الثلاثاء 14 مايو 2024

الأرقام تكشف إلى أين تقودنا الحرب حساب المكاسب والخسائر

صورة أرشيفية

21-11-2023 | 19:10

بقلـم: د. أحمد فاروق
بعد خمسة أسابيع من الحرب على الشعب الفلسطينى، يطرح سؤال نفسه.. إلى أين وصلنا بالضبط؟! ‎بداية.. من الصعب - وربما من غير اللائق - الحديث عن حسابات الربح والخسارة والمعارك مازالت محتدمة، والدم الفلسطينى مازال سائلا، وأنين الجرحى والمصابين والمكلومين يفطر القلوب.. ‎ولكن الشعوب الحية والعاقلة لابد أن تقف مرة - ومرات - تجرد حساباتها، وترى هل أصابت أم أخطأت، هل كان مستوى الربح متناسبا مع فداحة التكلفة.. أم ماذا؟! لقد أعادت بريطانيا النظر فى استراتيجيتها أكثر من مرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وفى كل مرة كانت تنظر فى حسابات الربح والخسارة لكل بديل، وأيها يستطيع أن يصل بها إلى تحقيق أهدافها.. أى أن الهدف هو المهم.. والوسيلة متغيرة، وتلافى الخسارة أولى.. قبل تحقيق أى أرباح.. والحرب والصراعات كأى شىء آخر فى الدنيا، يخضع لحسابات المنطق، أى لحسابات الربح والخسارة فى لحظة ما، وتسرى عليه قوانينها.. بمعنى أننى يمكن أن أتقبل خسارة حالة فى سبيل مكسب قادم، بشرط أن تكون الخسارة من الممكن تقبلها، وأن يكون المكسب مما يمكن حسابه وتوقعه.. ونرجع إلى مناقشة ماذا حدث خلال الأسابيع الخمسة الماضية، وإلى أين وصلت بنا، وإلى أين وصلنا معها؟ ‎نبدأ من تكلفة الحرب على دولة الاحتلال، وما هى أهدافها من تلك الحرب؟ ‎أولاً: الخسائر الاقتصادية ‎1 – انكماش معدلات الاستثمار فى الشركات الإسرائيلية الناشئة، وهى تعانى أصلا من تراجع كبير بعد فترة تقدم، حيث اجتذبت رقما قياسيا تجاوز 27 مليار دولار عام 2021، وتراجعت فى العام التالى بمقدار النصف تقريبا، وبنسبة 68 فى المائة فى النصف الأول من العام الحالى، ومن المتوقع زيادة تراجعها الآن مع قوة المخاوف من ارتفاع التضخم فى إسرائيل مع الحرب فى غزة، ‎كما أن قطاع التكنولوجيا فى إسرائيل الذى يسهم بنحو 18 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى تأثر أيضا، بعد أن شملت عمليات استدعاء الاحتياط فى إسرائيل نحو 10 – 15 فى المائة من القوة العاملة الإسرائيلية فى ذلك القطاع، ولذلك أعلنت إسرائيل فى بداية الحرب تخصيص حزمة مساعدات بلغت 25 مليون دولار (نحو 100 مليون شيكل) لإعانة الشركات التكنولوجية الناشئة التى تأثرت بأحداث غزة، بل وبدأ الحديث الآن فى إسرائيل عن إدخال نظام للتناوب داخل قوات الاحتياط فى الجيش، خوفا من أن تظل الشركات والمؤسسات الإنتاجية والخدمية فى إسرائيل بدون فريق عمل وإدارة لمدة طويلة.. ‎2 – وفى قطاع السياحة تخلو الفنادق الإسرائيلية بالكامل تقريبا من السياح، ليس هذا فحسب فقد اضطرت أن تخصص نصف فنادقها تقريبا لإيواء النازحين الإسرائيليين من مستوطنات محيط غزة (29 مستوطنة) وقرى شمال إسرائيل (22 قرية) بعد المناوشات مع حزب الله، وذلك طبقا ليديعوت أحرونوت. ‎ولمن لا يعرف فإن السياحة تسهم بإيرادات ضخمة فى الاقتصاد الإسرائيلى، وبالكاد بدأ فى التعافى بعد سنوات فيروس كورونا والإغلاق العالمى (حقق إيرادات بلغت 5,5 مليار دولار عام 2022، مقابل 2,2 مليار دولار عام 2021)، ‎وقد أثرت أحداث غزة على حركة الطيران المدنى الإسرائيلية، وألغت كثير من شركات الطيران رحلاتها إلى إسرائيل، ومنحت الشركات أجازة للمئات من موظفيها . ‎3 – كما توقف بالكامل تقريبا أيضا قطاع التشييد والبناء فى إسرائيل، مع تزايد الرشقات الصاروخية القادمة من غزة، ومع التزام عمال البناء بإجراءات أمان أشد حزما، وهو ما يكبد إسرائيل – طبقا لموقع «CNN الاقتصادى» – نحو 37 مليون دولار (150 مليون شيكل) يومياً. ‎4 – فى بداية الحرب على غزة طلبت إسرائيل – طبقا لقناة – CNN من شركة شيفرون الأمريكية وقف الإنتاج فى حقل تمار للغاز، وهو ما يسبب خسائر شهرية لإسرائيل تبلغ 200 مليون دولار . ‎5 – وفقا لبيانات الجيش الإسرائيلى تم تعبئة 360 ألف جندى احتياط، وإجلاء 250 ألف إسرائيلى من منازلهم، وهو ما أثر بشكل مباشر على حجم القوى العاملة المتاحة بالدولة، ليكشف ذلك عن تضرر كبير فى العديد من القطاعات ومنها قطاع الزراعة الذى يعانى من نقص العمالة، بالإضافة إلى إغلاق المدارس والمؤسسات التعليمية، ومن ناحية ثانية فقد حدث نوع من الاختلال فى سلاسل الإمداد بأسواق المواد الغذائية، كما تراجعت المعاملات النقدية بكروت الائتمان بنحو 12 فى المائة على أساس سنوى خلال الاسبوع الماضى بجميع القطاعات (ما عدا قطاع الغذاء)، ‎وقد قدر بنك هبوعليم الإسرائيلى تكلفة الخسائر الأولية للاقتصاد الإسرائيلى منذ بدء الحرب فى غزة بنحو 27 مليار شيكل (ما يقترب من 7 مليارات دولار) حسب صحيفة Times of Israel، فى حين أعلن البنك المركزى الإسرائيلى يوم 9 نوفمبر الجارى أن التكلفة التى يتحملها الاقتصاد الإسرائيلى بسبب نقص القوى العاملة تبلغ 600 مليون دولار أسبوعياً، ‎وكان نتيجة ذلك أن خفض البنك المركزى الإسرائيلى توقعاته لنمو الاقتصاد فى إسرائيل من 3 فى المائة إلى 2,3 فى المائة، كما حذرت وكالات التصنيف الائتمانى العالمية – موديز وستاندرد أند بورز وفيتش – من أن تصعيد النزاع واستمراره من شأنه أن يؤدى إلى خفض تصنيف الديون السيادية الإسرائيلية، وخفضت وكالة موديز تصنيف إسرائيل الأسبوع الماضى عند A1 قيد المراجعة مع تخفيض محتمل. ‎وتزامن ذلك مع هبوط قيمة الشيكل إلى أدنى مستوى له من عقد ونصف تقريبا، وهو ما دعا البنك المركزى الإسرائيلى إلى تخصيص 30 مليار دولار لدعم الشيكل، وهو ما سيزيد بدوره من ارتفاع معدل التضخم فى إسرائيل. وبرغم كل ذلك فإن التكاليف الاقتصادية – فى رأيى – ليست هى الصعبة والأقسى على إسرائيل برغم فداحة تكاليفها، فهناك دائما واشنطن مستعدة للخدمة والإنقاذ، وقدمت واشنطن بالفعل يد الإنقاذ لدولة الاحتلال التى تعتبرها ذراعها الطويلة فى الشرق الأوسط، وأعلنت عن حزمة مساعدات - أولية – بلغت ما يقارب 15 مليار دولار، هذا غير تبرعات المنظمات اليهودية والصهيونية فى الغرب، وهى منظمات قوية وغنية. ‎ثانيا: الخسائر غير الاقتصادية لدولة الاحتلال ‎وهى خسائر لا تقل فداحة عن خسائر الاقتصاد بل ربما تزيد، ويمكن إجمالها فى الآتى: ‎1 – قتلى إسرائيل وأسراها وجرحاها.. على مدى خمسة أسابيع بلغ 348 جنديا، نحو 43 منهم قتلوا بعد الهجوم البرى، و 240 أسيرا لدى حماس، وفى المجمل فإنه بعد خمسة أسابيع من الحرب كان إجمالى قتلى إسرائيل – المدنيين والعسكريين – أكثر من 1600 شخص، وإصابة نحو 8 آلاف، وهى أرقام إسرائيلية، وهو ما يضرب هيبة إسرائيل بصورة ربما لم تعرفها منذ 1973، ومن هنا ظهر هذا الجنون الإسرائيلى فى ضرب غزة إلى درجة الهمجية.. ‎2 – تدمير نحو 160 آلية إسرائيلية حتى الآن بوسائل مختلفة، منها ما حدث فى بداية العملية البرية من استخدام صاروخ موجه للدبابات دمر ناقلة جند إسرائيلية من نوع نمر، وبها 11 جنديا إسرائيليا، وهى سلاح استثمرت فيه إسرائيل أموالا وجهدا كبيرا، بالإضافة إلى مرور الصواريخ البدائية لحماس من القبة الحديدية الإسرائيلية، التى يعتبرونها فخر صناعات الدفاع الجوى الإسرائيلى، واستثمرت فيها إسرائيل – مع الولايات المتحدة - أموالا طائلة، وهو ما يلقى ظلالا كثيفة على نوعية وكفاءة بعض أنواع الأسلحة فى إسرائيل، وأنها ليست بالكفاءة التى تقدمها إسرائيل بها، وهو ما يصيب أيضا سمعة السلاح الإسرائيلى بصورة ليست هينة، وإسرائيل – لمن لا يعلم – ضمن أكبر عشر دول مصدرة للسلاح عالميا.. ‎3 – انتهاء الحرب بدون تحقيق إسرائيل نصر حاسم سوف يترك أضرارا وتداعيات لا يمكن حسابها فى الداخل الإسرائيلى، وفى الإقليم.. ‎والنصر الحاسم من وجهة نظر إسرائيل يمكن ترتيبه - تنازليا - كما يلى: ‎أ – نقل الفلسطينيين فى غزة إلى سيناء المصرية، ونقل الفلسطينيين فى الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية، ‎لكن الموقف المصرى والرفض الحاسم أفسد هذا المخطط وقضى عليه تماماً. ‎ب – إذا تعذر تحقيق الهدف الأول، فيمكن الانتقال إلى الهدف الثانى – والأقل بريقا – وهو ما يتم الحديث عنه الآن، وهو إنهاء حكم حماس فى غزة، وتقسيم غزة إلى نصفين، شمال غزة خاضع لنفوذ إسرائيل، يعمل كحاجز أمنى بين إسرائيل وأهل غزة، وجنوب غزة: وهو كردون يتجمع فيه مليونا فلسطينى ويختنقون فيه حتى الموت، أو يذهبوا – إذا جدت ظروف ما إلى أى أماكن أخرى خارج إسرائيل عبر الهجرة، وهذا أيضا هدف ثبتت صعوبته لأن حماس لن تنتهى كما تزعم إسرائيل. ‎ج – وإذا تعذر تحقيق الهدف الثانى، فيظل آخر وأقل أهداف إسرائيل من هذه العملية، وهو إجبار حماس على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لديها، وهو أقل ما يستطيع نتنياهو تقديمه للإسرائيليين.. ‎هذا عن الجانب الإسرائيلى.. فماذا عن الجانب الفلسطينى.. أولا.. هل حققت حماس أهدافها؟ الواقع يقول إنه لا يعرف أحد بالضبط ما هو هدف أو أهداف حماس من هذه العملية أو من غيرها، حتى يمكن القول إن حماس حققت هدفها المعلن من هذه العملية أم لا.. وبالتالى ليس أمامنا إلا الافتراضات والتخمين!!. 1 - هل هدف حماس من وراء عمليتها إلى تحرير فلسطين؟ بالطبع من غير المتصور أن يكون ذلك هو الهدف، لا قوة حماس ولا حتى كافة الفصائل الفلسطينية قادرة على تحقيق هذا الهدف الكبير، ومن الظلم تحميلهم عبأه.. 2 - هل كان هدف حماس إجبار إسرائيل على إعادة حقوق الشعب الفلسطينى وإقامة دولته على حدود 1967؟ لكن المعروف أن حماس كما تعلن دائما غير مؤمنة بمسار المفاوضات مع إسرائيل كوسيلة لإرجاع الحقوق، وبالتالى ليس هدفها تحقيق حل الدولتين أصلا؟!. 3 - هل كان هدف حماس الانتصار على إسرائيل بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وبالتالى فإن عمليات مقاومة مسلحة كل سنتين أو ثلاث كفيلة بتذكير إسرائيل بوجود الفلسطينيين، وأنهم مازالوا شوكة فى حلقها؟! ربما كان هذا المنطق مقبولاً حتى مع اعتراض البعض عليه. 4 - هل كان هدف حماس الانتصار للمسجد الأقصى، أو لإخراج المسجونين الفلسطينيين فى السجون والمعتقلات الإسرائيلية؟! ربما كان ذلك أيضا من أهداف حماس.. ولكن هل تحقق أى شىء مما سبق؟! حتى الآن لم يتحقق.. ما تحقق فعلا - فى حسابات الربح - هو: 1 - عادت قضية فلسطين لتصبح فى مقدمة اهتمامات العالم، بعد أن نسيها العالم كثيراً. 2 - أعادت تذكير الشعوب العربية بشكل عام من المحيط إلى الخليج أن عدوهم الرئيسى هو إسرائيل.. 3 - أعادت التذكير بطبيعة المشروع الإسرائيلى فى قلب المنطقة العربية، كمشروع استعمارى، يأتمر بأمر الغرب ويحقق مصالحه.. ولكن - برغم كل ما سبق - فهو ربح من الناحية المعنوية أكثر منه ربح مادى ملموس.. اما المكسب المادى فيمكن إجماله فيما يلى: 1 - أوقعت حماس قتلى إسرائيليين بلغوا 1600 منذ 7 أكتوبر الماضى، وأوقعت عددا من الجرحى والمصابين بلغوا حوالى 8000 شخص... 2 - فرضت على إسرائيل نقل جزء من شعبها من بيوته إلى أماكن أخرى بعيدة عن أماكن الصراع.. وهكذا نقلت إسرائيل سكان المستوطنات المحيطة بغزة إلى الداخل الإسرائيلى خوفاً من رشقات الصواريخ الآتية من غزة.. 3 - فرضت على إسرائيل استدعاء احتياطى هائل من جنودها استعدادا لاقتحام قطاع غزة المنيع، وهو ما فرض توقف دولاب العمل الحكومى والإنتاجى فى إسرائيل - أو جزء لا يستهان به على أقل تقدير - وقد أنتج ذلك أثره الفورى بطلب إسرائيل مساعدات عاجلة - بالمليارات - من أمريكا، قدمتها أمريكا عن طيب خاطر.. 4 - تدمير عدد لا بأس به من الدبابات والمدرعات الإسرائيلية أثناء محاولتها اقتحام غزة وبها أطقمها العاملة من الجيش الإسرائيلى.. هذه هي - حتى اللحظة - مكاسب حماس الظاهرة من العملية.. ننتقل إلى الجانب الآخر من حساب الأرباح والخسائر وهو ناحية الخسارة بسبب حرب الإبادة التى مارستها إسرائيل ضد الفلسطينيين.. حيث بلغ الشهداء من الجانب الفلسطينى أكثر من عشرة آلاف إنسان وأضعافهم من الجرحى والمصابين.. وهى تكلفة إنسانية كبيرة، وتدمير هائل للبنية الأساسية فى قطاع غزة، من محطات الوقود إلى محطات الكهرباء إلى محطات الشرب، إلى جانب دمار جزء لا يستهان به من منازل وبيوت أهل غزة، وكذا تهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، وبدء صنع منطقة آمنة لإسرائيل داخل قطاع غزة ذاته، وأيضاً محاولة إسرائيل استغلال عملية حماس للانتهاء بصورة كاملة من القضية الفلسطينية.. وخرج إلى العلن ما كان مكتوما لفترة طويلة، وإذا خطط إسرائيل ترمى بلا لبس إلى تهجير الفلسطينيين فى غزة وأصبح الضغط على مصر والأردن محسوسا، وفى بعض الأحيان لا يطاق.. ورغم الموقف المصرى والأردنى الواضح والرافض تماما لهذا السيناريو لا يمكن القول إن إسرائيل صرفت النظر عن ذلك المشروع المجنون بل إن محاولات تنفيذه مستمرة بمساعدة غربية واضحة، حتى وإن أعلنت التصريحات الرسمية خلاف ذلك، ولكن الكلام شىء والواقع على الأرض شىء آخر تماماً.