الأحد 5 مايو 2024

رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) الشاعر الوطني والرائد الذي سبق عصره


د/عبد الوهاب برانية

مقالات11-8-2023 | 13:48

د/عبد الوهاب برانية

● استوعب الطهطاوى في سن مبكرة مواد الأزهر وعلومه التى كانت تعتمد فى جلها على الحواشى والمتون والشروح المستفيضة لعلوم الشريعة والأصول واللغة العربية
● كان لرفاعة باع طويل في مجالات عدة، فهو كالغيث حيثما وقع نفع، وقد يعجب الواقف على سيرة الرجل وجهوده العلمية من هذا التنوع المذهل في تصنيفه وتأليفه
● من وجهة نظرى أن وطنيات رفاعة الشعرية هي أصدق ما أبدع من شعر، ولا عجب في ذلك؛ فقد أشربت نفسُه الوطنيةَ  مبكرا، من فطرته النقية السليمة



في عام 1801م ولد رفاعة رافع الطهطاوى فى "طهطا" بمديرية جرجا، من أقصى صعيد مصر، ولذا جاء لقبه الذي اشتهر به (الطهطاوى)، ونشأ نشأة عادية، من أسرة مستورة الحال، وبدأ حياته مع الكُتَّاب، فوعى القرآن الكريم كعادة أطفال زمانه، أيام كان التوجه إلى الكتاتيب عادة اعتادها المصريون في الريف والمدن قبل الالتحاق بالمدارس والمعاهد، والتحق رفاعة بالأزهر في عام 1917م، ونال قسطا وافرا من علومه، وبعد سنوات قلائل تلقى فيها العلوم الدينية واللغوية والأدبية نزع رفاعة إلى التدريس والتأليف، ولما يبلغ الحادية والعشرين من سنه، وهو مؤشر جاد على نبوغه وتفوقه وإلمامه بعلوم الأزهر ومعارفه؛ لأن الأزهر لم يكن ليسمح لواحد من خريجيه أن يجلس مجلس العلماء ويلتف حوله التلاميذ، إلا إذا كان مؤهلا وجديرا بتلك المنزلة، وهكذا كان الشيخ رفاعة، حيث تفوق على أقرانه، وتفرد بالسبق عليهم كما يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فيما كتبه عنه ضمن كتابه (شعراء الوطنية فى مصر) إذ بدا كتابه به وختمه بالشاعر الشيخ علي الغاياتى (1885- 1956م) ولا أكون مغاليا إن قلت إن المؤرخ عبد الرحمن الرافعى افتتح كتابه بالشيخ رفاعة عن قصد، فكأنما رأي فيه قاطرة للتجديد يلحق بها كل من جاء بعده، فهو يذكر عبد الله نديم والبارودى وإسماعيل صبرى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران وأحمد محرم وأحمد نسيم وأحمد الكاشف ومحمد عبد المطلب وأحمد زكي "أبو شادى" وعبد الحليم المصرى وعزيز فهمى ويختم تلك القائمة المتفردة فى الوطنية بعلى الغاياتى، ولا أظن الرافعى المؤرخ غافلا عن سر البدء بالشيخ رفاعة، ولا أظن ذلك جاء كما اتفق له.

ريادة رفاعة العلمية والأدبية

وعندما نقف على جهود رفاعة العلمية والأدبية ربما يُكشف لنا سر ابتداء عبد الرحمن الرافعى كتابه السابق بهذا الرائد الكبير، الذى وقف على أعتاب عصر كان أقرب إلى عصور الظلام منه إلى عصر النهضة والبعث العلمى والأدبى.

وأول ما يلقانا من هذا الجهد العظيم استيعابه في سن مبكرة لمواد الأزهر وعلومه التى كانت تعتمد فى جلها على الحواشى والمتون والشروح المستفيضة لعلوم الشريعة والأصول واللغة العربية، وتصدرُه كما أشرت سابقا للتدريس قبلما يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، وهى منزلة قد يكون رفاعة أول من ارتقى إليها فى الأزهر فى العصر الحديث كله. وليس هذا فحسب هو رصيد رفاعة الذى يستحق به الريادة، وإنما حياته كلها كانت مثالا للجد والاجتهاد، والصبر والمثابرة، والتوفر على طلب العلم، وتقديم الرائع والمفيد منه لبنى جلدته من المصريين والعرب، وإذا كان الرافعى قد قدمه على من سواه في كتابه، فمن قبل قدمه شيخه حسن العطار لمحمد علي باشا؛ ليكون على رأس البعثة التعليمية الأولى التى أرسلها إلى باريس سنة 1826م ففى تقديم شيخه العطار له ما يكشف عن تفرده وتميزه على كل معاصريه، وقد أثبت رفاعة جدارته وأحقيته بهذا التقديم، بما حصله من علوم ومعارف ، فجمع إلى ثقافته الأزهرية ومعارفه الدينية ثقافة أوروبا وعلومها وآدابها، وأفاد فائدة عظمى من مناهجها فى التعليم والزراعة والصناعة والترجمة وغيرها من العلوم والمعارف، حيث نقلها وصورها كما شاهدها وتعلمها، وقد جاء كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) شاهدا على براعته في نقل مشاهداته الحياتية والعلمية والإدارية للمجتمع الفرنسى، ولعل هذف رفاعة من نقل هذه المشاهدات وتصويرها للمصريين هو إثارة حماستهم وتحفيزهم للحاق بركب المجتمعات الحديثة التي أخذت بأسباب التقدم، واتخذت من أجله كل التدابير، وسعت لتحقيقه في كل الدروب، كأنما أراد رفاعة بأسلوب غير مباشر أن يحرك الماء الراكد ويخاطب فى المصريين قواهم المطمورة مع تراكمات السنين لينهض المارد المستنيم فى عقولهم وينفض عن نفسه غبار الركود ويعلن عن مبعثه من جديد.

ولقد رأى رفاعة أن المجتمع المصري لن يتحقق له النهوض والتقدم إلا إذا أخذ بأسباب العلم الحديث، وأتاح الفرصة كاملة لكل أبناء الوطن وبناته، للمضى قدما فى ارتياد سبل العلم، فطالب بتعليم البنات والبنين، وجاء كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين) لينبه الفتاة إلى ما مُنِحَته من سلاح التعليم برعاية الخديوى إسماعيل، الذى أراد أن يفتح باب العلم أمام المرأة، وأن يسوى في اكتساب المعارف بينها وبين الرجل، ولو أنها حرصت على طلب العلم لكانت عاملا من عوامل نهضة بلدها، وعلى الرغم من  ريادة الطهطاوي في هذا المجال أعني الدعوة إلى تعليم المرأة والاهتمام بها ومنحها فرصتها التامة للتعبير عن نفسها ومواجهة مصيرها ومعالجة قضاياها الخاصة وقضايا وطنها- فإنه لم يأخذ حقه من الاعتراف به والتنويه بشأنه، وربما كان لبعض من جاءوا بعده الحظوة والاهتمام في إبراز أدوارهم بشأن تعليم المرأة ومنحها حريتها كقاسم أمين، وإن كان دور رفاعة يسبق كل من جاءوا بعده ويتعاظم عليهم، لكن قدر أناس وحظهم من الشهرة ربما سبق حظوظ آخرين ممن سبقوهم.

ولقد كان لرفاعة باع طويل في مجالات عدة: فهو كالغيث حيثما وقع نفع، وقد يعجب الواقف على سيرة الرجل وجهوده العلمية من هذا التنوع المذهل في تصنيفه وتأليفه، فنجده ينظم أرجوزة في علم الكلام ويكتب في الفقه والاجتهاد، ويروقه متن الآجُرُّومِيَّة في النحو، وكانت من أوائل الكتب التي تُدَرَّسُ في النحو بالأزهر، فينظمه في أرجوزة طويلة يسميها (جمال الآجرومية) مشيرا إلى الدافع له على نظم هذا المتن في قوله:

وبعدُ، فالقصدُ هنا والأملُ      نظام منثورٍ عليه العملُ
في النحو صاغه ابن آجُرُّومِ   متنا ونفعه من المعلومِ

كما وضع رفاعة رسالة مطولة عجيبة فى النحو سماها (التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية) وضعها بأسلوب جديد يقرب النحو للمستفيد، وهي رسالة جد مفيدة إذا وزنت بغيرها مما كان متداولا فى ذلك الحين من كتب النحو ومختصراته، ولم تقف مؤلفات رفاعة عند هذا الحد وإنما شرفت مؤلفاته وتوجت بما كتبه بأسلوب رائع فى سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسماها (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز) وهي سيرة ضخمة وليست موجزة كما يشير عنوان الكتاب، أبدع فيها الطهطاوى أيما إبداع، وقد جاوزت مؤلفات رفاعة ومترجماته حدود ما يمكن استيعابه من شاب أزهرى عاش في بداية القرن التاسع عشر، يوم كان ظلام الجهل يخيم بأستاره على العقول والأجسام اللهم إلا من بصيص من النور في عقول وقلوب المؤمنين الذين قيضهم الله لحفظ كتابه وحمل أمانة دينه ودعوة رسله.

ولقد تولى الدكتور محمد عمارة جمع وتحقيق مؤلفات رفاعة الطهطاوى الكاملة، فى خمسة مجلدات ضخمة، وقفت على ما فيها فشعرت بالفخر بأزهريتى، لأن ما طالعته من علم كان لواحد من أبرز علماء ومشايخ الأزهر فى العصر الحديث.

تجربة رفاعة الطهطاوى الشعرية

جمع الدكتور طه وادى شعر رفاعة الطهطاوي في ديوان، قام بتحقيقه ودراسته، ونشرته دار المعارف منذ ما يقارب الأربعين عاما، وقد جعل هذا الديوان فى سبعة فصول: جعل فصلا منها للشعر الذاتى وآخر للشعر الوطنى وثالثا لشعر الوصف، ورابعا فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وخامسا في مدح الأسرة الحاكمة: (محمد علي باشا وأولاده) وسادسا لشعره المترجم وفصلا سابعا وأخيرا لشعره التعليمى، ولا تكاد قصائد الديوان ومقطوعاته تتجاور الخمسين بحال، وأكثرها من حيث الكم ما يتعلق بمدائحه للأسرة الحاكمة وتليها وطنياته، ولا تغض مدائحه من قيمة الشعر وصاحبه؛ فلطالما عبر عن واقع اجتماعى وسياسى رآه رفاعة وعاشه وتأثر به، ولا يعيب الشاعر أن يتفاعل مع رموز عصره بمدح وتشجيع؛ إذ يعتبر ذلك لونا من الدعم والتحفيز لنهضة الوطن، ولا ننسى أن محمد علي هو من أخذ بيد رفاعه وقدمه للمجتمع الدولى، ومنحه فرصة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولو أنه بقي في موضعه لما تقدم في علوم العصر هذا التقدم المذهل، ولا ضير على الشاعر أن يتفاعل مع من منحه فرصة ثمينة للتعلم والتلقي والتقدم، وقد فعل ذلك من بعد الشاعر المحلق الرائع محمود حسن إسماعيل حين خصص ديوانا كاملا لمدح الملك فاروق وسمى هذا الديوان باسم (الملك) لأن الملك قربه منه ومنحه فرصة إذاعة أشعاره في لقاءاته ومحافله، فكان أن حفظها الشاعر له، وترجمها في مدائح عديدة تكوَّنَ من مجموعها أحد دواوينه.

وما أكثر ما كان يفعل ذلك شعراء القرنين التاسع عشر والعشرين! وليس شعر شوقى أمير الشعراء ببعيد عن ذلك.

أما وطنيات رفاعة الشعرية فمن وجهة نظرى هى أصدق ما أبدع من شعر، ولا عجب في ذلك؛ فقد أشربت نفسُه الوطنيةَ  مبكرا، من فطرته النقية السليمة، والفطرة النقية هي مصدر أساسى للإيمان بالأديان والأوطان، فهو إيمان لا تشوبه شائبة من أيديولوجية مغرضة أو فلسفة مرتبكة، وقديما دعا الإمام الفخر الرازى صاحب (التفسير الكبير) وقد أذهله إيمان امرأة عجوز، لم تقعد إلى شيخ ولم تتلق درسا فى طرس، فقال: (اللهم إيمانا كإيمان العوام أو العجائز) كما أن رفاعة بحسه المرهف قد استثيرت وطنيته في بعثته الأولى إلى فرنسا، فأوقفنا على نماذج صادقة في حب الوطن والتعبير عن حرقة الشوق إليه، ومن ذلك قوله في قصيدة تحمل عنوان (حنين إلى مصر):

ناح الحمامُ على غصون البانِ      فأباح شيمة مغرم ولهانِ

ثم يقول مبينا دوافع هذا الشوق إلى مصر ومن فيها من الأهل والخلان:

هذا لعمرى إن فيها سادةً     قد زُيِّنوا بالحسن والإحسانِ

يا أيها الخافى أن عليك فخارها فإليك أن الشاهدَ "الحسنانِ"

ولئن حلفتُ بأن مصر لجنةٌ   وقطوفها للزائرين دواني

والنيل كوثرها الشهى شرابه    أبرُّ كل البر في أيمانى

وهو يقصد بالحسنين هنا في البيت الثانى من المقطوعة: شيخيه: حسن العطار وحسن القويسنى. وفي قصيدة أخرى للشاعر الرائد رفاعة الطهطاوى يذكر فيها حنينه وحبه لوطنه "مصر" كتبها فى الأغلب في منفاه بالسودان حينما نفاه الخديوى عباس الأول، قيل بسبب الوشاية وقيل بسبب آرائه الإصلاحية التي ضمنها كتابه (تخليص الإبريز) حيث أزعجه ما به من أفكار تعرض بكل حاكم مستبد، وربما كان هناك سبب آخر لتلك الحملة على النهضة التعليمية التى وضعها أبوه محمد علي وكان رفاعة أحد أسبابها، لذا نفاه، وفي منفاه يقول رفاعة:

يا صاحِ حب الوطنِ    حلية كل فطنِ

محبة الأوطانِ       من شعب الإيمانِ

في أفخر الأديانِ        آية كل مؤمنِ

مساقط الرؤوسِ        تلذ للنفوسِ

تذهب كل بوسِ    عنا وكل حزنِ

فالأبيات من قصيدة طويلة، نوَّع رفاعة فى قوافيها، وقد نسبها جامع الديوان إلى مجزوء الرمل، وهي من مجزوء الرجز، وسكَّن بعض قوافيها وهي متحركة.

ومن شعره في وصف الجيش المصرى مفتخرا به - وحُقَّ له- :

نُنَظِّمُ جندنا نظما       عجيبا يُعجز الفهما
بأُسْدٍ ترعب الخصما    فمن يقوى يناضلنا؟
لنا في الجيش فرسانُ   لهم عند اللقا شانُ
وفي الهيجاء عنوانُ     تهيم بهم صواهلنا
مدافعنا القضا فيها     وحكم الحتف في فيها
وأهونها وجافيها        تجود به معاملنا

وهي قصيدة مطولة قاربت الخمسين بيتا، وهي من أروع ما كتب عن الجيش المصرى في الشعر الحديث، وهي تحمل عنوان كاتبها وانتماءه وحبه لوطنه وجيشه.

هذا بعض من شعر رفاعة، وبعض من جهده ودوره الرائد المتنوع، ونموذج فريد من وطنيته، وشعره المطبوع يقفنا على ملامح شخصيته الوطنية والريادية، وتبقى كلمة: أين يقع شعر رفاعة من سابقيه ولاحقيه؟ وفي جمل معدودة يمكن اعتبار شعر رفاعة في منطقة وسط بين هؤلاء وأولئك، فلا هو بالمتخلى كليةً عن نهج من سبقوه، ولا هو بالمتحلي كليةً بسمات من جاءوا بعده، ويبقى له أثر حسن يذكر مع ما يذكر لمن عاشوا بين مرحلتين متقابلتين.

                                                                الأزهى نسيجُ وَحدِه
 


الأزهر الميمون يفخر يا رفاعةْ
                               إذ رُحتَ ترفع للعلا قبلا شِراعَهْ
فيقال: هذا العبقريّ ربيبُه
                              في حِجرِه المعمورِ في سِنِّ اليفاعةْ
قد ظل ينهل من موارد علمه
                              من فيض علم عمائمٍ سكنتْ بقاعَهْ
سُقيًا لهاتيكَ العهودِ وأهلِها
                                  ما بلَّ شيخٌ من مُحَبَّرَةٍ يَراعَهْ
فالعلم فى تلك البقاع قماطرٌ
                              ومباركاتُ الله فى هذى البضاعةْ
هل أنت فخر للصعيد وأهله
                            أم فخر أزهرنا الذى يرسى قلاعه؟
قد مر قرن ثم قرن بعدكم
                               لكنْ يزيد بريقكم دومًا نصاعةْ
مُذ رُدتَ أول بعثة قد يممت
                                   باريسَ أثبتم ببعثكم براعة
فأضفت للعلم الأصيل حداثة
                           تزداد منها مصر فى الدنيا مناعة
فرجعت تحمل ما حملت من المعارف
                                للزراعة والنجاعة والصناعة
فمناهجا طورت فى تعليمنا
                          إذ قلت للتحديث: يا سمعا وطاعة
فنظرت للغرب الحديث بنظرة
                                بلقاءَ آملةٍ بلا أدنى شناعة
فليؤخذ العلم الثمين من الذي
                          قد صانه للناس لا ممن أضاعه
لله درك يا رفاعة كم أتى
                         للناس عقلك ألفَ مليونِ التماعةْ!
في الفقه والتشريع والآداب ها
                           قد جاء طهطاويُّ ممتطيا ذراعه
فإذاه فى كل المعارف قصةٌ
                        تُحكَى لتشحذ عقل من لزم القناعة
فيحار من عرف الرفاعة قائلا:
                          أَوَذا رفاعة مفردا أم ذا جماعةْ؟!