السبت 18 مايو 2024

حياة جديدة التكنولوجيـــا.. تغير العالم

صورة أرشيفية

7-11-2023 | 19:28

بقلم: د محمد عزام
طعام إلكترونى.. وعلاج عن بُعد.. وتسوق بالربوت .. وتقليل البصمة الكربونية لحماية البشر بلا شك نحن نعيش عالما مختلفا؛ عالما لم نكن نتصور وجوده إلا فى أفلام وروايات الخيال العلمي!. تسارع تكنولوجى غير مسبوق، غيّر ويغير وسيغير كل ما اعتدنا عليه بسرعة الضوء؛ أصبح أسلوب حياتنا مختلفا وطريقة أداء أعمالنا مختلفة. مكتب صغير عليه حاسب صغير أو هاتف ذكى فى حجم كف اليد، قادر على الوصول لأى معلومة على مدار الساعة. أداء الأعمال التى كانت تتطلب، فى زمن غير بعيد، عشرات أو مئات من البشر، وحاسبات عملاقة تحتاج لمبان كاملة لتحتويها ولم تكن متوفرة إلا لكبار الدول والشركات، تتم فى لمح البصر، كأننا فى عالم مسحور، وهذا كله عبر الأثير اللامتناهي. أصبح عالمنا عالمًا متصلًا إلى درجة مخيفة لا يمكن التراجع عنها. أصبحنا نعمل ونتواصل ونتحدث ونعرف الأخبار ونتسوق ونشاهد البرامج والمسلسلات من خلال شاشة هذا الحاسب الصغير أو من خلال هاتفنا الذكي، بمجرد لمس الشاشة أو الضغط على زر أو الدخول إلى عالم «الميتافيرس» فى المستقبل القريب، لنغوص فى عالمنا الجديد؛ عالم بلا حدود وممتد إلى مالا نهاية. عالم يتداخل فيه ما هو مادى وما هو افتراضي، بحيث يصعب التفريق بينهما!. لذا أصبح التطور والتسارع التكنولوجي، وما يتبعه من تطبيقات، وخاصة التى من الممكن أن تتوفر من خلال التكنولوجيات البازغة، وتعيد تشكيل عالمنا باستمرار، الشاغل الأكبر للحكومات والشركات الكبيرة العابرة للحدود والباحثين وحتى العوام من البشر، للاستعداد لهذا العالم دائم التغير، وتعظيم فوائده والتعامل مع أخطاره وتحيديها إن أمكن. وقد أظهرت دراسة نشرها المنتدى الاقتصادى العالمى فى يونيو 2020 أن هناك عدة طرق قد تغير حياتنا مرة أخرى، وتعيد رسم واقعنا، وفى نفس الوقت تحافظ على البيئة التى أهرقتها كل الثورات الصناعية الكبرى التى شهدها العالم منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن الواحد والعشرين. وكل هذه الطرق تعتمد اعتمادًا كبيرًا على تطور التكنولوجيات البازغة وتطبيقاتها. وهذا حتى عام 2025 فقط.. وقد يظن البعض أن هذا قريبًا جدًا، ولكن مع سرعة التطور التكنولوجى الكبيرة والتطبيقات المصاحبة، أصبح من غير الممكن التوقع لفترات أطول، لأن كل شيء أصبح يتطور بسرعات جنونية، مما جعل من علم الاستشراف والتوقع أمرًا غير سهل بالمرة، حتى على أكثر الخبراء والباحثين علمًا وذكاءً! فنحن لا نرى إلا قمة جبل الجليد وحسب!. وأظهرت الدراسة أن الذكاء الاصطناعى سيتم استخدامه بكثافة، لخلق منظومة صناعية جديدة أكثر كفاءة وإنتاجية وانضباطًا، وقائمة على الاستخدام الأمثل للطاقة والمواد الخام والوقت، ودون إهدار أو تبديد، ولها قدرة على تلبية احتياجات جمهور المستهلكين بصورة فاعلة فى شكل منتجات عالية الجودة ومنخفضة الكلفة، وكذلك ستتمكن تلك المنظومة الصناعية من توزيع تلك المنتجات من خلال سلاسل توريد ذكية ذاتية التفكير، للمستهلك النهائى بيسر، مما يحقق المعادلة الصعبة بتحقيق الأرباح والحفاظ على البيئة. كما أنه بحلول عام 2025، سينظر للبصمة الكربونية Carbon Footprint نظرة اجتماعية مختلفة، بل ستكون أمرًا غير مقبول لدى قطاعات كبيرة من المجتمع، مثلها مثل تعاطى المخدرات وإدمان الكحوليات. والبصمة الكربونية هى مؤشر يقيس معدلات انبعاث غاز ثانى أكسيد الكربون على كل المستويات، سواء للأفراد أو للمصانع أو للمنتجات أو للدول، طبقًا للتعريف الصادر من هارفارد بيزنس رفيو، وتقاس بوحدة الطن لكل عام. وتعتبر أنشطة النقل من خلال السيارات والبواخر والطائرات من أكثر الأنشطة المسببة لانبعاث غاز ثانى أكسيد الكربون، لاستخدامها الوقود الأحفوري، مثل البنزين والديزل، وكذلك تمثل الأنشطة المتعلقة بمراحل التصنيع المختلفة بدءًا من عملية استخراج المادة الخام إلى الوصول للمنتج النهائي، مصدرًا أخر لتلك الانبعاثات الضارة، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا للبيئة بصورة كبيرة، وعاملًا مؤثرًا لما نشهده من تغير مناخي. لذا ستقوم الحكومات والشركات الصناعية الكبرى، وكذلك الأفراد بالعمل على القضاء على بصمتهم الكربونية من خلال استخدام تقنيات مستحدثة تهدف لإدارة الكربون، بحيث تلتقط وتستخدم وتزيل ثانى أكسيد الكربون، وخاصة ما تم إنتاجه فى الماضى من هذا الغاز المدمر، ووصل لمستويات «جيجا طن»، بتوظيف تكنولوجيات الذكاء الاصطناعى والهندسة الحيوية وتحليل البيانات الضخمة والآلات الذكية، لمواجهة التحديات التى تهدد الحياة على الكون، والحد من ظاهرة الاحتباس الحرارى إلى مستويات 1.5 درجة مئوية، بما يفتح المجال أمام موجة هائلة غير مسبوقة من الابتكارات تمهد الطريق لتنمية مستدامة حقيقية. وستفتح تكنولوجيا «التوأم الرقمية» Digital Twins، والتى هى ببساطة النسخ المقلدة الافتراضية للأجهزة المادية، بابًا واسعًا لثورة الطاقة النظيفة القادمة. سيكون بناء وحدات جديدة للطاقة المتجددة، مثل وحدات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، أقل تكلفة بكثير من استخدام الوقود الأحفورى الملوث للبيئة. كما أن تطور تكنولوجيا الطاقة الشمسية سيتبع قانون «مور» Moore’s Law الذى أثبت أن القدرة التكنولوجية تتضاعف مرة كل 18 شهرًا وتقل تكلفة إنتاجها للنصف خلال نفس المدة، بما يؤدى إلى تقدم مذهل لما يتم إنتاجه من هذه الطاقة النظيفة، لتقلل من الاعتماد على الطاقة الضارة بالبيئة، ونفس الوقت تلبى احتياجات الطلب المتزايد على الطاقة حول العالم وبتكلفة أقل.. وكذلك فإن بيئة الابتكار الحالية والمستقبلية ستمكن البشرية من مواجهة العديد من التحديات بشكل جماعي، بوجود حلول تكنولوجية مبتكرة، معتمدة على التؤام الرقمية والذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء وتحليل البيانات الضخمة وغيرها، وتكون سهلة التطبيق على نطاق كبير وواسع، ومنخفضة التكاليف بالنسبة للإنتاج والصيانة. وهذا ما يحتاجه العالم لاستمرار التقدم والنمو والحفاظ على البيئة فى نفس الوقت. مع التزايد الكبير فى أعداد البشر، والحاجة المستمرة لبناء أبنية جديدة لاستيعاب هذا الأمر، تشمل البيوت والمصانع والمكاتب، فإن صناعة البناء والتشييد ستكون عبارة عن سلسلة من عمليات التصنيع المتزامنة، ليكون البناء أكثر أمانًا وفاعلية وسرعة وأقل كلفة، لكى يجارى الطلب المتزايد والحاجة للنمو المستمر داخل المدن وخارجها. لذا ستلعب تكنولوجيات، مثل «إنترنت الأشياء» وتحليل البيانات الضخمة والصور اللحظية، دورًا محوريًا فى تطوير نظم إدارة المشروعات، وتعزز من قدرة اتخاذ القرار من قبل المهندسين ومديرى المشروعات بصورة لحظية، ليكون القرار استباقيًا وليس كردة فعل، وتساعدهم فى التنفيذ الدقيق المبنى على التخطيط المحكم، ليتحكموا فى البيئة المحيطة بدلًا من أن تتحكم فيهم. كما أن تطور شبكات الاتصالات من الجيل الخامس ذي السرعات الفائقة سيمهد الطريق نحو استخدامات جديدة تغير من أسلوب تعاملات البشر، فمثلًا نرى أن الجيل الحالى من الاتصالات، وهو الجيل الرابع، لم يعد قادرًا على تلبية الطلب المتزايد من طلبات الشراء عبر منصات التسوق الإلكتروني، أو الاحتياج المطرد للعمل أو التعلم عن بعد، نظرًا لمحدودية سرعته مقارنة بالجيل الخامس، والتى قد تصل لأكثر من 100 ضعف سرعة الجيل الرابع الحالي. وهذا ما سيفتح الأبواب أمام تطور تطبيقات ابتكارية تمس حياة البشر بصورة مباشرة، مثل العلاج عن بعد، وإجراء العمليات الجراحية عن بعد، والتنقل باستخدام السيارات الذكية ذاتية القيادة الصديقة للبيئة والأكثر أمانًا لراكبيها والمشاة، والمصانع ونظم اللوجستيات الذكية، وتوفير القاعدة التكنولوجية للأجيال الجديدة من المدن الذكية المستدامة صاحبة البصمة الكربونية الأقل، لتوفير حياة أكثر جودة ورفاهية وفعالية وأقل كلفة لقاطنيها من البشر. وكذلك ستغزو الروبوتات قطاع البيع بالتجزئة ومنها محلات البقالة؛ هذا القطاع البالغ من العمر قرنًا من الزمان ويبلغ قيمته أكثر من 5 تريليونات دولار سنويًا. وذلك للقيام بأعمال ترتيب البضائع وتناولها وإعدادها للشحن للعميل النهائي، مما سيزيد إنتاجية هذا القطاع بصورة مطردة، وقدرته على تلبية الطلب المتزايد على مشتريات التجزئة من خلال شبكات التجارة الإلكترونية، مع تقليل التكلفة بنسب تصل إلى 10فى المائة مقارنة بالوضع الراهن. كما يشهد العالم تطورًا كبيرًا لتكنولوجيات الحوسبة الكمية Quantum Computing الفائقة القدرة، وخروج النماذج التجارية منها للأسواق، بحيث يمكن التصدى للعديد من مشاكل البشرية فى مجالات متعددة، منها على سبيل المثال محاكاة التفاعلات الكيميائية المعقدة، وهذا سيتفتح آفاقًا جديدة لتطور صناعة الدواء والعلاج بشكل غير مسبوق، وخاصة فى مجال مثل العلاج بالتعديل الجينى والعلاج المناعي، لعلاج أمراض كثيرة مستعصية مثل السرطان، وكذلك تصميم مواد جديدة بخصائص تساعد على الحفاظ على البيئة، مثل المواد المستخدمة فى صناعات مثل النقل والبناء والتشييد، لتحد من الانبعاثات وتساعد فى مكافحة تغير المناخ. وفى المستقبل القريب ستكون نظم الرعاية الصحية معتمدة، فى المقام الأول، على مفهوم الوقاية خير من العلاج، بما يقلل تكلفة نظم الرعاية الصحية بشكل كبير ويحسن من جودة الخدمات المقدمة لمن يحتاج العلاج، وهذا من خلال اتباع البشر لنظم غذائية أكثر فائدة للجسم البشري، لتجعله أكثر مقاومة للأمراض بزيادة المناعة الطبيعية، وذلك بتطوير نظم غذائية مستحدثة، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا البيولوجية، لتكون قادرة على تقوية الجهاز المناعى مع توفير كل العناصر الغذائية اللازمة لصحة أفضل للإنسان. وكذلك فإن التسارع التكنولوجى فى مجالات الهندسة الحيوية والآلات الذكية والاقتصاد التشاركى سيؤدى لإنشاء منظومة صحية جديدة لامركزية، يكون الفرد هو الأساس فيها وليس المؤسسات. فمع تقدم خوارزميات الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا سلاسل الإمداد، سيكون من السهل تقديم خدمات التشخيص عالية الجودة منخفضة التكاليف لكل إنسان على سطح الكرة الأرضية، مما يقلل معدلات الوفيات، وخاصة فى حالات الأمراض الوبائية والمعدية، لأن الحالات الحرجة والشديدة فقط هى التى سيتم نقلها للعلاج بالمستشفيات، وهذا ما سيجعل منظومة الرعاية الصحية أكثر كفاءة وأقل تكلفة، وفى نفس الوقت يخفف العبء المتزايد على المنظومة، وبالتالى سيساهم فى تحقيق مفاهيم العدالة الاجتماعية والصحية للجميع. لطالما كانت المنظومة الصحية تسعى للمزيد من المعرفة والفهم لبيولوجيا الإنسان من أجل اتخاذ قرارات علاجية أفضل. لذا فإن الذكاء الاصطناعى هو تلك الأداة الجديدة التى ستمكننا من تطوير آليات التشخيص والعلاج بسرعة وكفاءة غير مسبوقين، من خلال تحليل ودراسة «البيانات الضخمة» الطبية التى لم يتم الاستفادة منها بالكامل فى الماضي. وهذا سيغير عالم الطب وكيفية ممارسته للأبد. ذلك بالإضافة إلى التكنولوجيا ستساعدنا على فهم أسرار الكائنات الميكروسكوبية الموجودة على الأسطح. فالبشر محاطون فى كل وقت وفى كل مكان بأسطح مليئة بأنواع عديدة من البكتيريا والفطريات والفيروسات. وكل سطح يحمل أسرارًا ومعلومات خفية تمثل مفاتيح حلول لمواجهة أزمات وبائية مثل أزمة وباء كورونا الحالية، وخاصة أن تلك الأسطح هى المسبب الرئيسى لانتشار الأمراض والأوبئة. وستعمل التكنولوجيا على زيادة قدرتنا على فهم كيفية انتشار مسببات الأمراض والأوبئة، بصورة أفضل. وذلك من خلال أخذ عينات من الأسطح وتحليل بيانات الكائنات المجهرية الموجودة عليها، ودراسة سلوكها وطرق انتشارها. وهذا لن يساعد البشرية على تجنب الأمراض والأوبية فحسب، بل سيمكن البشر من تصميم وتشغيل وتنظيف وحماية البيئة المحيطة بنا، سواء كانت مبانى أو سيارات أو وسائل نقل عام أو طائرات، بما يجعلنا قادرين على استمرار الأنشطة الاقتصادية والمجتمعية، دون التضحية بالصحة العامة. وستظل مسألة خصوصية البيانات على قمة الأولويات فى هذا العالم المتصل. وسيكون الأساس وليس الاستثناء هو حماية البيانات الحساسة من الاختراق والعبث والاستخدام غير المصرح له. والعالم أصبح أكثر وعيًا لمسألة الخصوصية وضرورة حمايتها، ليستطيع تكملة طريق النمو، الذى أصبح معتمدًا اعتمادًا محوريًا على البيانات، وهذا يتطلب تعاونًا دوليًا لوضع محددات لخصوصية البيانات يطبقها الجميع، وكذا محاربة الجريمة السيبرانية المنظمة، مثلها مثل محاربة الإرهاب الدولي. لأن بدون حماية البيانات وخصوصيتها، فالأمر كله برمته معرض للخطر، لأن ثقة الناس فى تلك الأنظمة المتقدمة ستكون على المحك، وهذا أمر فى غاية الخطورة، ويعرض كل الجهود المبذولة، للحفاظ على تقدم البشرية وتطورها وحماية البيئة من الانهيار، أن تكون هباءً منثورًا. وفى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول إن التسارع التكنولوجى يفرض علينا شكلًا جديدًا للحياة، وفى ذات الوقت يمكنا من التصدى للمشكلات الأكثر إلحاحًا، بتوفير طعام آمن وفعال لسكان الأرض فى ظل معدلات زيادة سكانية كبيرة، وتكوين منظومة صحية عالية الجودة منخفضة التكاليف، وتقليل البصمة الكربونية لمجابهة التغير المناخى وأضراره المدمرة، وفى نفس الوقت يأسس لمنظومة اقتصادية قادرة على النمو المستدام وخلق مزيد من فرص الأعمال المستحدثة. وهذا كله يدفعنا فى الجمهورية الجديدة أن نمتلك التكنولوجيا وليس فقط أن نستهلكها، لنكون فى مصاف الدول الكبرى بحلول عام 2030، وأن نستكمل رحلة تطوير إمكاناتنا البحثية، وخاصة فى مجالات التكنولوجيات البازغة، ونزيد الاستثمار بها لمعدلات غير مسبوقة، لنمتلك مفتاح الدخول إلى العالم الجديد، ونكون لاعبين رئيسين به، ونحن قادرون على هذا، لأننا نمتلك العقول النابهة، ولدينا إرادة سياسية متفردة، تعى معطيات العصر وأدواته، وتبنى مستقبل عظيم لهذه الأرض الطيبة.