إنهم يَقتِلونَ شجرة الجميز
عصام التيجى
مُتكيأً على عكازِه لطالما يأخذه الشوق والحنين إلى شجرةٍ مباركة، تمثلُ تاريخاً وحضارةَ شعبِ مُتمسكٍ بأصلِه، يتفيّأُ ظِلالها الوارفة، يسترجعُ ذكرياتِ أرضٍ كانت مبعثَ الأنبياءِ والرسل، وطأت عليها أقدامُ سادتِنا «إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى» عليهم السلام، كما زارها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراءِ والمعراج.
على ملامحِه رَسَمَ الزمنُ أحداثَه، وفي تجاعيدِ وجهِه يعيشُ ماضي وحاضر فلسطين، يأتي على الثائرِ العجوز الصباح وفي وجهِهِ شروق أمل جديد في تحريرِ الأرض وعودةِ الحُلم الذي اغتصبه المحتل وقتله رصاص الغدر ودنس العدو تراب أرضِها الطاهرة، ويحلُ عليه المساء دون جدوى، لكنه يظلُ متمسكاً باليقين والنصر المبين.
يقول العجوزُ الفلسطيني إن لشجرةِ الجميز حضوراً تاريخياُ قديماً في غزة «كشجرةٍ مباركة» أوصى الأجدادُ بالحفاظِ عليها والتمسكِ بها، فإن فرطتم فيها ستفرطون في أرضِكم، وها نحن نحرصُ على زراعتِها دوماً، فلا تكادُ تخلو مدينة أو قرية إلى وقتِنا هذا من شجرةِ جميزٍ كبيرة، فيها يُعرفُ المكان بل تعدُ منارةَ الاهتداءِ والوصولِ إلى القرى والبلدانِ المختلفة، وبجذورِها الممتدة في باطنِ الأرض وعمرها الذي يتجاوزُ آلاف السنين تظلُ رمزاً للصمودِ والمقاومة، والتفاخرِ بأشجارِها التي رافقتهم أسمائهم، كشجرة زكا العشار التي تقع في شارع عين السلطان وسط مدينة أريحا وارتبطت بقصةٍ في إنجيل لوقا، حينما كان زكا رئيس العشارين أي «جباة الضرائب» منتظراً مرورَ السيد المسيح بجانبِ شجرةِ الجميز، ولأنه كان رجلاً قصيرَ القامة صَعد فوق الشجرة لكي يستطيع رؤية المسيح بين الجموعِ الغفيرة، الذي عرفه وناداه بالاسم وأمضى ليلةً في بيته، وتكريماً لزيارةِ المسيح تَبرعَ زكا بنصفِ مالِه للفقراء وارتبط اسمه بشجرةِ الجميز.
وكعادةِ من لا أصلَ له ويسعى إلى اغتصابِ تاريخ غيره، يُقال إن لشجرةِ الجميز قدسية خاصة لدى الاحتلال الإسرائيلي، فقد كانت هذه الشجرة أحد الأسباب التى دعت الحركة الصهيونية العالمية لاحتلالِ فلسطين، فقد سوقوا فكرة أن هذه أرض اللبن والعسل، وأن فيها شجرةً تُثمرُ سبع مرات في العام، وما كانت هذه إلا حججاً باطلة لتمرير احتلال فلسطين الذي حارب الغطاء النباتي عام 1948م بتجريفِ الأرض وقلعِ آلاف الأشجار ومنها شجرة الجميز، فهم لا يريدون أي دليل يثبت وجود الفلسطينين على هذه الأرض.
ومنذ ذلك الحين دماءٌ تسيل وأرواحٌ تزهق وأسرٌ بلا مأوى وأمهاتٌ ثكلى وأطفالٌ لا عائل لهم، كل ذلك من أجلِ الدفاعِ عن الأرض والعرض، لكن تظلُ شجرةُ الجميز حُلمَ الثائرِ الفلسطيني الذي لا يُقهر، حُلمَ كل طفلٍ فلسطيني ولِدَ ثائراً ليرى جذورَها تتشبثُ بالأرض وثمارَها تعلو عنانَ السماء بشموخِ الصمود ووحدةِ الهدفِ والمصير.
أبداً لن يَموتَ الحُلم ولن تُقتلع الأشجار وستظلُ فلسطين «كشجرةِ الجميز» أملاً وحُلماً لن يُقتّل أبداً.