السبت 4 مايو 2024

المبادرة والاعتماد على الذات أهم أسباب النصر في حرب أكتوبر

مقالات9-10-2023 | 12:49

- اختلفت الأدوار والتوجهات العربية كما اختلفت الاهتمامات والأولويات، وساعد هذا وذاك على مزيد من الاختراق الأجنبي للجسد العربي
- كان القرار العربي في حرب أكتوبر يأخذ زمام المبادرة قرارا قوميا .. ولم يكن يعكس التوازنات الدولية التي كانت سائدة وقتذاك
- جاءت حرب أكتوبر كمفاجئة كاملة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية لذلك أطلقوا عليها أسماء مثيرة مثل الزلزال أو الكارثة 
- حطمت الانتفاضة الفلسطينية مجموعة من المفاهيم لدى الإسرائيليين،لأنها تتمتع بالتأييد الجارف لمجمل أهالي الضفة الغربية وغزة
قليلة هي الأحداث التي يمكن أن توصف بالتاريخية ومع ذلك فإن العرب من أكثر الناس استخداما لهذا التعبير فكل خطاب سياسي للحاكم هو خطاب تاریخی و کل قرار له يحمل ذات الصفة. لذلك .. للأسف - فقدت الصفة دلالتها فى النفس العربية. واختلط الحابل بالنابل، مع أن التعبير له معناه ودلالته ومغزاه.
فالتاريخ الإنساني هو شلال متدفق من الأحداث والوقائع والتطورات منها الإيجابي ومنها السلبي، منها ماهو في صالحنا ومنها ماهو خصم علينا منها ما تفرضه قوى أكبر ومنها ما نشارك فى صنعه. وفي وسط هذا الحشد الهائل من الأحداث والوقائع والتطورات ترتفع هامة بعضها بفعل ما أحدثته من تغييرات أو ما بشرت به من تطورات.
تلك الأحداث يتوقف التاريخ أمامها كثيرا. فتلك تمثل نقاط تحول في مسار مجتمع ما أو حياة جماعة ما، وتلك هى التي توصف بحق بالتاريخية، وهى توصف بذلك لأنها أوجدت حقائق جديدة في حياة البشر والمجتمعات، لأنها فتحت أمامها آفاقا جديدة من البدائل والاحتمالات ولأنها غيرت موازين القوى فيها. من تلك الأحداث الثورات والحروب. وإذا أخذنا الثورات للتدليل على ذلك نقول أن الثورة الفرنسية مثلا لم تغير فقط شكل النظام الحاكم فى فرنسا ولكنها غيرت وجه أوروبا بأسرها. والثورة الأمريكية دشنت دولة جديدة ذات موارد وقدرات هائلة، والثورة البلشفية كانت بداية انقسام العالم إلى نظامين اجتماعيين مختلفين ونفس الشيء يمكن أن يقال عن ثورات كبرى أخرى كالثورة الصينية والثورة المصرية كما يمكن أن يقال عن الحروب الكبرى التي شهدتها البشرية .
والحدث التاريخي بهذا المعنى ينشأ من رحم التاريخ وبعكس تطوراته وهو قد يبدو عنيفا أو مفاجئا، ولكنه فى واقع الأمر نتيجة تخمر بطيء وحصيلة تراكم جزيئات بسيطة وتفاعلات متداخلة عبر فترة ممتدة من الزمان والحدث التاريخى من ناحية أخرى لا يمكن فهمه خارج إطار الإرادة الإنسانية. وإذا كان من الصحيح أن التاريخ لا يتحرك بطريقة عشوائية أو عفوية ولكن في إطار محددات موضوعية. فإن ذلك لا يعنى ميكانيكية الحركة التاريخية أو استغلالها عن البشر، فدور الإنسان جوهرى والتاريخ لا يتحرك بمعزل عن البشر.

من أكتوبر 73 إلى ديسمبر 87
ما بين هذين التاريخين سالت دماء عربية كثيرة وتعددت الخلافات العربية وكذا بؤر النزاع والتمزق فى الوطن العربى. اختلفت الأدوار التوجهات، كما اختلفت الاهتمامات والأولويات. وساعد هذا وذاك على مزيد من الاختراق الأجنبي للجسد العربي، ولكن حتى لا نكون من الذين يبكون على اللبن المسكوب، فمن الضروري أن نتأمل في الواقعتين : واقعة حرب أكتوبر التي تمت وانتهت، والتي بعد أقل من ثلاثة سنوات من نشوبها انفرط العقد العربي. 

والواقعة الثانية التي بدأت فى ديسمبر ۱۹۸۷، والتى مازالت مستمرة حتى اليوم . ولأول وهلة فإن كلا الحدثين يجمع بينهما أكثر من اعتبار. يجمع بينهما أنهما يتعلقان بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، ويجمع بينهما أن زمام المبادرة فى يد العرب وأنهم وضعوا إسرائيل في موقف الدفاع ورد الفعل، ويجمع بينهما الاستناد إلى جبهة عريضة من التضامن العربي .
ولكن هذه التشابهات لا ينبغى أن تغفل من الاختلافات بينهما فحرب أكتوبر هي حرب نظامية بين جيوش دول. وهي حرب شنتها مصر وسوريا من أجل تحرير أراضيها الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي. أما الانتفاضة فهي حركة شعب تحت الاحتلال، وهي ممارسات يومية لكل أشكال العصيان المدني تتم على الأرض المحتلة نفسها وتتضمن مواجهة مباشرة بين جنود الاحتلال والشعب الذي يخضع لسلطة الاحتلال .
الاعتماد على الذات
من أهم دروس الواقعتين تكريس مفهوم الاعتماد على الذات كشرط للإنجاز أو النصر، ففى حالة حرب أكتوبر كان القرار العربي يأخذ زمام المبادرة قرارا قوميا .. ولم يكن يعكس التوازنات الدولية التي كانت سائدة وقتذاك أو يستند إليها. ولعلنا نتذكر أنه فى مايو ۱۹۷۲، انعقد مؤتمر قمة موسكو والذي تضمن إعلانه اتفاق الدولتين العظميين على الاسترخاء العسكرى فى منطقة الشرق الأوسط. من هذا الوقت كان العملاقان يطوران العلاقة الجديدة بينهما في سياق حالة من الانفراج الدولى، ولم يكن أحدهما على استعداد لعمل مواجهة ساخنة مع الطرف الآخر بسبب نزاع إقليمي. بعبارة أخرى كان استمرار الأمر الواقع لا يمثل خطرا على أحد غير العرب، ومن ثم فإن مسئولية تغييره كانت عليهم كاملة ولا يعنى هذا بالطبع الانتقاص من الدعم الخارجي - أساسا السوفييتي - لمصر وسوريا وقتذاك ولكن يعني أن دفة تحريك الأمور كانت في يد العرب وأنهم خلقوا موقفا جديدا كان على الآخرين أن يتعاملوا معه ولن يستجيبوا إلى مقتضياته. 
وبنفس المنطق فإن قيام الانتفاضة كان في المقام الأول يعبر عن نفس مفهوم الاعتماد على الذات. لقد ظلت إسرائيل تردد لسنوات وسنوات أنها تواجه إرهابيين، ومتسللين .. إرهابيون يقومون بإثارة الفزع والاعتداء على حياة المدنيين. متسللون يعبرون الحدود للقيام بهذه العمليات أو تلك. وتضمن هذا أن عمليات المقاومة لا تنبع من داخل الأراضي المحتلة ولكنها تتم بتنظيم وتمويل من الخارج. ولطول مدة الاحتلال ( منذ ١٩٦٧ ) تصورت القيادات الإسرائيلية أن الجيل الجديد من الفلسطينيين قد قبل الأمر الواقع وأنه لم يعد يرى بديلا واقعيا وبالذات مع استمرار التمزق العربي والتناحرات العربية. تحدثوا أيضا عن ارتفاع مستوى معيشة الفلسطينيين تحت الاحتلال وأنهم كانوا أحسن حالا معا كانوا عليه قبل عام ١٩٦٧.
ويقال أن الكاذب قد يصدق نفسه مع تكرار أكاذيبه يوما بعد يوم، ويبدو أن شيئا من هذا قد حدث في سلوك إسرائيل سواء بالنسبة لحرب ١٩٧٣، أو لانتفاضة ۱۹۸۷.
 بالنسبة لحرب ۱۹۷۳، فقد جاءت كمفاجئة كاملة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية والمحللين الاستراتيجيين فيها لذلك أطلقوا عليها اسماء مثيرة مثل الزلزال أو الكارثة، ويرجع ذلك الى أن الفكر الإسرائيلي خلال الفترة 67-73  وصل إلى عدد من الاستنتاجات التي ارتفعت إلى مستوى المسلمات والبديهيات. فقد سلموا مثلا بأن العرب لا يستطيعون التنسيق فيما بينهم وأنهم ليست لديهم القدرة على التخطيط المشترك أو التنسيق الجماعي كما سلموا بأن أية دولة عربية بمفردها لن تجرؤ على منازلة إسرائيل. والحقيقة أن هذا الاعتقاد لم يقتصر على إسرائيل بل على كثير من الدول الغربية وفى التعليقات الصحفية المبكرة على نشوب حرب أكتوبر نجد فيها الكثير من الأسف والأسى على أولئك المصريين الذين لم يدركوا أى مصير ينتظرهم عندما يقدمون على الحرب مع إسرائيل. لذلك فعندما نشبت الحرب واستطاع المصريون عبور القناة و اكتسحوا خط بارليف فإن ذلك حطم لدى الإسرائيليين مجموعة متسقة من الأفكار التي رددوها وصدقوها عن الإنسان العربي وقدراته وآدائه .
وبنفس المنطق فإن الانتفاضة حطمت مجموعة منسقة أخرى من المفاهيم لدى الإسرائيليين، فقد بينت الانتفاضة بوضوح لا شبهة فيه ولا مظنة، أنها تتمتع بالتأييد الجارف لمجمل أهالي الضفة الغربية وغزة، وأنها حركة مقاومة وطنية ضد قوة احتلال تتم على الأرض بتنظيم داخلي، وما كان يمكن للانتفاضة أن تستمر لولا درجة عالية من التنظيم من ناحية، ومن التأييد الشعبي من ناحية أخرى .
والاعتماد على الذات بالمعنى الذي عرضت له لا ينفصل عن وجود الإرادة الوطنية القادرة على الحشد والتعبئة والحسم  .
ونقول أخيرا أن اكتوبر ۱۹۷۳، من ناحية وديسمبر ۱۹۸۷، من ناحية أخرى هما معلمان فى إطار مواجهة حضارية وتاريخية كبرى، مواجهة تأخذ أشكالا عسكرية وثقافية واقتصادية، والمواجهات الكبرى في التاريخ لم تحسمها القوة العسكرية وحدها. وكم من حضارات هزم أصحابها عسكريا وبقيت الحضارة نفسها منتصرة تستولى على الفاتحين وتؤثر فيهم لذلك فإن هذا النوع من المواجهات تتعدد أدواته وطرائق نضاله، ولأنها مواجهة تاريخية فإن عنصر الزمن يلعب فيها دورا أساسيا وتصبح القدرة على الصمود والاستمرار معينا لا ينضب.

نشر في عدد مجلة الهلال- أكتوبر 2023

 

Dr.Randa
Dr.Radwa