تقرير: أشرف التعلبي
من سيناء المحررة أبعث بهذه الرسالة... من سيناء أكتب ولا أستطيع السيطرة على مشاعرى أو حواسي.. إن القوات الميكانيكية تطهر الأرض أمامها.. وقواتنا الجوية تقهر السلاح الذى قال عنه قادة العدو ذات يوم “سلاح لا يقهر”، وكل الرجال وقد تحولوا إلى أطول وأقوى ذراع عرفتها مصر، يستخدمون أحدث الأسلحة بكل المهارة والثبات والرسوخ، وقد عادوا إلى أرضهم السليبة، يمضون من محور إلى محور آخر، فاتحين لنيرانهم، رافعين لراياتهم، عازفين أعذب الألحان وأقربها إلى القلوب.. لحن النصر.. كلمات بعث بها محررو المصور من سيناء منذ الساعات الأولى لمحلمة أكتوبر.
“المصور” كانت على الجبهة كتفاً لكتف مع الجنود البواسل تسجل أعظم ملحمة فى التاريخ المصرى الحديث، وترصد كفاح الأبطال، وقدرة المقاتل المصرى على هزيمة عدو كان يقال عنه أنه لا ينكسر، جنود حققوا المعجزات، وأشعلوا الميدان ناراً فوق رؤوس العدو الإسرائيلي، بطولات تستحق أن تروى جيلاً بعد جيل.
اللافت للنظر أنه فى عدد ٥ أكتوبر من مجلة المصور، أى قبل الحرب بساعات، فى تقرير كتبه الكاتب الصحفي الكبير صبرى أبوالمجد رئيس تحرير المصور، قال فيه إن الرئيس السادات أعلن باعلى صوت “إن تحرير الأرض هو مهمتنا الأولى والرئيسية وبعون الله سوف ننجزها، ونحققها “أطلقها بكل ثقة فى الذكرى الثالثة لوفاة القائد الخالد جمال عبدالناصر، وأضاف: “أن الاستقلال الوطنى إرادة وليس الاستقلال الوطنى مجرد تراب.. إن القرار فى أيدينا وهو ليس قرار فرد، ولكنه قرار أمهة، لأنه مصير أمه.. إن الذين يعرفون ما يريدون يعرفون فى نفس الوقت ما لا يريدون... إن هناك قاضيا وحيدا من حق الكل أن يعرضوا حججهم أمامه وأن يديروا حوارهم على مسمع منه ثم يكون له دون غيره حق الحكم، ذلك القاضى الوحيد هو الشعب.... أن العدو يحاول أن يزيد من حدة التمزق حتى ننفجر على أنفسنا.. لا يستطيع أحد فى هذا العالم أن يحقق أى شىء إذا لم يكن محتفظا بتوازنه.
مضيفاً أن أهدافنا تتلخص فى تحرير الأرض، فهى المهمة الرئيسية لهذه المرحلة. ومواصلة التنمية الشاملة، واستمرار التحول الاجتماعى لصالح قوى الشعب العاملة.. الخ.
كلمة الرئيس السادات قبل الحرب بيوم كانت فيه الكثير من الذكاء السياسى والعسكري، فبين حروفها معان كثيرة، وتحركات واسعة، وقرارات اتخذت، وتحالفات أجريت، وخطط عدت.... لكن العدو الإسرائيلى لم يع الرسالة وتفاجأ كما العالم كله تفاجأ.
وفى العدد نفسه كان حوار مع سفير بريطانيا بالقاهرة أجراه شريف الشوباشى يتحدث عن زيارة الأميرة مارجريت لمصر، وهذا ما أغضب إسرائيل جدا وصرحوا “لو أن بريطانيا أرسلت وزير خارجيتها أو شخصية سياسية أخرى لكان مقبولا، لأن هذه الشخصية كانت ستجرى مباحثات سياسية حول أزمة الشرق الأوسط، أما زيارة أحد أعضاء الأسرة المالكة، فمعناه التعبير الضمنى عن تأييد للعرب أو تقرب منهم، ثم لماذا فى هذا التوقيت بالذات الذى تناقش فيه الأزمة على المستوى الدولي.
وجاءت ساعة النصر وفى عدد ١٢ أكتوبر ١٩٧٣ كانت “المصور” هناك فوق الجبهة سجلت بشكل كامل ودقيق بالصور عبور قواتنا قناة السويس، وكان المانشيت الرئيسى للمجلة “حرب التحرير” وفى الأسفل “هذا العدد تحية لجنودنا البواسل”
فى افتتاحية العدد قال الكاتب الكبير فكرى أباظة تحت عنوان العلم المصرى فى سيناء، “إذن: رفع العلم على الأرض الطاهرة عبر القناة، والبقية تأتى والبيانات العسكرية تتلاحق لحظة بعد لحظة، والجبهة الشرقية تتحرك. والدول العربية تتحرك هى الأخرى بعضها يساهم بجنوده، وبعضها يساهم بطائراته، وبعضها يساهم بماله، وبعضها يساهم “ببتروله”! ولابد أن يدرك رؤساء الدول العربية المحاربة بالفعل، أو على حافة النضال أن هذه الفرصة هى الفرصة السانحة التى يختبر فيها العمل العربى المشترك.. والبداية مبشرة والحمد لله...”
ومن على جبهة القتال كتب المراسل الحربي حمدى لطفي، وبعدسة شوقى مصطفي، تحت عنوان كبير “حرب التحرير” مع عشرات الصور كانت شاهدة على معارك وتضحيات الأبطال، منذ لحظة العبور إلى تحرير سيناء من العدو. قال لطفى من سيناء المحررة أبعث بهذه الرسالة.. عندما كان سلاح المهندسين يقيم الكبارى بين الضفتين كان الفلاحون بالقرى المواجهة للضفة الغربية ينزلون إلى الماء حاملين المعدات والآلات بجانب إخوانهم الجنود والمهندسين، والنساء أمام أبواب بيوتهن تطلقن الزغاريد.. إن الفلاحين، أبناء ذلك الرائد العظيم، أبناء الريف المصري، نبع الرجولة والشجاعة والأصالة المصرية هم أول من شاهدوا اللحظات الخالدة لبدء الهجوم، إنها لحظات أكثر أهمية وخطورة من الهجوم نفسه، وعليها، وعلى دقة التنفيذ للمخطط العسكرى المصرى ووضوح الرؤيا، ونقاء الفكر، توقفت نتيجة أول موجة من هجوم قواتنا، ذلك الهجوم الذى نشر روح النصر بين الجنود والضباط فوق الأرض أو فى السماء أو البحر، فأعطت نيرانهم أكبر النتائج التدميرية وجعلت رجالنا يمسكون بعامل المبادأة وخصاص الكفاءة الديناميكية وسرعة التحرك والمرونة العالية.. تلك الأسس الجوهرية فى نجاح أول موجات الهجوم المصري.
عشرات الصور لجنود قواتنا فى عمق سيناء عقب تطهيرهم لأحد المواقع، ودبابات مصرية ومعها المشاة الميكانيكية، وصورة لاحد المقاتلين والذى كان فى مقدمة الذين عبروا القناة بكل إيمان واقتدار لفتح النيران على العدو الإسرائيلي، وصور لوحدة مقاتلة تعبر مياه القناة، وعلم مصر يرفرف فوق أرض سيناء الطاهرة... وغيرها من الصور التى التقطتها عدسة “المصور” لتصبح شاهدا على تاريخ أمة.
ورصد عدد المصور ١٢ أكتوبر موقف الشعب كله من حرب التحرير، وماذا فعلوا من دعم ومساندة لاستكمال النصر، الجبهة الداخلية ساهرة لا تنام منذ اللحظة الأولى التى أعلن فيها بدء العمليات العسكرية لتحرير الأرض، آلاف الأيدى المدربة على الدفاع المدنى ومقاومة الحرائق تنتظر أية إشارة، واجتمع المثقفون وأعلنوا أنهم وراء السادات، وتحولت الجامعات والمعاهد إلى ساحات للتدريب العسكري، كما أن أمهات وشقيقات من مختلف الأعمار، من مختلف فئات الشعب جاء الجميع يعرض خدماته، يعرض تطوعه بالخدمة بالإنتاج، بالعمل فى أى جهة.
وفى تحقيق كتبته الزميلة مديحه كامل أكدت، أن المسلم والمسيحى جنبا إلى جنب فى المعركة، وبين سطوره يقول الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الجامع الأزهر إن أسباب وجود القتال والجهاد التى حددها الإسلام قد أصبحت متوافرة كلها فى العدوان الإسرائيلي، بما كان من اعتداء على أرض الوطن العربي، لهذا كله صار الجهاد بالنفس والمال فرض عين فى عنق كل مسلم ومسلمة يقوم به على قدر طاقته.
فى المقابل يؤكد الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات اللاهوتية والبحث العلمي، أن السنوات الست من الاحتلال الصهيونى مرت علينا وكأنها ستة قرون احتمل شعبنا خلالها الكثير من التضحيات، إن كل مصر بل كل عربى ليرفع رأسه، فخورا معتزا بهذا النصر الذى هو دليل على مكانة قواتنا المسلحة وعلى شجاعة جنودنا وبسالتهم وحرارة إيمانهم.
وفى تصريحات لوزير التموين وقتها أحمد ثابت، يؤكد أن السلع التموينية متوفرة وتكفى الاستهلاك شهورا طويلة.
كما أن المصور رصدت ٢٤ ساعة عمل فى حجرة العمليات بالاتحاد الاشتراكي، والذى تحول إلى خلية نحل تتصل بكل أطراف الجمهورية وبكل الجهات المسئولة، وباتصال مباشر بالرئيس السادات، كانت أنوار حجرة العلميات لا تنطفئ، تتابع أخبار المعارك على الجبه، وفي الوقت نفسه لا تغفل متطلبات المصريين فى المحافظات، كانت غرفة العمليات خلية تحل كل أزمة وتتابع كل موقف سواءكان صغيراً وكبيراً.
كما احتفت المصور بالمقاتل المصرى منذ الفراعنة حتى أكتوبر المجيد، كان التقرير بعنوان مقولة نابليون بونابرت “لو كان عندى نصف هذا الجيش لغزوت به العالم”.
فى عدد ٢٦ أكتوبر ١٩٧٣ كان الغلاف يحمل.. “وانتصرنا” طائرات إسرائيل حطام فوق أرض سيناء.
ورصدت المجلة نهاية الهجوم الإسرائيلى على الدفرزوار غرب القناة.. لم تكتف المصور برصد خط النار فوق أرض سيناء، بل ذهبت إلى الشقيقة الجولان لتشهد أعنف المعارك هناك، من خلال رسالة صحفية مصورة بعث بها مراسلنا إبراهيم البعثي، كتب فيها.. “البلاغات العسكرية التى تصدر عن قيادة القوات السورية المسلحة التى تقاتل المعارك الضاربة ضد العدو الإسرائيلى فى المرتفعات السورية تتحدث بصدق وصراحة تامة وتكشف خطورة المعارك العنيدة الضاربة التى تستمر فى ظروف صعبة قاسية تفرض الفداء والتضحية على أبناء شعبنا العربى فى سوريا”.
المصور فى العدد الأخير من شهر أكتوبر شهد تحليلا للكاتب الكبير فكرى أباظة، يتعجب تحت عنوان” صوت السلام” بين دوى المدافع وضجيج الدبابات، قائلا: عجبا! “صوت السلام” الهامس الخافت تساهم فيه الألسنة والأذان بهمة ونشاط فى موسكو بين العملاقين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بعد زيارة سريعة خاطفة لرئيس حكومة الاتحاد السوفييتى “كوسيجين” وبعد طيران وزير خارجية الويات المتحدة كيسنجر لموسكو.. كل ذلك يجرى ودوى المدافع هنا وفى سوريا يزرى بكل دوى للمدافع فى أشهر وأخطر معارك التاريخ العظمي، وبين ضجيج الدبابات التى غطت ميادين الحرب العديمة النظير.. استطاع العملاقان أن يتفقا على أن ينعقد فورا مجلس الأمن ليصدر قرارًا ينص على وقف القتال بالشرق الأوسط وإنهاء أى نشاط عسكرى خلال فترة لا تتجاوز ١٢ ساعة منذ لحظة الموافقة على هذا القرار... وغيرها من التقارير التى تحدثت عن ملحمة ١٦ يومًا من نار ونور، وعن أبطال الحرب والسلام.