الزراعية الخصوصية بعد ذلك بعامين، كما ضمت قسمًا أنشئ سنة 1847م لدراسة الشريعة الإسلامية على مذهب أبى حنيفة النعمان لإعداد القضاة، وأصبحت بذلك مدرسة الألسن أشبه ما تكون بجامعة تضم كليات الآداب والحقوق والتجارة بمفهومنا الحديث. وكان رفاعة الطهطاوي يقوم إلى جانب إدارته الفنية للمدرسة باختيار الكتب التي سيترجمها تلاميذ المدرسة، ومراجعتها وإصلاح ترجمتها.
ومن أبرز الأعمال التي قام بها رفاعة فى عهد الخديوى إسماعيل نظارته لقلم الترجمة الذى أنشئ سنة 1863م لترجمة القوانين الفرنسية، ولم يكن هناك من أساطين المترجمين سوى تلاميذ الطهطاوى من خريجى مدرسة الألسن، فاستعان بهم فى قلم الترجمة، ومن هؤلاء: عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري. وكان مقر قلم الترجمة حجرة واحدة بديوان المدارس، ولم يحل ذلك دون إنجاز أعظم الأعمال، فترجموا القانون الفرنسى فى عدة مجلدات وطبع في مطبعة بولاق، ولم تكن هذه المهمة يسيرة، إذ كانت تتطلب إلمامًا واسعًا بالقوانين الفرنسية، وبأحكام الشريعة الإسلامية، لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها في القانون الفرنسي.
ولم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامى، ونجح فى إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربى على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادى، ومقامات الحريرى، وغير ذلك من الكتب التى كانت نادرة الوجود فى ذلك الوقت.
بيد أن هذا النشاط الدءوب تعرض للتوقف سنة 1861م لأسباب سياسية، حيث خرج رفاعة من الخدمة، وألغيت مدرسة أركان الحرب، وظل عاطلاً عن العمل حتى تولى الخديوى إسماعيل الحكم سنة 1863م، فعاد رفاعة إلى ما كان عليه من عمل ونشاط على الرغم من تقدمه في السن، واقتحم مجالات التربية والتعليم بروح وثابة يحاول أن يأخذ بيد أمته إلى مدارج الرقى والتقدم، فأشرف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، واختيار مدرسيها وتوجيههم، والكتب الدراسية المقررة، ورئاسة كثير من لجان امتحانات المدارس الأجنبية والمصرية.
وفي عام 1870م أصبح علي باشا مبارك وزيرا للمعارف فى مصر، والذى قرر أن ينشىء مجلة أدبية باسم روضة المدارس، فأسند رئاستها للشيخ رفاعة الطهطاوى، حيث ظل رئيسا لتحريرها لمدة ثلاث سنوات حتى وافته المنية عام 1873م.
وعلى الرغم من كثرة المسئوليات التى تحملها رفاعة وأخذت من وقته الكثير، فإنه لم ينقطع عن الترجمة والتأليف، ولم يقض وقته إلا فيما فيه فائدة، وقد وصفه تلميذه النابه صالح مجدى بأنه "قليل النوم، كثير الانهماك على التآليف والتراجم". وقد بدأ رفاعة إنتاجه الفكرى منذ أن كان مبعوثًا فى فرنسا، ومن أهم كتبه:
مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية.
تخليص الإبريز فى تلخيص باريز
المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين.
أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل.
نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، وهو آخر كتاب ألفه الطهطاوى، وسلك فيه مسلكا جديدا في تأليف السيرة النبوية تبعه فيه المحدثون.
أما الكتب التى قام بترجمتها فهى تزيد عن خمسة وعشرين كتابًا، وذلك غير ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه وهذبه.
إن الشيخ رفاعة الطهطاوي ظاهرة ثقافية فريدة فى تاريخ مصر المعاصر استحق أن يطلق عليه لقب رائد التنوير فى العصر الحديث، كما يستحق الدراسة فى عدة أطروحات علمية، لما تميز به من علم واسع، ورؤية للعمل الأكاديمى النهضوى، فى زمن كان الجهل فيه سيد الموقف بين المصريين، مع سيادة تركية عمياء لبلادنا، لا تسعى إلى بناء مصر بقدر ما تسعى إلى بناء مجد الباشا محمد علي. ومع هذين استطاع رفاعة الطهطاوى أن يبني مشروعه النهضوى للتعليم في مصر، وكان على رأسه قضية تعلم اللغات الأجنبية والنقل عنها إلى العربية للإسهام في إزاحة الجهل عن عقول أبناء مصر، وفتح الطريق أمامهم لإحداث نهضة حقيقية تعمل على بناء البلاد حتى وإن كان في ظل الباشا الكبير.