منذ فترة ليست بالطويلة قمت باستخراج بعض متعلقاتي القديمة، قصاصاتي ودفاتري، ألعابي المفضلة، رسوماتي وأنا طفلة، حتى بعض الأعمال اليدوية من صنع يدي في هذا العمر، كمفارش السيرما والكانفا وبعض الأعمال الخشبية المنقوشة بماكينة الحرق، تذكرت كل تفاصيل الذكريات آنذاك، وتذكرت معها مبادىء أسرتنا الصغيرة بتفضيل الصناعة المنزلية وترجيح كفتها بوازع القناعة والاستمتاع بعملية التعلم والتركيز في خطوات التصنيع.
كان الهدف من ذلك اتباع أكثر من سياسة في آن واحد، على رأسهم ممارسة سياسة الاستغناء والتعفف عن الأشياء ثقيلة الميزانية، بعيدة النيل بالتبعية، وأيضاً اتباع سياسة الاستمتاع –السابق ذكرها- بصنع الأيادِ، وهي السياسة المُفْرِزَة لهرمون السعادة الشخصية والجماعية، وكأنما كُتِبَ على كل صنف منهم "صُنِعَ بحبٍ".
قياساً على هذا وعملاً بهذا المبدأ، فقد نَشَأْتُ راغبة في البحث عن كل ما هو من صناعة يد أمي تفضيلاً على صناعات كل ما هو خارج المنزل، وعلى صناعة أيادِ وطني تفضيلاً على صناعات خارجه، لا تبتراً ولا استعلاءً، ولكن قناعة بجودة الصنع المحلي وكوني الأحق والأجدر به كمستهلك أولي، وعليه فالأمر بالنسبة لي كان ومازال يندرج تحت بند قائمة القناعات بالواجبات لا المفروضات.
وظللت قانعة بتوجهي أستمتع به، فأُفَضِّل طعام أمي على كل وجبات الطعام السريع وغيرها، وأجول باحثة عن كلمة "صنع في مصر" من بين جميع المحلات التي تكتظ بها المجمعات التجارية الكبيرة وغيرها، لا ألتفت لما يأكله أو اعتاد شرائه غيري، حتى برغم تكرار سفراتنا وترحالنا كأسرة، لم يقصيني هذا عن اعتياد البحث بدأب عن صناعاتي الوطنية بحب وقناعة الدعم والتشجيع.
فلا ننسى كأسرة رحلتنا لمدينة "براج" عاصمة جمهورية التشيك خلال مطلع الألفينات، وتعثرنا بإحدى المحال التي تبتاع جميع الأدوات الصحية وبعض أنواع السيراميك، والذي وضع فيه أطقم لشركة "سيراميكا كليوباترا" في أفضل أماكنها للعرض، وزيارتي لماليزيا التي أهديت فيها لأصدقائي هناك بعض الملابس القطنية ذات الصناعة المصرية المدون عليها "قطن مصري 100%" وهالني وقتها رد فعلهم ومشاعر امتنانهم، وكذا اعتياد زوجة صديقنا المصرية ألمانية الجنسية على شراء ملابس رضيعتها القطنية سواء داخلية أو خارجية من مصر، لكامل قناعتها بجودتها مقارنة بصناعة بلدها.
أنا التي رأيت بأم عيني أفرع لمحل "موباكو" الماركة المصرية الشهيرة في أشهر وأغلى شوارع العاصمتين الفرنسية والبلجيكية باريس وبروكسل، وكونكريت وماري لوي وروجادا فخر الصناعة المصرية شديدة الرقي في الجودة والتصميم والألوان، ماركات مصرية عهدناها منذ بداية نشأتها تتخصص في الملابس الرسمية الراقية للرجال والسيدات، تنافس في ذلك أفخم الماركات العالمية التي يُقبِل عليها الملايين لكفاءة وحرفة الإعلان عنها لا لجودة منتجها.
يكفيني في هذا الصدد الإشارة فقط إلى معرض "تراثنا" هذا المحفل الصناعي الحرفي الذي يقام سنوياً والأشبه بالعرس الذي تتباهى به الدولة المصرية بصانعيها وحرفييها وصنع أيديهم في مختلف الصناعات والحرف اليدوية، كالأخشاب والجلود والمعادن والأحجار والأقمشة بأنواعها قطن وتللي وصوف وكتان، هذا المعرض الذي أعاد للحرفة المصرية هيبتها وسمعتها التي تستحقها، ولصانعيها الثقة المفتقدة، ولمستهلكيها الجودة المرادة.
المنتج المصري لا ينتظر مقاطعات أو تحولات في السلوك الشرائي تلهي المستهلك بشكل مؤقت تبعاً لظروف سياسية أو اقتصادية، فهو ليس بديلاً، بل كان من الأولى أن يصبح اختياراً منذ البدء، فلا تقدم ولا تطوير دون دعم ووضع ثقة وتشجيع واستمرارية.
فضلاً دعونا نراها بكثافة كي تمنحنا أوكسجين الرئة الوسطى "صنع بفخر في المحروسة مصر"، ونحن للنداء مُلَبِين بإذن الله ..