الأربعاء 1 مايو 2024

عِرَاكُ الجَمَلَيْنِ في السماء..!!

مقالات20-9-2023 | 12:21

وفي أشهر الصيف الملتهبة يدفعني وهجُ الشمس الحارقُ إلى ارتقاب خطى الخريف الخجولة كعاشقٍ واعدتْه فتاتُه ... وتدلَّلتْ ، هي لم تنس موعده ..!! كلاَّ لكنها أرادت أن ترى أماراتِ الشوق تكاد تصيح بها أنْ تعاليّْ ؛ تأتي خطى الخريف الخجولة ترافقها بعضُ النسمات الباردة نوعاً ما ، لتصافح أجساداً طاردتْها شمسُ الظهيرة كثيراً كَمَنْ ظلَّ دهْراً يتقلَّب على جمْر الشواء ...!! ولست وحدي الذي يضجر من الشمس الحارقة خصوصاً بعدما أصاب الاختلالُ الحادُ مسلماتٍ كثيرةً في حياتنا ما كنا نتوقعها، ومنها ما حفظناه صغاراً، أن مناخ مصر(حارٌ جافٌ صيفاً ، دفيءٌ ممطِرٌ شتاءً) لقد أفسد الإنسان بعدوانيته كلَّ شيء..!!.

ولعلي من أكثر البشر شغفاً باستقبال المطر، ولا أزال إلى اليوم أفتح الشرفة معرِّضاً ما استطعتُ من جسدي كيما تبلِّل قطراته اللؤلؤية وجهي وكف، وتغسل روحي مما علق بها من سياط شمس"يوليو"وأعوانه .. صحيحٌ أنني بعدما كبرتُ صرت أُكْثِرُ من التمتمة بالدعاء حال هطول المطر، إلا أن ذلك الطفل المشاغب - الذي لم يزل يسكنني - يصرُّ على ممارسة ماكنت أفعله صغيراً تحت أمطار الإسكندرية من اللعب والغناء والابتهاج بوميض البرقِ وقَصْفِ الرعدِ، والفرح بانتصار جَمَلِ الشتاء في عراكه مع جَمَلِ الصيف - هكذا كنا نفسِّر ما نراه من برقٍ، أو نسمعه من رعد - ولم أزل إلى اليوم يحلو لي المشْي تحت المطر رغم ما يخلِّفُه من آثارٍ تأبى مغادرة ملابسي أو شوارعنا إلا بعد معاناة ... لكنني والكثيرين من حولي نحبُه وكَفَىَ ... والحب لا يحتاج تعليلا.!!.

وللمبدع "نزار قباني" وَلَعٌ شديدٌ بالمطر ...خصوصاً في أواخر أيام "سبتمبر" حيث تبدأ أولى حفلات المطر في الانعقاد وتتعجَّلُ أوركسترا المطر في اتخاذ أماكنها على صفحة الأفق ، وتبدأ عناصرها العزفَ البديعَ ألواناً وأصواتاً ...!! يقول"نزار قباني" في قصيدة (سبتمبر) :(الشعر يأتي دائماً مع المطرْ/ ووجهُكِ الجميلُ يأتي دائماً مع المطرْ/ والحبُّ لا يبدأ إلا عندما تبدأ موسيقى المطرْ )... إن أجمل ما يميز شعر "نزار قباني" هي تلك البساطة التي تجعل المتلقِّي الطيِّبَ يحسب أنه قادرٌ على الإتيان بمثله ..!! لكنه الوهم الُمضلُّ فتلك البساطة المغرية تخفي تحت سطحها عمقاً يعجز عن الإبحار فيه سوى المتمرس المستطيع تحاشي تأثيراته التي تأخذ بأطواق الكثيرين من دراويشه؛ لقد ربط"نزار قباني" ما بين الشعر ووجه محبوبته والحب ربْطاً وثيقاً بالمطر وموسيقاه الناشئة من تكرار تساقط قطراته على أوتار الأسطح ؛ ليأتي ختام الأسطر الشعرية الثلاثة بمفردةٍ واحدةٍ (المطر) والإلحاح على المفردة فيه ما فيه من ترسيخ المعنى وترسيخ موسيقاه الصوتية من خلال مخرج حرف"الراء" ونطقه أشبه بطرقات قطرات الماء على زجاج النوافذ، فالشعر يأتي وكذلك وجهك الجميل يأتي ، لكن الحب مبدأه موسيقي المطر .. ولم يصف"نزار قباني" سوى وجه المحبوبة بالجمال طوال الأسطر الثلاثة، وكذلك السطرين القادميْن لإفراغ المشهد من كل موصوف سواها..!! كل الأشياء استخدمت بمسمياتها سوى المحبوبة فمرَّةً "وجهك الجميل"ومرَّةً"حبيبتي" يقول :( إذا أتى أيلول يا حبيبتي أسأل عن عينيك كل غيمةٍ / كأن حبي لك مربوطٌ بتوقيت المطر..!!)                                                                                                                                                                 
 ويأبى"نزار قباني"إلا أن يدهشنا ؛ فبعدما فجَّرتْ في أرواحنا قصيدتُه "سبتمبر" طاقةً إيجابيةً ، تأتي قصيدته "عقدة المطر" مصورةً مشاعره السلبية ومخاوفه وعقدته من الشتاء إذ يرتبط بغياب الحبيبة ، وعجزه عن تجاوز ذلك يقول : ( أخاف أن تُمطر الدُّنيا ولستِ معي/ فمنذ رحتِ وعندي عقدةُ المطرِ) ... إن وجودها فارق معه حال قدوم الشتاء بتقلباته ؛ فهي المانحةُ الدفءَ والشغفَ ، يجد الأمان في طوق نجاةٍ من خصْلات شَعْرِها (كان الشتاء يغطيني بمعطفهِ / فلا أفكِّر في بردٍ ولا ضجرِ)(وكانت الريح تعوي خلف نافذتي/ فتهمسين: تمسَّكْ ها هنا شعري) إنه الآن وحيدٌ أعزلُ لايقوى على مواجهة تقلُّبات الطقس ، وقد احتلته وملكت عليه مواطن قدراته (أنا أحبك يا من تسكنين دمي / إن كنت في الصين ، أو إن كنت في القمرِ) ، وهي كل مالَه في دنياه (ففيك شيءٌ من المجهول أدخله/ وفيك شيء من التاريخ و القدرِ !!)...ورغم اتفاق القصيدتين في قافية "الراء" إلا أن "الراء"في قصيدة"سبتمبر"ساكنةٌ تناسب رغبته في السكون إلى دِعَة الوقت والرغبة في عدم مغادرة الشتاء ، لكن"الراء" في قصيدة"عقدة الشتاء" بحركة"الكسرة"بما تحمله من انكسارٍ وضعف.                                                            لنصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي ؛ حيث قصيدة (العاصفة المطرية) للشاعر المالاوي "فرانك تشيباسولا"حيث يفجِّر الشاعر أسئلته المستلهمة من سقوط المطر..إنها لحظة استشراف الغد وتمعُّنِ الحاضر ومساءلةِ النفس عن أحداث الماضي فمع"فرانك تشيباسولا" و(العاصفة المطرية) :     
غسلَ المطرُ معطف الريح ... كَنَسَ أنف الجبل من الغبار ... لعق الدم عن قمته ..!!
هنا الطريق الذي تركْنا في الخلف
توقف وانتظرنا، سألَنا أين كنا حين سلخوا جلد الأرض ؟!!
الطريق -الذي تحدى المطر- تسلل بين الجبال
وتركنا نتساءل إلى أين يقودنا هذا الطريق.. وأين كان المطر؟!!
هذا المطر الذي ترك قطرات أحلامٍ في راحات أكفِّنا ؛ كي نبذرها في تربة قلوبنا
تحت أفاريز السماء وضعنا عقولنا المفتوحة.. وملأناها بالطهارة التي نزلتْ من السماء..!!

Dr.Randa
Dr.Radwa