الأحد 5 مايو 2024

هل يجب أنْ تَتْركِيني..!

مقالات6-9-2023 | 11:11

أقول إن شعراءَ الحب المبدعين -الكثرةُ الكاثرةُ منهم - نتاجُ تجاربَ حبٍّ فاشلة ؛ إذ أنهم لم يستطيعوا الفوز بمرادهم أو تحقيق مبتغاهم ... جاعوا ولم يستطيعوا الاقتراب من مائدة الحب ..!! عطشوا وتشقَّقتْ شفاههم وحينما لاحت لهم عيون الحب جاريةً ، وحسبوا أنهم يستطيعون أن يَرِدُوا ...أبعدتْهم قبضة الدهر -وهي غليظة القلب - ولعلها قد بدت لهم من بعيدٍ حدائقُ الحب الناضرة واجتذبتهم ترانيمُ أطيارها وعبقُ أزهارها ... لكنهم حينما قاربوها ، وصاروا منها على مسافة قَلْبيْن يُلَوِّحان فَرَحاً باللقاء ..!! صَدمتْ أرواحَهم  عُلوُّ أسوارها ، ولا يزالون وقوفاً بقيةَ العمر حائرين !! 

 لكن يظل سؤالٌ يُلحُّ على الخاطر .. لو أن مُحباًّ من هؤلاء المحبين المحرومين نال ما تمنى من الوصْل ، أكان الحب يستمر على وهجه؟!! أم ستخمد ناره ويستحيل رماداً تذروه الرياح ؟!! أخشى أن أقول إن نتاج الشعراء الذين اكتووا بنار العشق ، وكلَّتْ أيديهم من طَرْقِ أبوابه .. أقول إن نتاج الشعراءالمحرومين أعلى إبداعاً وأشفُّ روحاً من غيرهم ، وأخشى أيضا أن أقول إن براعم الحب لا تتغذَّى إلا على عَطَشِ الهجْر والفراق ، وتشتدُّ سيقانُها بالحرمان والصدِّ ..!! وللشعراء مذاهبُ تجاه محبوباتهم حال الهجر ، فلو ألقينا الرحالَ في ضيافة أمير شعراء العصر الجاهلي" امرئ القيس" لوجدناه يعلن تذمُّرَه من تدلُّلِ محبوبته وإعراضها ، وإن عزمتْ على القطيعة والهجر فلتترفقْ (أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التدلُّل/ وإن كنتِ قد أزمعْتِ صَرْمي فأجملي) ولعله لم يرْض منها التدلُّل رغم ما للتدلل من أثرٍ في اشتعال قلوب المحبين إلا أنه لعله كان باحثاً عن الإشباع الجسدي ..!! يعزِّز ذلك ما سبق ذلك البيت من تباهيه بنزواته وقدرته على استمالة قلوب النساء ولو كانت حبلى أو مُرْضِعاً ، ثم يقف موقف الزهو الذي يقبح في موطن الحب متهكِماً من دلال أنثاه اعتماداً على احتلالها قلبَه ، وسيطرتها على أدوات صنع قراره ...( أغرَّك منِّي أن حبك قاتلي/ وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟)!!                                                                                                          وإذا انتقلنا سراعاً إلى خيمة "عمر بن أبي ربيعة" ذلك المفتون بالغزل ، والمعشوق لا العاشق -هكذا يريد أن تراه العيون- فإنه لا يشكو هجْراً أو يرجو وصْلاً كشأن شعراء الغزل ، بل محبوبته هي الشاكيةُ ذلك ، تبيت مُسهَّدةً من حبه متمنيةً أن تراه (تقولُ إذْ أيقنتْ أني مفارقُها / يا ليتني مِتُّ قبل اليوم ياعمرُ) ويصوِّر انشغال ثلاث أَخَواتٍ به (قالت الكبرى أتعرفْن الفتى/ قالت الوسطى نعم هذا عمرْ) إنه مُلاحَقٌ من حسناوات عصره (قالت الصغرى وقد تيَّمْتُها / قد عرفناه وهل يخفى القمرْ) ورغم النرجسيةِ شديدةِ الوضوح وحياة الدونجوان التي أرادها إلا أن "الثريا بنت عبد الله "وكانت من شهيرات نساء قريش وأبرعهن جمالاً قد ملكتْ عليه قلبه ، وحدثتْ بينهما جَفْوةٌ فهجرتْه ليعترف رغماً عنه ؛ إذْ كانت تصرفاته تقول : امراةٌ واحدةٌ لاتكفي...!! فيقول:(مَنْ رسولي إلى الثريا فإنِّي / ضقتُ ذرعاً بهجرها والكتابِ) ولايتردد في اعترافه بحبها (ثم قالوا تحبها قلتُ بهراً / عدد القَطْرِ والحصا والتراب)!!

  ومن المدهش أن المتنبي رغم شهرته كشاعر الخيل والليل والسيف إلا أنه في الغزل رقيقُ اللفظ إذا ما تحدَّث عن المرأة ، شديدُ التعلُّق بها شديدُ اللوعة لفراقها يتمازج في غزله عاطفتُه المشبوبة بالفكْر والتأمُّل إذْ يقول:(وَصِلِينَا نَصِلْكِ في هَذِهِ الدّنيَا / فإنّ المُقَامَ فيها قَليلُ)إن الفرح بوصْلٍ مأمولٍ يمازجه الحزنُ بدنوِّ رحيله ذلك المصير المطارِدُ الجميعَ ، زالتفكير في الختام أدعى للمبادرة بالوصْل المتبادَل فأجراس الرحيل في لحظةٍ قادمةٍ ستدقُّ!! 

  ونصل سريعا إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة (وإذا كان يجب أن تتركيني) للشاعر النيجيري"بن أوكري" حيث يرى الشاعر الكون حال هجْرِ محبوبته إياه ، ويصيب الدمار حياته فيستحضر رمز"شبح كاسندرا"الساحرة العرافة المتنبئة بالأخبار ، يقال إن نَسَبِها يرجع إلى كَوْنِها ابنةَ ملك"طروادة" ويقال إن أشهر ماقامت به إخبارهم بتدمير طروادة الذي حدث بالفعل ؛ ليأتي ختام القصيدة غريباً إذ يشتدُّ سطوع الصباح دالاً على انتهاء الحلم ،والانتباه على مرارة الواقع تذكرنا برائعة إبراهيم ناجي (يقظة طاحت بأحلام الكرى / وتولَّى الليلُ والليلُ صديق)..!! فإلى رائعة "بن أوكري" و... (إذا كان يجب أن تتركيني) .... 
إذا كان يجب أن تهجريني
سأقول: إن شبح كاساندرا مرّ عبْر عيني
سأقول: إن النجوم في مكْرها تضيء السماء كي تزيد من عذابي فحسب 

 وإن الأمواج تتكسر على الشواطئ كي تلسع وجهي بملحها
ذلك أنك تعيدين وصْلي بكل أضواء السماء وبملح الأمواج وأساطير الهواء.
إذا رحلتِ ستُطْبقُ ظلمةٌ شديدة على المساء تجعلُ الحلم مستحيلا
فيما سيشتدُّ سطوع الصباح...!!