الأربعاء 15 مايو 2024

حبيبتى أثينا .. لا تبكى ( ١- ٣ )

15-1-2017 | 00:07

على رصيف كافتيريا ميدان «سان دغما» بالعاصمة اليونانية أثينا يطير الحمام، والجرسونة السمراء الدافئة «ليلى»، ترفرف بالمينى جوب بلون الشاي بالحليب، والقميص الأبيض، إفريقية الجمال، عيناها السوداوان ورموشها الطوال تبارك الخلاق، ونهداها يرتجان بعنف، والجوب ينحسر عن ساقين سمراوين، يعجز عن مجاراتهما بنات أوربا.

عاكستها كالمعتاد، وجاءت صائحة بوجهها البشوش: «إنت تانى؟».

قلت لها إننى سأحبها للأبد، وسأقرأ جريدة الأهرام، وأنصرف.

وأعطيتها وردة برية من جبل بلاكا، فابتسمت ووضعتها في عروة الجاكت.

وقبل أن أسافر بيوم واحد، رحت إلى ليلى ،كانت تصبغ فمها الساحر بروج بلون الموف القاتم، ولوّنت أظافرها من شفتيها، وقرط موف عملاق يرقص على عنقها الطويل، وذيل الحصان يعقصه شريط حريري موف، وبعد أن دفعت الحساب، غمزت ليلى على جارتي المراهقة الفاتنة سولا التي كانت بصحبتي قائلة: ذوقك حلو قوي.. حبيبتك؟ ففهمت سولا وضحكت وهتفت قائلا: ياريت..لكنها أختي.

وقلت لليلى إنني جئت لأودعها، ورحلت.

وقبل أن أعبر الشارع، هرولت خلفنا، واستوقفتني قائلة: «إنت ماشي فعلاً ؟؟.مع السلامة هاتوحشني. هاشوفك لما ترجع.. مش عايز حاجة؟»

تركت ليلى خلفها الكافتيريا والرواد. وكانت لا تعرف أنني مسافر بلاعودة فقلت: أشوفك بخير.

قالت: لا إله إلا الله. قلت: محمد وعيسى نبيا الله

رجعت لليونان بعد ربع قرن ،مع رفيق رحلة اشترط من اليوم الأول للسفر، ألا يتناول لحم الخنزير؛ ولأن كل المطاعم بلا استثناء تستخدم دهن الخنزير، صار طعامنا أنواعاً من الجبن محددة، وفاكهة وخضراوات وفول.

في اليوم الثالث صرخ بأنه لن يتحمل، ويريد أن يأكل لحوماً وأسماكاً وإلا سيغادر بلا رجعة.

استعدت أياماً قديمة.وتذكرت ماريا السكندرية، كنا نقطع خمسين كيلومتراً لنأكل عندها الفول بالسمن البلدي والطعمية، لكنني أبعدت الفكرة تماماً؛ لأن عمرها كان وقت أن غادرت ستين عاماً.

كانت في ميناء بيريا، وقررت أن أذهب هناك؛ لأتحسس آثارها القديمة.

في الطريق صادفنا عمالا مصريين، سألت عن مطعم يبيع الأكل المصري، فقالوا جميعاً: اسأل عن ليلى.

مطعم ليلى، خمسون طاولة في الشارع، بخلاف طاولات بصالات المطعم المكيف، استرحت بالخارج على أحد المقاعد الوثيرة، واطمأن صاحبي بعد أن قرأ قائمة الطعام، ووجدها غنية بالملوخية بالأرانب والكشك ومحشي الكرنب وكباب الحلة.

طلبت بيرة، وبعض السلطات، ومضى أكثر من نصف ساعة، فقررت أن أدخل المطعم؛ لأتعرف على نوعية الطعام واستعجال الطلبات.

وعند مدخل المطعم رأيتها، وسط الزحام، ليلى البورسعيدية السمراء، تشخط وتنطر، والبعض يعاكسها، وجاء دوري.

ما زالت جميلة، برغم أنها تعدت الأربعين، وقد عقصت شعرها ذيل حصان.

قلت لها ضاحكا: «أنا من مصر» فرفعت حاجبيها الجميلين في مشاكسة قائلة: «يا مرحب؟ ما كل دول مصريين».

وكان الزبائن من حولنا، يهتفون صارخين: ليلى.. لولا، استعجالاً للطلبات.

قلت لها إنني قادم حالاً، وصحفي بإحدى المجلات فانتبهت.

وقالت: أي خدمة؟ قلت لها: أريد أن آكل. قالت: حاضر.

قلت :كما أنني أحبك منذ ٢٥ سنة. تنمرت كأنثى وقالت: نعم ؟

قلت: وتركت عندك أمانة وردة برية من جبل بلاكا.

حدقت طويلاً، وصرخت.

قالت: لا تتحرك.

عادت ليلى، بعد دقائق ،في قمة الأناقة، وصارت منضدتنا أهم طاولة، كانت ترتدي صديرياً معقوداً برباط، يكشف عن بطنها الأسمر العاري، وبنطلوناً أبيض، وصففت شعرها بعناية، ووضعت قليلاً من الماكياج.

تزوجت ليلى القبطية الجميلة من فاسيلاه، هكذا قالت.

سألتها: أين هو لأقتله؟ فقالت ضاحكة: «قاعد فوق ويا ريت تعمل كده.»

ليلى بقيت في اليونان، يطاردها المعجبون، من كل مكان، وكنت واحداً منهم.

لكن واحداً من اليونانيين، رآها وأصيب بالجنون، فاسيلاه، ابن أحد أكبر العائلات ثراء في أثينا، لم يتحمل جمالها وطاردها في كل مكان، لكن قلب ليلى كان مستحيلاً بدون زواج وكنيسة، فتزوجها.

أنجبت ليلى خلال عامين ولداً وبنتاً، واشتعلت النار في العائلة؛ لأن ابنهم الأثير الذي تتهافت عليه بنات عائلات أثرياء أثينا، اختطفته تلك الساحرة السمراء.

عندما يضيع أحد البحارة في البحر المتوسط يقولون في أثينا إن كليوباترا اختطفته ،كليوباترا أخضعت بالسحر الأسود يوليوس قيصر، ولما مات استطاعت وهي عجوز شمطاء أن تسحر مارك أنطونيو؛ ليهجر القتال والجيوش من أجلها، ولولا أنها انتحرت للقي أكتافيوس نفس المصير.

عرضت العائلة على فاسيلاه الابن أن يطلّق الساحرة المصرية السوداء، لكنه رفض.

وعرضت أن يعوّضها بنصف مليون دولار؛ لترحل لمصر، مع أولادها، ويطلقها، ورفض مرة أخرى.

ومات أبوه غاضباً.

وراح فاسيلاه لحضور الجنازة، مع زوجته، وفي اليوم الثالث، حضر محامي العائلة، وفتح وصية للأب، تشترط حرمان فاسيلاه وزوجته من الميراث.

لم يمرض فاسيلاه الابن - هكذا حكت ليلى- ولم يصب بذبحة صدرية، لكنه بقي في مكانه، صحيح البدن والعافية، لكنه لا يتذكر اسمه.

حملته ليلى عائدة، وعندما وضعت يدها في جيبها لم تجد سوى أصابعها.

كان عليها أن تدافع عن زوجها ليأكل، وطفليها، ولم يكن أمامها سوى بيع ساعة زوجها ومصوغاتها، وافتتحت في بيريا مطعماً للفول والطعمية، واحتضنها الصيادون المصريون وعمال الميناء واليونانيون المصريون المشتاقون لروائح مصر، وظل المطعم يتطور بالمحشي كرنب والصيادية والملوخية والكباب، حتى صار من أكبر مطاعم أثينا.

تراجعت ليلى للخلف، وأزاحت بيديها الجميلتين ذيل الحصان، وسقط شعاع من الشمس على كتفيها البديعين، ورفعت كأساً من الليمون، قائلة: عندي الآن ست سيارات تنقل الطعام للزبائن، وسيارتا ملاكي للولد والبنت، وكلاهما في الجامعة، واشتريت المبنى؛ لأسكن فوق المطعم

قلت: وزوجك؟

قالت: فوق هل تريد أن تراه؟

أكلنا على حساب ليلى، أول يوم، وصارت سهرتنا كل يوم في مطعمها الجميل.

وفي آخر أيامنا ودعتنا باكية، وقالت: اسألوا عني ولا تنسوا أختكم.

كتب : عادل سعد