الأحد 5 مايو 2024

من أسرار غزة.. رحلة إلى التاريخ والجغرافيا المقاتلة!

د. رفعت سيد أحمد

28-11-2023 | 20:31

بقلـم: د. رفعت سيد أحمد
يستمر العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم.. مستخدمة كل ما هو محرم دوليا من أسلحة.. ومدمرة كل ما ينبض بالحياة.. مع تحويل المبانى والمؤسسات إلى ركام وأحجار دون تميز.. وتقريبا ألقى على قطاع غزة ما يعادل أربع قنابل نووية من حجم (قنبلة هيروشيما) التى كان وزن متفجراتها (15 ألف طن ).. نضيف إلى ذلك أن عدد الشهداء سيتجاوز خلال ساعات الـ 13 ألف شهيد نصفهم تقريبا من الأطفال والنساء.. بالإضافة إلى أن أكثر من ثلثى سكان غزة، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، فروا من منازلهم منذ بدء الحرب، فيما يعيشون ظروفا إنسانية صعبة، بسبب حرمانهم من الماء والكهرباء والمواد الغذائية والأدوية.. ومع ذلك يصبر أهل غزة صبرا أسطوريا.. ويتحدون بإرادتهم الصلبة (الهولوكست الجديد)، الذى يمارس عليهم من النازيين الجدد من صهاينة هذا الزمان! فى ملحمة تاريخية فذة.. تدفعنا إلى السؤال الكبير عن ذلك (السر)، الذى يجعلهم يصمدون والكامن خلف صمودهم الملحمى رغم عظم التضحيات وأثمانها الغالية.. ما السر؟ هل فى البشر أم فى التاريخ أم هى الجغرافيا؟ ذلك ما نحاول البحث عنه مع استمرار العدوان وربما ردا عليه.. لفهم لماذا سيصمد أهل غزة ولماذا سينتصرون! جغرافيا تجبر أهلها على الصمود أولا: نحن ممن يرى أن الجغرافيا الصعبة والتى يحاصر فيها المحتل.. قطاع غزة حصر الموت منذ سنوات طوال؛ هى أحد أهم أسباب التشبث بالحياة وبالنضال وبرفض الخنوع والذل وهى سمة الروح القوية التى يحاصرها الجبناء.. لقد صنعت (الجغرافيا) فن وعلم الحياة الحقة فى أبناء هذا القطاع! وتقول الجغرافيا –لكى نعلم حقيقة الصمود فى وجه حصارها اللعين لغزة - إن قطاع غزّة هو المنطقة الجنوبية من السهل الساحلى الفلسطينى على البحر المتوسط؛ على شكل شريط ضيّق شمال شرق شبه جزيرة سيناء، وهى إحدى منطقتين معزولتين (الأخرى هى الضفة الغربية) داخل حدود فلسطين التاريخية.. وقطاع غزة لم تسيطر عليه القوات الصهيونية فى حرب 1948، ولم تصبح ضمن حدود الكيان الصهيونى وقتذاك، وتشكل تقريبا 1,33 بالمائة من مساحة فلسطين. سُمّى بقطاع غزة نسبةً لأكبر مدنه وهى غزة.. تحد إسرائيل قطاع غزة شمالًا وشرقًا، بينما تحده مصر من الجنوب الغربي. هذا وتحدثنا (جغرافية القطاع) فتقول إن طوله يبلغ 41 كيلومترًا، ويتراوح عرضه من 6 إلى 12 كيلومترًا، وتبلغ مساحته الإجمالية 365 كيلومترًا مربعًا. يعيش فى قطاع غزة حوالى 2 مليون فلسطينى، مما يجعل الكثافة السكانية عالية بشكل ملحوظ، مماثلة لتلك الموجودة فى هونغ كونغ. غالبية الفلسطينيين فى غزة التى تحتوى على ثمانية مخيمات للاجئين هم من اللاجئين، الذين طردوا من المنطقة التى احتلتها إسرائيل بالإرهاب والقوة المسلحة بعد النكبة عام 1948. فصلت إسرائيل قطاع غزة عن الضفة الغربية بعد احتلالها للأراضى الفلسطينية الواقعة بينهما، يخضع قطاع غزة والضفة الغربية اسميًا للسلطة الفلسطينية، ومع ذلك، فإن غزة تخضع فعليًا لحكم حركة حماس، التى تحكم المنطقة منذ الخلافات الداخلية التى اندلعت عام 2006 عقب فوز حماس فى الانتخابات التشريعية بالأغلبية، ومنذ ذلك الحين، تعرضت غزة لحصار برى وبحرى وجوى كامل من إسرائيل مما يمنع الأشخاص والبضائع من الدخول أو الخروج من المنطقة بحرية، مما أجبر أهالى غزة على الصمود وخلق هذا الحصار فيهم روح التحدى التى نجدها اليوم في مواجهة العمليات الإرهابية والنازية الإسرائيلية بعد عملية طوفان الأقصى (7-10/2023) . ثانيا: لم تكن الجغرافيا هى وحدها من كانت أحد أهم عوامل الصمود لغزة فى مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية طيلة قصة الصراع منذ نكبة 1948 وحتى 2023.. بل كان (التاريخ) أيضا غزّة من أعرق المدن العربية وأقدمها، وقد ذكرت غزّة لأوّل مرّة فى التاريخ فى مخطوطة تعود لفترة ما قبل الميلاد وتحديدًا للقرن الخامس عشر منه، للفرعون تحوتمس الثّالث . أطلق العرب على المدينة الفلسطينيّة المعروفة غزّة باسم (غزّة هاشم)، وتعود هذه التسمية، لوجود قبر جدّ النبى محمد صلّى الله عليه وسلمّ (هاشم بن عبد مناف)، وهى مدينة الإمام الشافعى ومسقط رأسه، وعرفت غزّة بأسماء عديدة عبر العصور، فكانت تعرف بـ(هزاتى) عند الكنعانيّين، وتعرف بـ(غزاتو) عن المصريين الفراعنة، و(فازا وعزاتى) عند الآشوريين واليونانيّين، وعرفت بـ (عزّة) عند العبرانيّين، وبـ (غادرز ) كما دعاها الصليبيّون، وبـ (كازا) عند الإنجليز، أمّا الأتراك فإنّها تعرف عندهم بـ (غزّة)، كما هى التسمية عند العرب حتى الآن. وتحدثنا كتب المؤرخين أن بدء تأسيس المدينة يعود إلى الكنعانيّين فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ويقول عالم الآثار الإنجليزى السير فلندرس بترى إن غزة القديمة أنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام، فوق التل المعروف بـ «تل العجول»، وإن سكانها تركوها بسبب الملاريا التى اجتاحتها فى ذلك الوقت. وعلى بعد ثلاثة أميال، حط سكانها رحالهم وأنشأوا غزة الجديدة الموجودة فى موقعها الحالي. ويقال إن ذلك حدث فى عهد الهكسوس الذين سيطروا على هذه المنطقة قبل ألفى عام من ميلاد المسيح. وهناك من ينفى هذه الرواية ويقول: إن غزة ما زالت حتى اليوم فى موقعها القديم، وإن «تل العجول» كانت ميناء غزة التجاري. وهناك من قال: إن غزة القديمة خربت على يد الإسكندر الأكبر، وإن غزة الحديثة ليست ببعيدة عنها كما قال السير بتري. ويقول «العارف» فى كتابه: إن «المعينيين» الذين يقال إنهم أقدم شعب عربى حمل لواء الحضارة فى الألفية الأولى قبل الميلاد، هم أقدم من ارتاد مدينة «غزة»، وأسسوها كمركز يحملون إليه بضائعهم. وتنبع أهمية «غزة» لدى العرب من كونها تربط بين مصر والهند، فكانت الطريق التجارى الأفضل لهم مقارنة بالملاحة فى البحر الأحمر، ومن هنا تأسست مدينة غزة واكتسبت شهرتها التاريخية. وكانت التجارة تبدأ من جنوب بلاد العرب فى اليمن، التى يجتمع فيها تجارة البلاد وتجارة الهند، ثم تسير شمالًا إلى مكة ويثرب «المدينة المنورة حاليًا» والبتراء، قبل أن تتفرع إلى فرعين؛ أحدهما فى غزة على البحر المتوسط، وثانيهما فى طريق الصحراء إلى تيماء ودمشق وتدمر. ومن هنا استنتج مؤرخون أن مملكة معين وسبأ أولى الممالك العربية التى أسست مدينة غزة. كما كان «العويون» و»العناقيون» الذين يقال إنهم الفلسطينيون القدماء، وجاء ذكرهم فى أسفار العهد القديم، هم أول من استوطن غزة، ثالثا: كانت غزة (المدينة والقطاع) على الدوام عرضة لأطماع كثيرة من جميع أنواع المستعمرين والأعداء مما أكسبها (إرادة المواجهة) وصلابة التحدى وهو جوهر-وأحد أهم أسباب - ما نراه الآن من صمود وتحد بعد عملية طوفان الأقصى *هذا المعنى أو السر الكبير فى البسالة والتحدى نتج تاريخيا عن قصة طويلة فى مواجهة المحتلين للمدينة والذين تمتد خريطة أسمائهم من: (الإغريق، الرومان، الفراعنة، البيزنطيّين، العثمانيّين، البريطانيّين، الاحتلال الإسرائيلى). * إن التاريخ يقول لنا إن المسلمين قد حرروا غزّة من أيدى الصليبيّين، الذى كانوا مسيطرين عليها، على يد صلاح الدين الأيوبي، وأخذت بالازدهار والنمو فى فترة الاحتلال العثماني، ولكن سرعان ما اشتعلت الحرب العالمية الثانية لتقع تحت الاستعمار البريطاني، وعند نشوف الحرب العربيّة – الإسرائيلية فى عام 1948 م توّلت مصر بإدارة أراضى القطاع، ليأتى عام النكسة 1967 وتقع فى أيدى الاحتلال الإسرائيلي، فقاومته إلى أن انسحب منها مجبرا 2005 ولكنه ما فتئ يعتدى عليه فتقاومه، بل وتضرب عمقه الاستراتيجى فى تل أبيب طيلة العشرين عاما ولا تزال تقاومه. **رابعا: غزة اليوم التى عدد سكانها يزيد قليلا عن الـ2 مليون نسمة.. تحمل عبء ومسئولية الدفاع عن مقدسات تخص 2 مليار مسلم.. وتلك مفارقة كبرى! لأنه لو تضامن العرب والمسلمون وتوجهوا بإرادة واحدة ناحية فلسطين ودعموا أهلها بالمال والسلاح والسياسة والاقتصاد؛ لما كان هناك عدوان ونازية جديدة ممثلة فى جيش الاحتلال الإسرائيلى.. ولعادت غزة وكل مدن القطاع وفلسطين؛ حرة عزيزة.. لكن الفرقة والصراع ودواعش هذا الزمان الذين حرفوا البوصلة وشغلوا الجيوش من (2011-2023) عن فلسطين.. وتضارب المصالح والتآمر مع المحتل ومن يسانده هو الذى وباستمرار يفشل - أو يؤجل على الأقل - هكذا مستقبل للقطاع الباسل - ولغزة هاشم فى قلبه - ورغم ذلك فإن قصة وسر (الجغرافيا والتاريخ وسننه الخالدة) تؤكد يقينا أن غزة هى المنتصرة فى هذه الجولة كما الجولات السابقة فى قصة الصراع!