يحل اليوم 7 نوڤمبر، ذكرى ميلاد الأديب الفيلسوف ألبير كامو والذي ولد سنة 1913م، ويُعد من أهم كتّاب القرن العشرين، وذلك لِمَا تركه من مؤلفات، تنوعت بين الروايات والمسرحيات. وبلغ إنتاجه الأدبي أكثر من 14 مؤلف، وتفرد عن غيره من كتَاب عصره وأصبح ذا شهره واسعه في الأدب العالمي.
وتزامنًا مع ذلك نعرض للقراء ما جاء على صفحات مجلة الهلال في عدد مارس لسنة 1966م، خطابًا من ألبير كامو إلى القارئ وجاء فيه: عرضًا دقيقًا لثلاثة نصوص مجهولة في النقد والفلسفة لـ«كامو» وهم: نقد قصة سارتر "الغثيان"، رأيه الصريح الدقيق في "العبث"، دفاع عن "الإنسان المتمرد".
وإلى الجزء الخاص: رأي ألبير كامو الصريح الدقيق في "العبث"
وفي هذا النص المثالي المجهول من نصوص ألبير كامو – وهو على صورة خطاب منه إلى قارئ واع مثقف مشتغل بالفلسفة ناقشه في رأيه في العبث مناقشة عسيرة، فهو يدافع من رأيه ويوضحه ولا ينكر ما في موقف العبثي من صعوبات فكرية بالغة.
ولعل من المستحسن هنا أن نوجر موقف كامي الفكري في عبارات قليلة فنقول إنه على خلاف سارتر لا يرى الوجود عبثًا في حد ذاته، فالوجود أحداث ووقائع وليس فيها – في حد ذاتها – ما يوصف بالجدوى أو عدم الجدوى. فهذه صفات أو معايير أو أحكام قيمة خاصة بالفكر الإنساني وحده لا بالوجود. فالفكر الإنساني نظمه الذاتية وقوالبه ومعاييره.
وهكذا نجد ثمة طرفين متقابلين غير متطابقين ولا متكافئين في طبيعتهما الخاصتين، وهذان الطرفان المتباينان أشد التباين هما الوجود الخارجي جملةً وتفصيلًا من جهة، والذات الإنسانية أو الفكر من جهة أخرى. ومن هذه الهوة التي يستشعرها الإنسان المفكر حين يواجه الوجود ينبع الشعور بعدم الجدوى أو العبث ويتبع أيضًا الشعور باليأس واستحالة كل أمل في التطابق بين الإنسان وعالمه. إنه شعور الإنسان بأنه "غريب" في هذه الوجود؛ بل أن هذا الوجود وجود مستحيل عقلًا وكل انه واقع يعانيه الإنسان ولا يفهمه.
وفي ضوء هذا الموقف المجمل نستطيع أن نستجلي ونقدر التوضيحات الدقيقة التي جرى بها قلم ألبير كامي في هذه الرسالة التي كتبها في مارس سنة 1943 ليضع النقط فوق الحروف بالنسبة لموقفه من عدم الجدوى:
"تلقيت يا سيدي رسالتك بيد العرفان واشكرك على ما جاء بها فكثير منه صحيح من حيث اعتراضاتك وما أشرت إليه من غموض يكتنف الاستدلال العبثي. ولكني أحب أن أذكرك بأنه ما كتبته من العبث ليس إلا توطئة أو وصفًا أن شئت لمنطقة الصغر في السلوك الإنساني الواعي. وقد اقتضى ذلك مني التعرض لكثير من الغموض بالضرورة لأن طبيعة الوصف تحتم الإيجاز في الاستدلال وعدم التوسع فيه، وذلك نقص يمكن التغلب عليه في المرحل التالية إلى حد ما".
"أما القضاء على الغموض تمامًا فمستحيل بسبب صعوبة الموقف المبني نفسه. والحقيقة أن الموقف العبثي ينطوي على تناقض أساسي. فهذا الموقف الفكري لابد أن يضفي حدًا أدنى من التناسق والتوافق على ما هو غير متناسق وغير متوافق بطبيعته. أي أن الموقف الفكري العبثي يدخل الترابط المنظم في مجال لا وجود فيه للترابط والتعاقب. والسبب في ذلك أنه لا تعبير بدون حد أدنى من المنطق. ومتى حاول الإنسان أن يضفي صورة أو شكلًا محددًا بالتعبير المنطقي على خبرة مرت بوجدانه فهو بذلك يكون قد ادخل "النظام" إلى عالم الخبرة الوجداني. وبذلك يمكن القول بأن مشكلة العبث تتحمر في انها مشكلة تعبير. فبالتعبير المنطقي يتعلم صفاء الصفة العبثية، بمعنى أن العبث المحلي لا يتفق إلا مع الصمت التام والامتناع عن كل تعبير عنه".
"وقد يقال ولم لا؟ وهذا ممكن بالطبع، ولكن على هذا النحو يتحتم علينا أن تترع من العالم كل ما يستحل العناء أي كل ما يمكن أن تكون له قيمة. واحسبنا متفقين – اليس كذلك؟ – على أن ثمة أمورًا في هذا العالم تستحق العناء ولها قيمة، من قبيل الفي أو الصداقة مثلًا، وهناك في الواقع تناقض آخر أهم من السابق وأخطر. ذلك أن مجهود الفكر العيني موجه الى استيعاد جميع احكام القيمة كي يخلو المجال كله لأحكام الوجود أو الواقع أو الحدوث.
وأضاف «كامو» "ونحن نعلم - انت وانا على السواء – أن ثمة احكاما قيمة لا محيص عنها، ولكن حتى فيما يتجاوز حدود الخير والشر توجد أفعال تبدو خيرة او تربية (حسنة أو سيئة) وتوجد على الخصوص مشاهد تتراءى لنا في احساسنا جميلة أو قبيحة. فالمرة لا يفضل كاتبًا مثل ستالدال علی کاتب مثل جورج اونیسه على أساس يضع مواصفات فنية فحسب، بل وأيضًا لأن مشكلة الجمال بوجه عام تفرض نفسها بمناسبة النظر في قنيهما، والعيث كما هو واضح يدفع الإنسان للحياة بدرن أحكام من القيمة، مع أن ممارسة الحياة لابد ولو بصورة أولية أن تكون عملية إصدار أحكام من القيمة".
"وهذا ما يجب أن نجد له حلًا. ولست أزعم أنى قادر على ذلك هنا ولا في مجال آخر في الوقت الحاضر، فمثل هذه المعضلات ينبغي أن تعيشها اولًا کي نجد حلها الصحيح. ومهما يكن من شيء فما ذكرته لك يفسر اعتراضاتك ويبررها".
"بيد انني أستطيع فيما اعتقد ان أناقش اعتراضاتك في موضع واحد على الاقل. فقد جاء في رسالتك قولك: أنى اخالفك في الرأي اذ يبدو لي أن لا شيء في العالم متاح لنا بتمامه على صورة معطيات، بل أنى أرى أن علينا تحصيل الوجود والقيمة معا بجهد من جانبنا اي بفعل إنساني".
"وردي على ذلك ان ما يتراءى لي على صورة ما تسميه معطيات ليس القيمة ولا الوجود، بل الإطار أو الديكور الذي يظهر لنا فيه الوجود، ولكني لا اتعرض في الواقع لمشكلة ما يمكن للإنسان أن یصنعه في داخل هذا الإطار المفروض عليه أو المعطى له، واحتفظ لنفسي بحق الكلام من ذلك فيما بعد".
وأكمل حديثه قائلًا: "والفكرة الجوهرية في كلامي – أو إن شئت الغرض البعيد لكتابتي في هذا الشأن – أن التشاؤم الميتافيزيقي لا يقتضي على الاطلاق وجوب اليأس بالنسبة للإنسان. بل إني أرى العكس تمامًا. واضرب لك مثلًا محددًا للتوضيح. فأنا أعتقد أن من الممكن كل الامكان أن يربط بالفلسفة المبنية فكرًا سياسيًا شديد الاهتمام بالأمور الإنسانية وتحسين ظروفه إلى أقصى حدود الكمال، وبذلك نقيم فلسفة التفاؤل في المجال النسبي مهما انما فلسفة التشاؤم في المجال المطلق".
"ان العبث له – بالبداهة الشديدة والتفكير والتصرف السليمين – صلات أكثر مما يظن بعض الناس. ويبقى بعد ذلك القول بأنك على حق فيما أقرت اليه من شيوع روح الفردوس المفقود في كتابتي من العبث، فهذا التحسر الخفيف لا مفر سنه والانسان يرى نفسه مجبرًا على مواصلة طريقه في الحياة".
"وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يخلو العبث في نظري من مشاعر الحنين الى ذلك الفردوس المفقود الذي يتلاشى فيه التنافر القائم الآن بين الانسان والعالم، ولكنه مجرد حنين. فأنا مصر على أن الحاجة إلى مبدأ في المجال الميتافيزيقي لا يمكن أن تحتم وجود هذا المبدأ بالفعل".
"وفي الختام ارجوك أن تتابع بحوثك في عقوبة الحياة أو عفوية الوجود وأن توافيني أن تكرمت بما تصل إليه في هذا المجال. ولديك في هذا الطريق رفاق أمجاد على رأسهم هرقلیطس ونیتشه، فكلاهما مقتنع بأن الحياة لعب ولهو، ولكن ما أصعب أن تعرف قواعد هذه اللعبة اللاهية!".