في صباح يوم مجيد كانت الأمور تبدو عادية للجميع، فالشمس التي أشرقت وملأت الكون نورًا وضياءً كانت كما هي حتى وهى تتسلل من خلف زجاج نافذة حجرتي بهدوء لم تنطق بشيء جديد ولم تبح بسرها لي، وكأنها أدركت أن طفولتي ما هي إلا مزيج من لهو ولعب ولم تنتبه بعد لعمق شخصيتي التي تكونت بفعل وجودي مع أسرة تعي كل ما يدور من حولها، أسرة اعتنقت حب الوطن وعاشت قضاياه فاصطحبتني معها في رحلة الوعي في سن مبكرة، وكان هذا هو أثمن حب يمكنها أن تقدمه لي في هذه الحياة.
كنت في الثامنة من عمري وكنت بالطبع تلميذة صغيرة تذهب كل يوم إلى مدرستها، لم تكن هناك عطلة أسبوعية في يوم السبت وكانت بداية دراستي في كل عام تبدأ في الفترة المسائية، ذهبت حينها إلى مدرستي حاملة حقيبتي التي كانت بداخلها كتب بسيطة أحببت منها جميعها وهذا كتاب اللغة العربية الذي كان يغرس فينا حب الوطن والانتماء له في أغلب موضوعاته وكأنه امتداد لدور عائلتي التي كان من ضمن أفرادها أحد الأعمام الذي ذهب منذ فترة وجيزة ليؤدي دوره في الخدمة بالجيش.
مرت حصتان والأمور تسير كما هى دون تغيير ولا أحد منا يعلم ماالذي تخبئه لنا اللحظات التالية من نصر من عز ومن شرف، جميعنا كان يعلم أن أرض سيناء قد استولى عليها عدو غاصب كنا نرددها هكذا دائمًا، كنا نحلم بمجيء هذا اليوم الذي سيتم فيه تحرير أرض سيناء وحينها دخل معلم الفصل ليبلغنا بكل هدوء بأننا الآن سوف ننصرف من المدرسة ونعود إلى منازلنا فتسابقت علامات الاستفهام على الفور لتطل بفضولها عليه وتسأله عن السبب، ليرد علينا بأنه قد آن الأوان لبدء الحرب بين جيشنا وبين جيش الأعداء وبأن مصر سوف تسترد أرض سيناء التي اغتصبها هذا العدو الغاشم ومكث فيها لمدة ست سنوات.
لم يدرك بعضنا مما قاله معلمنا إلا شيئًا واحدًا مهمًا للغاية بالنسبة له في وقتها هو الانصراف والعودة مرة أخرى إلى المنزل. كانت هناك حركة غير عادية فالطائرات كانت في السماء متتابعة والخوف بدأ بإلقاء ظلاله على أغلبنا وتذكرنا ما قاله المعلم لنا وظل يؤكد لنا عليه قبيل الانصراف: "اوعوا تاخدوا أي حاجة من الأرض يا ولاد ممكن يكون في لعب شكلها جميل بيرميها العدو من الطيارات وجواها مواد متفجرة"، وهنا يختلط بذهني هذا الموقف الكوميدي الذي ما زلت أذكره وأضحك كثيرًا منه حتى الآن حين وقع قلم من حقيبة زميل لنا على الأرض وهو يهرول خائفًا ويخشى أن يأخذه خوفًا من انفجاره على الرغم أنه يمتلكه من قبل موعد بدء الحرب، كم هى جميلة براءة الطفولة!.
أعود لمنزلي لأجد الراديو مفتوحًا وأسمع بيان القوات المسلحة فينتابني شعور بالفخر والخوف فالحروب ليست بالشيء الهين، كنت أراقب جدتي وأستمع إليها وهى تدعو للجنود بالسلامة وتحقيق النصر الذي تغيب كثيرًا تدعو الله وهى تعلم أن مع كل حلم سيأتي نهار يحوله إلى حقيقة، كانت تدعو لابنها ثم تردد: "ربنا ينصر ولادنا" إنها كانت تشعر بقلب كل أم لها ابن على الجبهة يحارب مثل ابنها.
هكذا مرت الأيام علينا ما بين شعور بخوف وشعور آخر بالمجد والفخار، كانت صافرات الإنذار ترسل برسائل الرعب مع صوتها الجهوري رسائل تتوالى ما بين خطر وأمان في أي وقت ترسل تحذيراتها لتتغير الأحوال في ثوان، فنقوم بإطفاء الأنوار ونتخيل بخيالنا الصغير ما يفوق كل خيال.
تتوالى البيانات العسكرية لتطلعنا على أعظم وأشرف معارك قواتنا المسلحة الباسلة وتزف لنا البشرى بتحقيق النصر وعبور المحال، وما هي إلا ساعات حتى تحقق حلم استعادة الأرض ومن قبلها استعادة العزة والكرامة. تمر الأيام والأعوام وأنسى مع سرعة مرورها أنني قد تجاوزت الخمسين من عمري بسنوات ومازال نصر أكتوبر العظيم أنشودة أرددها في كل عام وسأظل هكذا طالما كان في العمر بقية وما دامت في القلب حياة .