الأحد 5 مايو 2024

رفاعة الطهطاوي رائد السرد الروائي


عبدالله أديب القاوقجى

مقالات11-8-2023 | 13:48

عبدالله أديب القاوقجى

● نجح رفاعة كثيرا في  توظيف تقنية الوصف وما يلازمها من تقنيات السرد؛ إذ الوصف هو تمثيل الأشياء أو الحالات أو المواقف أو الأحداث في وجودها ووظيفتها
● يمكن استقبال كتاب "نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز" في إطار التيار الأساس السائد فى الرواية العربية الحديثة في المرحلة الأولى من مراحل ظهورها في الأدب العربى
● قدم رفاعة مشروعا نهضويا اجتماعيا يتناسب مع احتياجات عصره وما يفرضه وقته، ويتناسب مع تصوراته هو نفسه ورؤاه التى استخلصها من سفره إلى فرنسا



ظلت مصر عبر حقبها المتتابعة قبل العصر الحديث فى عزلة عن الثقافة الأوربية الحديثة، ترزح تحت وطأة الخلافات المملوكية والعثمانية، لا تتعرف نَسَما لطريق التقدم ولا تجد مَن يخطو بها نحو الانفكاك من تلك العزلة، حتى قيض الله لمصر حاكما حالما أراد أن يستقل بها ويبنيها على الطراز الأوربى الحديث، فقام "محمد على" فيما قام بإرسال الإرساليات والبعثات إلى "فرنسا" عاصمة النور والثقافة آنئذ آملا أن يتزود هؤلاء المبعوثون من ثقافتها وحضارتها ثم يعودوا إلى مصر وقد امتلأت عقولهم وتشبعت أفكارهم بمشاعل التقدم العلمى والثقافى، واختار ابنا بارا من أبناء مصر ليكون رائدا دينيا لهؤلاء المبعوثين يرشدهم إلى الصواب ويؤمهم في الصلوات ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم، ومن هنا كان "رفاعة الطهطاوى" على موعد مع الحضارة الأوربية الحديثة، فظل خمس سنوات هى مدة البعثة ينهل من ثقافتها وعلومها ومعارفها؛ إذ لم تقعد به همته عند حدود وظيفته التي كُلف بها، بل دفعته نفسه الشغوف المحبة للعلم والإصلاح أن يسعى للعلم منذ اللحظة الأولى التى رشح فيها لهذه البعثة؛ فتعلم الفرنسية وهو على ظهر المركب التى عبرت به من الشرق إلى الغرب، ولما وصل إلى "فرنسا" انكب على شتى المعارف الإنسانية يحصّل منها ما استطاع أن يحصّله دراسة وترجمة، وغدا الإمام الفقيه باحثا أدبيا علميا سياسيا وجغرافيا. وقد استفاد "الطهطاوى" من ملكاته ومواهبه التي أعطاه الله إياها في بناء أسلوبه الآسر في الشرح والتعليم والإصلاح والتأليف والترجمة؛ فعندما نطالع كتبه وآثاره الأدبية الخالدة نجد أنها اصطبغت بصبغة السرد الروائى الذي يلائم طبيعة التعليم والإصلاح وبناء الناشئة ونقل الأخبار، ويظهر هذا جليا في سفره الماتع: "تخليص الإبريز في وصف باريز" الذى أراده تقريرا وافيا عن بعثته ووصفا شاملا لكل ما رآه، فقد بناه على ست مقالات أقامها على الأسلوب الحكائى؛ بادئا بوصف منطلقه والبلاد التى مرّ بها إلى أن وصل إلى "فرنسا" فتحدث عن تقاسيمها وجغرافيتها وتجارتها ونظام حكمها، وأحوال أهلها وما وقع بينه وبينهم من مقالات تناولوا فيها الحديث عن إسهاماتهم في العلم والتأليف وخصوصا ما يتصل بجهودهم حول الآداب العربية فيقول: "اجتمعت فى "باريس" بفاضل من فضلاء الفرنساوية شهير في بلاد الإفرنج بمعرفة اللغات المشرقية، خصوصا اللغة العربية والفارسية يسمى "البارون سلوستري داساس" وهو من أكابر "باريس" وأحد أعضاء جملة جمعيات من علماء فرنسا وغيرها، وقد انتشرت تراجمه في "باريس" وشاع فضله في اللغة العربية، حتى إنه لخص شرحا للمقامات الحريرية، وملاك الأمر فى هذا الكتاب أن "رفاعة" أراد أن يصف فيه كل ما وقعت عليه عيناه في تلك البلاد ليكونه ذلك إرشادا لأهل مصر وتعريفا بما وصلت إليه الحضارة الحديثة في بلاد أوربا، وتجدر الإشارة إلى أن "رفاعة" بم يرد أن يكون كتابه وصفا لفرنسا وأهلها وحيواتهم فقط بل نجد أنه وشّى كتابه بكثير من الأشعار سواء ما كان من نظمه هو أو من نظم شعراء آخرين وفى هذا ملحظ مهم يدل على الذائقة اللغوية الشاعرية لدى "رفاعة" التى استطاعت أن تدلل على أغلب المواقف التي ينقلها بأبيات من الشعر.
 

 وباستجلاء هذا الموضوع فنيا وأدبيا نجد أن "رفاعة" قد نجح كثيرا فى  توظيف تقنية الوصف وما يلازمها من تقنيات السرد في بناء هذا الكتاب؛ إذ الوصف هو تمثيل الأشياء أو الحالات أو المواقف أو الأحداث في وجودها ووظيفتها، كما أن للوصف وظيفة سردية وهى: تزويد القارئ بالمعرفة اللازمة حول الأماكن والشخصيات وتقديم الإشارات التي ترسم التصور العام أمام القارئ وهذا من الأمور التى يجب على كتاب أدب الرحلات مراعاتها حتى يستطيع القارئ أن يتمثل تلك البلاد التى لم يذهب إليها قبل ذلك، ولذا نجد فى هذا الكتاب تداخل الوصف مع السرد في الحكايات حتى يغدو التمييز بينهما أمراً دقيقاً من الناحية العملية، فإننا إذا وجدنا في هذا الكتاب وصفاً خالياً من السرد، فإننا لا نكاد نجد سرداً دون وصف، وهذا التداخل بين الوصف والسرد يمكن أن نسميه بالصورة السردية، وهي الصورة التي تعرض الأشياء متحركة، أما الصورة الوصفية فهى التى تعرض الأشياء فى سكونها، وبهذا يكون التداخل بين الوصف والسرد هو الأنسب للبناء الفني لمثل هذا الموضوع، على أن وصف "رفاعة" لما شاهده لم يكن مجردا في بعض الحالات؛ إذ كان هذا الوصف مشفوعا بتعليقات وضيئة تنير الطريق أمام القارئ ليميز الخبيث من الطيب ولا يسوقه إعجابه بتمدين هذه البلاد إلى التقليد الأعمى الذي يعمى عن كل كليلة؛ فليس كل اختلاف يكون نافعا، وليس أهل "فرنسا" سواء في التحضر والتمدين، وفي هذا يقول واصفا بعض مذماتهم: "وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم، لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبته إلا إذا وثقوا بالمكافأة، وهم في الحقيقة أقرب للبخل من الكرم" وهذا على عكس ما نراه عند أهل مصر من المروءة والشهامة والكرم وبخاصة فى مواطن الاحزان والآلام، وفي الكتاب كثير من التعليقات الرفاعية التى تحفظ القارئ من الانسياق وراء مظاهر التغريب الفرنسية دون وعى.

ويتجلى أسلوب "رفاعة" المبتكر فى البناء الفني السردي لكتابه: "نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" وهو أول كتاب يختص بسرد سيرة الرسول الأعظم – صلى الله عليه وآله وسلم- فى العصر الحديث، وقد كتبه "رفاعة" على ضوء من كتب السير السابقة مثل سيرة ابن هشام وابن كثير وغيرهما، لكنه لم يقلد أيا منها فى أسلوبه بل شهد هذا الكتاب ميلاد أسلوب جديد فى السيرة النبوية يقوم على سرد السرديات الكبرى مثل "حادثة الهجرة" والسرديات الوسطى مثل "غزواته صلى الله عليه وسلم" والسرديات الصغرى مثل سائر الأخبار المتعلقة بحياته الشريفة فى تمازج بين الأنواع الثلاثة حسبما اقتضاه نظام "رفاعة" في سرده؛ فهو لم يتتبع الحياة النبوية الشريفة فقط في كتابه بل تتبع الحياة كلها وقتئذٍ في إسهاب كبير من حيث الوظائف التي شاعت في هذا العصر وما يختص منها بالرجال وما يختص بالنساء، والأدوات التي يستخدمها صاحب كل وظيفة وما يتصل بها من حدود وأعراف، كما تحدث عن العادات والأعراف التى شاعت في عهد النبوة، وأنواع الصناعات والتجارات والزراعات التي شهدها هذا العصر وهذا فيه ما فيه من التجديد والابتكار فى الأسلوب الحكائى للسيرة النبوية الذي يختلف عن الأسلوب الذي تبناه أصحاب السير قبل ذلك، ونجد "رفاعة" هنا موظفا التقنيات الزمنية السردية من استباق واسترجاع "الفلاش باك" فى تحليل المواقف وتجليتها، ومستخدما المنهج العقلي في تحليل الأحداث والوقائع، دارسا الواقع الاجتماعى والاقتصادى والثقافى والسياسى الذى كان قائما في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الدعوة الإسلامية ثم بعد ظهورها، كما استطاع "رفاعة" فى هذا الكتاب أن يردّ على الصورة المشوهة التى رسمها الكتاب الغربيون للإسلام ولنبى الإسلام.
 

ومن جانب آخر فإن كتابه هذا يمكن استقباله فى إطار التيار الأساس السائد فى الرواية العربية الحديثة فى المرحل الأولى من مراحل ظهورها فى الأدب العربى، والتى تمتد من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى، وقد ساد فيها نمطان روائيان هما الرواية التاريخية والرواية التعليمية ويتفق النمطان في كون التعليم الهدف المشترك لكليهما، وإن اختلفت طبيعته بينهما؛ فبينما كانت الرواية التاريخية تعلّم الأحداث والوقائع التاريخية الخاصة بفترة أو شخصية ما من التاريخ العربي والإسلامي فإن الرواية التعليمية قد تغيت تقديم معارف من علوم متنوعة، وقد تفهم "رفاعة" هذين النمطين فجاء كتابه هذا سيرة نبوية حكى فيها حياة الرسول "محمد" صلى الله عليه وآله وسلم متتبعا الأحداث والظواهر الحياتية الكبرى التي شهدتها هذه الحياة، ومن جانب آخر جاء كتابه تعليما وإرشادا بتمثل النموذج الكامل للإنسان في أبهى صوره، وبهذا يكون "رفاعة" قد استطاع أن يعيد الصلة بين التاريخ والأدب بوصف هذا الكتاب سيرة حياتية تتناول السيرة النبوية وفي الوقت ذاته هو أقرب إلى الفن الروائي الحديث الذي جعل من كتب السير روايات أدبية تنطوي تحت تيار الرواية التعليمية، كما أن نفسه الشاعرية صاحبته هنا في هذا الكتاب أيضا كما صاحبته في سائر آثاره؛ إذ نجده يكثر من الاستشهاد بأبيات من الشعر ينظمها هو أو ينقلها عن الآخرين توشية وحلية لكتاباته.
   

وبعد.. فلا شك أن "رفاعة الطهطاوي"، الأزهرى دراسة، المصرى مولدا، قدم للمكتبة العربية زادا وفيرا ومجموعا ضافيا من العلم والمعرفة والثقافة والترجمة، وأنه لما أراد أن ينهض بالبلاد المصرية ليجعلها تلحق بركب التقدم الأوربي قدم مشروعا نهضويا اجتماعيا يتناسب مع احتياجات عصره وما يفرضه وقته، ويتناسب مع تصورات "رفاعة" نفسه ورؤاه التى استخلصها من سفره إلى "فرنسا" ومن معارفه التي تأسست في ردهات الجامع الأزهر الشريف الذي شهد تكوين "رفاعة" وتأسيسه الأول، وفى الوقت ذاته يتناسب مع الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الذي يدين به جلّ أهل مصر دون الخروج عليها؛ فالمشاهد الباريسية التي نقلها في "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" والأفكار الرفاعية التي قدمها في "المرشد الأمين في تربية البنات والبنين"، وفي "مباهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" والحياة المثلى التي رصدها في "نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" بالإضافة إلى أكثر من خمس وعشرين مترجما تتضافر جميعا فى تقديم النموذج الاجتماعي الثقافي الذى أراده "رفاعة" للشخصية المصرية فى العصر الحديث، ولا شك أن مشروعه هذا كان أساسا من أسس بناء النموذج المعرفى المصري الحديث الذي رسخت قدمه في الثقافة العربية الأصيلة واستمدت فروعه  بعض نماءها من الثقافة الأوربية الحديثة.
   

وختاما أوشى هذا المقال بقالة قالها أمير الشعراء "أحمد شوقى" واصفا "رفاعة الطهطاوى" في رثائه عليا ابن الشيخ رفاعة: يا ابن الذى أيقظت مصرَ معارفُهُ *** أبوك كان لأبناء البلاد أبـا
وأستطيع أن أقول إن رفاعة الطهطاوى كان نموذجا إيجابيا وفعالا للقاء المفكر بالدولة لبناء الجمهورية الجديدة التي خطت مصر نحوها منذ آماد بعيدة.. ولا زالت تخطو.