الأحد 19 مايو 2024

رواية حب وحرب ودماء.. الجزء الثالث

مقالات17-9-2023 | 22:18

أطلقت المجموعة صيحات الله أكبر وهي تتحرك بالشارع بسرعة كبيرة تجاه أفيشات الأفلام، ابتدأ اثنين منهم بنزعها وتمزيقها ورش كلمات "الله أكبر" بواسطة علب الدهان الأحمر مكانها، تحرك الثلاثة الآخرين إلى محل من محلين الأفلام وابتدأوا بتكسيره من الداخل بالعصي، فأزالوا الأفلام عن أرفف المحل الزجاجية وأوقعوها أرضا وقاموا بتكسير الأرفف الزجاجية بالكامل، حطموا واجهة المحل الزجاجية و قاموا بتمزيق افيشهات الأفلام التي كانت معلقة على حدرانه، شعر كريم عبدالمقصود بالدماء تغلي بعروقه وهو يصرخ على الشباب الملثمين بجنون "من أنتم! وماذا تريدون! خربتم بيتي! دمرتم شقاء عمري يا أولاد الكلب!"

التفت إليه أحدهم والغضب يشع من عينيه وأجابه من وراء لثامه الأسود "يا كافر! اتسبنا! أنت فاسق وستذهب إلى جهنم وبئس المصير بتجارة الحقارة هذه التي تتاجر بها!" كانت هنالك شامة بنية اللون على طرف عينه اليسار، لكم كريم لكمة صرخ منها بجنون، هرع إلى خارج المحل بينما صرخ أحدهم من وراء ظهره "محل فجور وفسق لا يرضى عنه الله! أتُسَوِقْ لأفلام عاهرات السينما يا فاسق!"

كان المحل كبيرا في الطابق الأرضي لأحدى العمارات السكنية فانهالت المجموعة عليه بلا رحمه تكسيرا، فارتفع بالحي أصوات تحطم الأشرطة و الزجاج، صرخ احد الشباب "يا اعداء الله!!!" و كريم يجرى من الخوف و يفرك فمه نحو قهوة الشارع التي كان يقف على بابها صاحبها العجوز سالم الهندي، صرخ له و هو يدخل القهوة "الشرطة! اين هاتف القهوة يا عم سالم!" قال له "ماذا يحدث يا بني بالحي!"

أجاب و اثار الهلع على وجهه "نعتوني بتاجر الفسق با عم سالم!"

كان سالم يشاهد بصدمة عنيفة ما يجري بالحي، فكانت هذه المرة الأولى التي يشهد حيهم هذه الأحداث العنيفة، اتجه معه الى داخل المحل و اخرج من جرار مكتب صغير بداخله هاتف أرضي، ارتفعت من جديد اصوات التكسر بالشارع بينما طلب كريم الشرطة، عاد سالم الى الشارع حيث وقف العديد من العائلات على شرفات منازلهم يشاهدون المجموعة و هي تداهم محل الفيديو الآخر، كان محل كبير على مقربة من قهوة العم سالم، كان ايضا في طابق سفلي لعمارة سكنية قديمة بالية اللون و الطلة، كان المحل اكبر من المحل السالف فكان بطول اربعة امتار و عرض خمسة امتار و يحتوي على تلفازين و جهازين فيديو بيتامكس و مئات اشرطة الأفلام الأجنبية و العربية، فدخل اليه الشابان و سارا و الغضب يغلي بعينيهم و ابتدآ بتمزيق صور الافلام من على جدران المحل و بتحطيم محتوياته، صرخا "إسلامية!!! إسلامية!!! نريد مصر إسلامية!!!" و هما يكسران باجهزة حادة كانت بيديهم عشرات الأشرطة التي كانت معروضة على ارفف المحل، امتلأت شوارع الحي باصوات التحطيم و التكسير مجددا بينما صرخ بعض العائلات من على شرفاتهم على الشباب "عيب ما تفعلوه يا اخوه!!! هذا ليس اسلوب!!!"

صرخ مالك المحل كمال الطويل على الشباب "حرام ما تفعلوه!!! خربتم بيتي!!!" حاول اخذ عصاة من احدهم و مقاموته و لكن تكاتفوا عليه باقي المجموعة و سحبوه الى الخارج، لكمه احدهم على وجهه فسقط على الأرض من حدة الضربة، صرخ موجوعا "حرام عليكم!!!" بينما رفع احد الشباب ساقه و داس على رقبته، صرخ كمال من الضرب قائلا "الرحمة!!!" نظر اليه الشاب بإستحقار و قال الى كمال بنبرة غاضبة "استطيع ان اعلقك و اجلدك على ما تفعل من فجور بهذا الحي، و لكنني سأمارس معك اللين!!! لا تفتح هذا المحل هنا مرة ثانية!!! انت تُسَوِقْ لعهر السينما و للفجور!!! هذا انذار لك!!!" سالت الدماء من فم كمال و الشاب يدوس على وجهه فصرخ عليه احدهم من فوق من شرفة منزله "يا بني! ستقتل الرجل! كُفْ عن اذية خلق الله! ثم من انتم!!!"

اجابه الشاب "اهتم بشؤون نفسك و لا تتدخل بما لا يعنيك يا ديوث الحي!"

حاول الرجل الإجابة قائلا "انا ديوث الحي..." و لكن خرجت اليه زوجته و غطت فمه بيدها من الخوف عليه، قالت له "ادخل الى المنزل يا فوزي! قد يصعدون الى منزلنا!"

ازال فوزي يد زوجته و صرخ على زوجته "هؤلاء الشباب واهمون ان هذا هو الإسلام!"

دخل فوزي الى المنزل بينما اكمل الشباب عملهم بالكامل الى ان كسروا و مزقوا محتويات المحل الى اربا صغيرة، ساروا فورا بعدها نحو قهوة العم السالم تاركين ورائهم كريم يتقلب على الأرض و يتأوه من الألم، وقفوا امام العجوز و كريم و قالوا محذرين في منتصف الشارع صارخين بأعلى صوتهم للناس"اي شيئ يخالف شريعة الله منذ الآن و صاعدا سيلاقى منا رد قاسي!!! اي شيئ يخالف شريعة الله لن نسكت عليه ابدا!!! الحجاب فرض من النبي صلى الله عليه و السلم على نساء امة الإسلام!!! أفلام عاهرات السينما يُمْنَعْ ترويجها بأحياء المسلمين و بحي السيدة زينب بالكامل!!! المُسْكِرات ممنوع تداولها ببيوت اهل الحي و في المحلات!!! و قد اعذر من انذر ايها المسلمون!!!"

 

نظر اليه العجوز سالم و الرعب مرسوم على وجهه، قال له بنبرة بها هيبة "و من انت يا بني كي تأمر و تنهي في شريعة الله؟"

نظر اليه الشاب و قال له "انا امير الحي إسلام المراكبي،"

افترق الشباب خلال ثوان معدودة مثلما التقوا ليتركوا ورائهم سكان حي المرجان مذعورين و خائفين مما جرى، ارتفعت اصوات صفارات الشرطة بالمدى البعيد بينما قال سالم الى كريم "دائما تأتي الشرطة بوقت متأخر بعد ان تحل علينا المصيبة،"

سأل كريم "من هاؤلاء يا عم سالم؟"

تأمل سالم الزجاج المكسور و المنثور على ارض الشارع و افيشهات الأفلام التي تم تمزيقها من حولهم ثم اجاب "انها البداية فقط،"

أجاب كريم "بداية ماذا؟ اشعر و كأنهم من اولاد الحي، هذا ما انا متأكد منه، و لكنهم يتصرفون بسلطان و كأن الأمر فجأة دفع الى يدهم،"

"الشرطة ستتصرف معهم يا بني،"

"حتى الشرطة لن تستطيع التصرف معهم، من اين ستتعرف عليهم؟ قد ذهبوا بعد ان حققوا مآربهم،"

اجاب سالم بقلق شديد "انها البداية فقط يا كريم،"

***************************************

في نفس اللية – حي الميادين – السيدة زينب

وقفت مجموعة آخرى من الشباب الملثمين و المسلحين في منتصف شارع قديم بالحي يحيط بهم بعض من الرجال و النساء، كانوا ملتفين حول إمرأة في الابعين من العمر تبكي بمرارة، كانت يداها مكبلة بأغلال من حديد خلف ظهرها و كان صوت شهقاتها يرتفع من حين لآخر و هي تحاول امساك دموعها المنهمرة، كانت غير محجبة ترتدي قميص ابيض اللون قصير الأكمام و تنورة سوداء يصل طولها لغاية ركبتيها، كانت ترتدي في قدميها نعل كعب عالي اسود اللون، كان شعرها اسود طويل يتدلى لغاية منتصف ظهرها و كانت بيضاء البشرة ذات عينان جميلة عسلية اللون، كان بياض ساقيها و ساعديها واضح تحت انارة الشارع حيث تجمهر ناس من المارة لمعرفة ما قضيتها و لما هي موثوقة اليدين، بعضهم كان يشعر مسبقا ما مصيرها فكان لباسها الصارخ يخالف اللباس الشعبي المنتشر بحيهم، و بعضهم نزل من شققه على البلبلة في خارج منازلهم لمعرفة ماذا يجري، و لكن بالرغم من ذلك ارتسمت على وجوه الجميع ملامح التساؤل عن ماذا يجري و خصوصا بوقت رمضان و بقرب ساعات السحور فكان قد اقترب اذان الفجر و لم يكمل احدهم سحوره بعد،

وقف صالح الأسيوطي بجانبها ينظر الى الجمع، صرخ بأعلى صوته "هذه الزانية ظهرت في فيلم بدور كومباس و هي تمارس الزنا بالسينما، هي واحدة من سكان حينا بالميادين، و تنفيذا لأوامر شريعة الله بجلد الزانية فقد قمت بأحضارها لتنفيذ امر الله بها لعلها تكون عبرة لأي سيدة بالحي تنوي سلوك مسلكها،

صرخ ناس من اهل الحي "بأي حق تأخذون القانون بأيديكم و تنفذون الشريعة، و هكذا من دون شهود او محكمة او اجازة من الدولة؟"

صرخ آخر "من تكونوا لكي تتحكموا بمصير البشر هكذا؟"

صرخ آخر "الشرطة!!! اين الشرطة!! هل اخذتم اذن تنفيذ من وزارة الداخلية!!! هذا لا يجوز!!!"

اطلق بعض الملثمين العيارات النارية من بنادقهم لإخافة الناس، فابتعدوا بعض منهم الى الوراء، صرخ صالح "الدولة الفاسقة لا تنوي تطبيق شريعة الله كما امر الله بها، تسمح للخمرة و للسياحة الفاجرة و للربى فمن اين لها ان تنصف شريعة الله، لهذا الحي كبير من الآن فصاعدا و سيتم تنفيذ شريعة الله بمن يرى انه يستحق ذلك، و نحن ارتأينا ان نفعل ذلك لنطهر مجتمعنا من العهر و الفساد و نساء الليل، لا مكانة للسكير و للعاهرة و للزاني بين جموع المسلمين،" نظر الى زميل له و أمر "اربطها بالحائط،"

صرخت المرأة "الرحمة! انا كنت امثل لا اكثر و لا اقل! انقذوني يا اهل النخوة! انقذوني يا ناس!!!"

سحبها احد الشباب الى حائط بالحي و هي تحاول مقاومته، و لكن قوته غلبتها بسرعة، فَقَيًدَها بسرعة بأغلال كانت مثبتة بالحائط، اخرج احدهم كرباج و عاد الى الوراء بضعة خطوات، انتشرت تمتمات من الناس تعارض ما يجري و لكن لم يابه لها الشباب الملثمين، رفع الجلاد الكرباج و انزل على ظهرها جلدة حادة، اطلقت المرأة صرخة مدوية من الألم، ارتفعت اصوات الإعتراضات و الرافضه لما يحصل فأذابت لبرهة من الزمن صراخ المرأة، و لكن سرعان ما انزل الجلاد جلدة ثانية على ظهرها فانتفض جسدها بشدة و اطلقت صرخة آخرى ارتجف لها جسد الحاضرين، صرخ احدهم "حرام هذا الكلام!!! الرحمة حلوة!!!"

استمر الجلاد بجلد الإمراة فاهتز جسدها من الآلم المبرح و ارتفعت صرخاتها الموجوعة اكثر فأكثر بالحي، ابتدأت بعض الدماء بالظهور على قميصها و لكن الجلاد لم يأبه الى ذلك فاستمر بجلدها ليهتز جسدها بعنف بعد كل جلده، راقب الناس بفزع الحكم ينفذ من دون ان يتجرأ احدهم بالتدخل الى ان ابتدأ جسدها يتلوى مثل الأفعى من حلاوة الروح و الأوجاع، رفع يده صالح اخيرا فتوقف الجلاد عن عمله بعد ان انزل خمسين جلدة عليها، فك الإمرأة من اغلالها و انزلها على وجهها على الأرض و هي تتلوى كالأفعي من الألم، صرخ صالح بوسط الجمهور "كل إمرأة سَتُمْسَكْ بالحي تشارك بالإنتاج الدرامي او تمثل او تمارس مهنة الدعارة ستلاقي نفس مصيرها،" نظر الى لفيف الرجال الملثمين من حوله و قال "هيا،" 

تفرق الشباب بسرعة كما التقوا بالصدفة سريعا و تركوا اهل الحي يحاولون اسعاف المرأة، وقف بعضهم قائلين "ماذا يحصل بالبلد، اين الحكومة، نظر احدهم بالصدفة الى يمينه في اخر الشارع الشعبي الذي كانوا به، فشاهد رجل ملقى على الأرض، صرخ الى الجمع "انظروا العسكري!" اسرع اليه بعض من رجال الحي ليجدوه مغما عليه على الأرض، صرخ احدهم "هل طلب احدكم الشرطة؟ اسعاف يا اخوان!!! هيا!!!"

اجاب اخر "طلبناهم منذ قليل،"

صرخ آخر "هذا لا يجوز، هذا انقلاب على شرعية الدولة،"

*********************************

السيدة زينب – حي المرجان – في النهار التالي

وقف العقيد فهمي الجندي في وسط الشارع في حي المرجان ينظر الى محتويات احد محلات تأجير الفيديو المحطمة، كان الزجاج يملأ المحل و الشارع بالخارج، كانت الأرفف جميعها محطمة و كاسيتات الفيديو جميعها ملقاة على الأرض في حالة سيئة، حتى جهاز التلفاز وأجهزة الفيديو كانت محطمة على الأرض فلم يسلم شيئ من شر هجوم الشبان بالأمس، تمشى وسط الحطام و هو يتأمل مصدوما حجم الدمار الذي كان امامه، حتى واجهات المحل الزجاجية كانت محطمة و كأن عاصفة هائلة قد ضربت المكان، ارتفعت اصوات تفتت الزجاج تحت نعليه و هو يتمشى وسط الركام مفكرا مليا بماهي انسب آلية للتَحَقُقْ من هوية الفاعلين،

 

تجمهر اناس كثيرون في المكان و لكن الشرطة فرضت طوقا امنيا حول المحلات ريثما تأتي شُعَبْ البحث الجنائي لرفع البصمات و مسح المكان، فكان يعتقد على الأكيد ان من فعل هذا الأمر فعله بسرعة و لربما كان متوتر و ترك ادلة ورائه، فليس هنالك جريمة كاملة إطلاقا، فاذكى المجرمين كانوا يقعون عاجلا ام آجلا، خصوصا عند تكرار جرمهم فكان لا بد ان يجدوا ما يدلهم على الفاعلين، اخذ علبة سجائر من جيب قميصه العسكري و اخرج علبة كبريت، اخرج منها سجارة كليوبترا و اشعلها و اخذ منها رشفة عميقة، نفخ الدخان بالهواء و اعاد العلبة و الكبريت الى جيبه و خرج من المحل لتلاقيه انوار الشمس البهية من جديد، كان معاونه يقف بالقرب من المكان مع الشرطة التي فرضت طوقا على مسارح الجريمة، اقترب من المقدم احمد مدبولي و قال له و جفنيه يترقصان من اشعة الشمس،

"اريد رؤية كريم الذي قام بالبلاغ،"

اجاب احمد "انه في منزله، سآمُرْ بإحضاره،"

اجاب فهمي و هو يرتشف سيجارته بعمق "لا عليك ساذهب الى منزله بنفسي، اين يسكن؟"

اشار احمد الى عمارة قديمة كانت على عشرة امتار من المكان، "انه في تلك العمارة بالشارع، في الطابق الأول، و لكن لما تذهب اليه، هو يستطيع المجيئ الينا،"

"احمد اريد استجوابه و هو مرتاح البال، لا اريد توتيره، كانت ليلة صعبة عليه و على كمال، هل مازال كمال بالمستشفى؟"

"حالته متوسطة و لكنه سيخرج بإذن الله،"

قال فهمي بغضب شديد "انهم جماعات شبابية اخوانيه! هذا مما لا شك به! و لكن الأهم يجب الإمساك بهم! الوقت ليس في صالحنا!"

اجاب احمد و هو ينظر الى الدمار من حوله "السيد وزير الداخلية مهتم شخصيا بما يحدث، و لكن ما مرادهم؟ و الى ماذا يخططون؟"

تمشى فهمي مع احمد قليلا وسط الشارع و قال له "انها طريقتهم بفرض شروطهم على اللعبة السياسية، انت تعلم انهم رافضون لإتفاقية السلام التي تسعى الدولة لإقامتها مع اسرائيل، و انت تعلم ان الأوامر العليا صدرت بِتَضْيِقْ الخناق عليهم سياسيا، انها طريقتهم بتركيع الدولة، اثارت المشاكل بالشارع و ترويع و اخافة الناس،"

توقفا بالقرب من عمارة كريم و قال احمد بقلق "يعني يا فهمي باشا ممكن لهذه المشاكل ان تتكرر؟ انت لك مصادرك و صداقتنا تمتد لسنين طويلة من العمل بمباحث امن السيدة زينب...قل لي بصراحة؟"

اجابه و القلق يشع من عينيه و العرق يستبب من لهيب الحَرْ من على جبينه الأسمر "انها البداية يا احمد...نحن لم نرى شيئا بعد..."

قال احمد بقليل من الحزم "نحن جهوزيتنا عالية، سيقعون هم و قياداتهم عاجلا ام آجلا،"

اخرج فهمي منديلا و مسح العرق من جبينه قائلا "المشكلة ليست بالجهوزية، فنحن دولة، انظر من حولك، انظر ما فعلوه بين ليلة و ضحاها، قلبوا حي المرجان و الميادين رأسا على عقب، كم عَوْن و عَوْن لهم بالشارع، قلتها مرارا و تكرارا لوزير الداخلية شخصيا ان رئيس الجمهورية كان يجب ان يصدر قرار حظرهم منذ زمن،"

"نعم يا سيد فهمي، انت محق في ما تقول، ساوفيك بنتيجة المسح الميداني للبحث الجنائي حال وصولهم،"

دخل فهمي الى العمارة القديمة بينما عاد احمد الى مواقع الجرائم، كان المدخل قديما جدا و جدرانه مهترئة و تملأها التشققات و الترهلات، كانت بعض من الصراصير حول المدخل على الأرض فهربت من وقع اقدام فهمي و هو يصعد الأدراج، كانت حِفَفْ الأدراج تتفتت تحت وقع قدميه فكان مفتول العضلات و ذات خطوات قوية، كان طويل القامة ذو بشرة سمراء و شعر اسود قصير و عينيان سوداء، امسك صُوْر الأدراج فاهتز بقبضته القوية فعلم ان العمارة كانت آيلة للسقوط بسبب ردائة صيانتها، وصل الى الطابق الأول و نظر من حوله، كان به اربعة شقق، فنسي ان يسأل احمد اين تقع شقة كريم، و لكنه انتبه في آخر لحظة ان باب الشقة التي على اليمين كان عليها لائحة صغيرة مكتوب عليها اسم ما، اقترب منها و قرأ "منزل الشهيد احمد عبدالناصر،" طرق الباب و انتظر قليلا و لكن لم يجبه احد، انتقل الى الشقة التي بجانبها و نظر على بابها، فلم يجد اسم نزيلها، طرق الباب، انتظر لبرهة من الزمن ففتح له الباب شاب في العشرينيات من العمر، ارتسمت عليه علامات التوتر حينما رأى فهمي و الرتبة التي على كتفيه، قال بهيبة "أفندم يا باشا،"

سأل فهمي "ابحث عن شقة كريم صاحب محل فيديو الأحلام،"

اجاب كريم "نعم ان هو،"

انتظر فهمي لبرهة من الزمن ثم سأل بأستغراب "ألن تقول لي تفضل يا كريم،"

ارتبك كريم قليلا ثم قال "نعم بالتأكيد، و لو ان المكان ليس بقدر المقام يا باشا،"

ابتسم فهمي و قال له "لم آتي يا كريم لأجربك، لا تخجل من شيئ، و لكن يجب ان نتكلم قليلا،"

دخل فهمي مع كريم الى الشقة، كانت الشقة بسيطة الأثاث تتألف من طقم سفرة صغير عند المدخل و طقم كنب انيق بعض الشيئ في قلب الصالة يتباين مع قدمها، امتلات الجدران بالتشققات و بطبقة دهان بالية فكانت القصارة الداخلية ظاهرة، دخل فهمي مع كريم و جلس على طقم الكنب، سأل كريم بأسلوب به راحة اكثر "ماذا تشرب يا باشا، ربما عصير البرتقال سيروق لك اكثر من القهوة مع هذا الحر،"

اجاب فهمي مبتسما "لا عليك فانا مدخن و القهوة ستروق لي اكثر مع السيجارة، و لكن اجلس اولا ثم سنتناول القهوة، هنالك حديث مهم بيننا،"

"واجبكم كبير خصوصا انك تدخل شقتي لأول مرة، حاضر يا باشا،"

سأل فهمي "هل رأيت يا كريم اية معالم واضحة على الذين هجموا عليك بالأمس؟"

"يا باشا كانوا ملثمين بالكامل و يرتدون جميعهم الجلابيب البيضاء، كانوا اقوياء البنية، كانوا مدججين بالعُصي و بعض من الآلآت الحادة، هذا ما اذكره،"

وضع كريم يده على فكه فأبتاسم فهمي قليلا و قال "حمدلله على سلامتك، ألم ترى اية علامات مميزة على وجه اي منهم؟ حاول ان تتذكر،"

"نعم، كانت شامه سمراء على يسار عين الذي لكمني، هذا ما رايته فقط، كانت نظراته لئيمة و كأنه ينظر الى عدوه، نعتني بالفاجر و الفاسق و بِمُرَوِجْ العهر و السينما،"

"انهم تيارات متعصبة و نحن على دراية بهم، ركز معي يا كريم قليلا، نحن نعلم كل شيئ عنك، انت اسمك كريم عبدالمقصود ابن الحاج ثامر عبدالمقصود، والدتك سامية عبدالجليل العطًار كانت فنانة و عملت قليلا بالسينما قبل تتعرف على والدك و تتزوج به، فاشترط بها الإبتعاد عن السينما لتتفرغ للحياة الأسرية، و الديك متوفون رحمهم الله، لديك شقيقة واحده و هي مغتربة مع زوجها باليمن حيث يعمل مشرف في حفريات البترول مع شركة امريكية، انت كنت طالب ناجح في الثانوية و تخرجت بمعدلات ممتازة و سجلت بكلية الشرطة لفترة،"

اجاب كريم بتوتر "انتم حكومة و تعرفون ما تريدون معرفته عن اي احد،" بلع ريقها و اكمل "و لكن اكيد انت لست معحب بي الى هذا الحد لتقرأ ملفي بالكامل من دون اسباب وجيهة،"

ضحك قليلا فهمي و اكمل "انتظمت في كلية الشرطة و لكن عند التخرج قررت الإنسحاب و وَقًعَ قرار الموافقة على انسحابك عميد الكلية حيث ادرك ان اهوائك المهنية قد تغيرت، تركت الكلية و التحقت بجماعة الإخوان منذ اربعة سنين لفترة زمنية ليست بقليلة، و كنت قد اطلقت اللحية و كنت من اقوى مناصيريهم، و لكنك انسحبت بسبب نشاطهم الإرهابي، حيث طلب منك احد مسؤليهم ان تشارك بعملية قتل صحفي مشهور لدى صحيفة المنارة المصرية فرفضت، تركتهم منذ تلك الحادثة الى يومنا هذا حيث قررت ان تفتح محلك منذ سنة..."

نظر كريم بإستغراب الى فهمي و قال "يا باشا ماذا بعد خفيٌ عليك عني، و الى ماذا تريد الوصول، لم يبقى الا و ان تقول لي قياس قمصاني و بنطالي،"

اجاب فهمي بثقة "نحن نريدك معنا يا كريم، طيلة الفجر حينما قرأت ملفك و انا افكر بالأمر الى ان تيقنت انك انسب شخص للمهمة،"

وقف كريم برهبة من عرض فهمي "يعني تقصد انك تريدني عميل معكم..."

قال فهمي لكريم "اهدأ و سأقول لك ما تريد معرفته،"

جلس كريم و الصدمة مرسومة على وجهه، اكمل فهمي "انت آخر شخص سيعتقد تنيظم الإخوان في السيدة زينب انك قد تعمل معنا، و بما انك كنت من ملتهم سيتقبلون عودتك بكل سهولة، افهمت يا كريم،"

اجاب بقليل من الرهبة و العرق بسبب حر النهار ينساب من على جبينه و وجهه، "واضح يا باشا، انا...انا..."

"لا تتردد بخدمة وطنك فانت إنسان نظيف من الداخل، ابتعادك و رفضك لتتميم عميلة قتل الصحفي يدل على حبك لوطنك،"

سأل كريم بإرتباك "و لكن كيف عرفت ما دار بيني و بين مسؤل التنظيم الذي طلب مني اغتيال الصفحي سلطان رستم؟ كيف؟"

أخرج فهمي علبة الدخان و قام من مكانه، سار بضعة خطوات نحو كريم الذي وقف و قال "استغفر الله يا باشا، واجبك ان تدخن من عندي،"

اخذ علبة دخان من طبق زجاجية على الطاولة و فتحها و عرض السجائر على فهمي، اخذ فهمي سيجارة و قال "شكرا،"

اشار لكريم بالجلوس و قال "لا تتوتر، فاسمك ورد بالتحقيقات التي تمت مع قاتل سلطان، و لكن لم يتم استدعؤك حينها لأن الجاني عُرِفَ من هو، و لكن اراد الجاني الإيقاع بك معه بالقضية، و الذي اسعفك ان التحقيقات اثبتت بأنك كنت قد ابتعدت عنهم لأشهر طويلة، هل تعلم لو لا قرارك بالإبتعاد عن هذه المِلًة بالوقت المناسب كان يمكن ان تسجن و يتم التحقيق معك،"

ارتسمت علامات الصدمة على وجه كريم، فلم يكن يعلم اساسا ان اسمه قد ورد ذكره حينها بالتحقيقات بمقتل سلطان رستم، اصابه الذهول مما قاله فهمي، كانت فترة سالفة من حياته قد تأثر بها من وعاظهم فانتظم كأحد النشطاء بتنظيمهم و لكن سرعان ما طلب منه ما لم يكن بالحسبان، فتركهم و اقفل الصفحة معهم منذ بضعة سنين، و لكن ها الماضي يعود اليه بما حمل من ذكريات صادمة و أليمة،

اجاب و القلق يملأ عينيه "فهمي باشا لو رفضت عرضكم..."

"انظر ماذا فعلوا بوطنك، انظر الى محلك، انظر الى الضرب الذي تلقيته، هم يعلمون من انت و رغم ذلك لم يرحموك، فهل سيرحموا بلادنا، عموما انت عليك اقساط بنكية تسددها لمحلك في كل شهر، و وضع محلك الحالي سيجعل سدادها صعبا، قد سددنا اقساطك بالكامل،"

صرخ كريم من الصدمة "باشا!!!"

"قل لي من اين ستأتي بالأقسط و محلك محطم،"

قال برهبة شديدة "باشا...انت تطلب مني ان اكون عميل مزروع وسط قتلة يمارسون الإرهاب..."

قال فهمي لكريم بنبرة صارمة "كريم عبدالمقصود اريدك رَجُلْ معي...رأفت الهجان لو خاف مثلك لما خدم وطنه، مصر تحتاج لرجال ليخدموها! هل تريد ان تكون مثل النعامة و تدفن رأسك بالرمال و تقرر ان لا ترى شيئا، ام تختار ان تكون رجلا مثل الذين خدموا مصر و كانوا اصحاب موقف و كانوا من الشرفاء، لا تخاف نحن سنحميك و انت وسطهم،"

وقف كريم وفكر لبرهة من الزمن بكلام فهمي، سار لبضعة خطوات في الصالة وهو يفكر بالأمر، كان يعلم بقرارة نفسه أن فهمي محق بما قال، فلو تهرب عن خدمة وطنه سيكون قد خذل مباحث امن الدولة و جهاز مخابرات الدولة، ولو قرر القبول سيكون هذا الصواب و لكنه سيكون مزروعا بوسط اشرس حزب اخواني بتاريخ السياسة المصرية، كان يشعر بالغضب بداخله من عملية تحطيم محله و محل زيمله بالأمس، و سمع من شبان الحي عن عملية جلد الفنانة التي تمت بالميادين، كان يعلم ان هذا النشاط غير مسبوق للتنظيم في مصر، و كان يعلم العقليات السياسية التي تحركه و الى ماذا كانوا يهدفون،

تنهد بقوة و استدار نحو فهمي و قال بقليل من الرهبة "ما هي قهوتكم فهمي باشا، سنتكلم بتفاصيل دوري كعميل و نحن نشرب القهوة،"

ارتسمت علامات الراحة على وجه فهمي و قال "كنت اعلم انك ستقبل، و انك لن تخذل اجهزتنا، قهوة وسط،" ...يتبع

**********************************