الإثنين 29 ابريل 2024

7 أكتوبر ينهى آخر ما بقى من «الربيع العربى» مع موجة الربيع الأسود تراجعت الأبحاث حول إسرائيل

الكاتب الصحفي حلمى النمنم

6-12-2023 | 06:48

بقلم: حلمى النمنم
مع نهاية سنة 2010 بدأت فى عالمنا العربى الموجة التى أطلقت عليها الصحافة الأمريكية «الربيع العربى» بدأت فى تونس ثم انتقلت إلى مصر، رغم إصرار البعض وقتها أن مصر ليست تونس ومنها إلى ليبيا وسوريا، لكن الأصداء كانت فى الدول العربية كلها، وهكذا فإن عددًا من الدول الأخرى التى لم تصلها هذه الموجة اتخذت إجراءات سياسية واقتصادية للحيلولة دون وصولها.. كما حدث فى المغرب وفى عدد من دول الخليج العربى، وتراوحت نتائج تلك الموجة، فى بلد مثل تونس تم إسقاط النظام السياسى وفى مصر حدث ذلك مع فترة من الفوضى الرهيبة، لولا تدخل الجيش المصرى والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، كان الأمر اختلف تماما.. فى سوريا وفى ليبيا أدت الموجة إلى انقسام وكسر حاد للدولة وظهور أشكال من الحروب الأهلية، لم تتعاف هذه الدول منها إلى اليوم. وكان واضحا للجميع أن موجة «الربيع العربى» أدت إلى ارتفاع مد «الإسلام السياسى» فى العالم العربى، وصلت جماعة حسن البنا، عبر عديد من الألاعيب إلى الحكم فى مصر سنة 2012، وفى تونس تحكموا فى مفاصل الدولة وصاروا أصحاب الحل والعقد، لكن ثبت فشلهم سريعا، خاصة فى مصر وقامت ثورة 30 يونيه لتصحح الأوضاع على النحو المعروف لنا جميعا.. ومع قيام ثورة 30 يونيه تراجع نفوذ الإسلام السياسى وكشف عن الجانب الآخر، وهو الإرهاب، وكان نصيب مصر منه كبيرًا وتحملت القوات المسلحة عبئا ضخما فى شمال سيناء حتى تم وقف العمليات الإرهابية ودحر الإرهابيين. كانت موجة «الربيع العربى» بداية تحول فى المشاعر والأفكار، بل والثقافة العربية تجاه القضية الفلسطينية أو قضية الصراع العربى الإسرائيلى، تراجع الاهتمام بهذه القضية ولم تعد فلسطين هى القضية المركزية العربية الأولى، صارت الديمقراطية هى القضية المركزية، وقضايا كل قطر على حدة، لذا لم يكن غريبا أن نسمع من رئيس اتحاد كتاب فلسطين وصف «الربيع الأسود» تعبيرا عن الربيع العربى.. وراح بعض المحللين الإسرائيليين يرصدون تلك الظاهرة بسعادة، قالوا إن – المليونيات- ملأت ميادين العالم العربى من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن لم نشهد مليونية واحدة بشأن فلسطين. فى مقدمة كتابه « قم واقتل أولا» وهو كتاب عن جرائم ودموية الموساد طوال تاريخه، ذكر كاتبه «رونين بيرغمان» وهو صحفى إسرائيلى أنه جاء وقت كان يمكن للرئيس الفلسطينى ياسر عرفات أن يحرك بتليفون من مكتبه عواصم كبرى مثل القاهرة ودمشق والرياض، لكن بعد 2011 اختفى ذلك، لأن القضية الفلسطينية لم تعد تحرك أحدا.. فى تلك الفترة شهدت الساحة الأدبية صدور عدد من الروايات لأدباء وكتاب جدد، يتناولون فيها إسرائيل، وكان التناول مختلفا عما عهدناه فى الرواية العربية قبل ذلك، الروايات الجديدة كان فى عدد كبير منها إعجاب ظاهر بإسرائيل أو على الأقل اختفاء العداء والوجه السلبى لها، لن نقول الجانب الرافض والمدرك لعدوانيتها. فى الستينيات وما بعدها، ظهرت أعمال أدبية كبرى مثل «باب الشمس» للروائى إلياس خورى، و«ورجال حيفا» لغسان كنفانى ثم «الطنطورية» لرضوى عاشور، فضلا عن العديد من أعمال الروائى الفلسطينى - الأردنى «إبراهيم نصر الله» فى هذه الأعمال الإبداعية كل بطريقته كانت القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلى واغتصاب الأرض والوطن واضحا وهما حقيقيا لدى كل روائى، لكن فى موجة روايات ما بعد 2011 تراجع ذلك فى معظم الأعمال، لا أقول كلها، وظهر تمجيد إسرائيل، مدنها وشوارعها، باعتبارها دولة متقدمة ومتحضرة، تمنح كل مواطنيها حقوقهم وتحترم إنسانية الجميع، وفى أكثر من عمل كان يحضر متحف الهولوكست فى تل أبيب، داخل العمل للتذكير بالمحرقة ومعاناة اليهود فى ألمانيا النازية إلى جوار ذلك ظهرت موجة من الكتابات الاعتذارية العربية عن فترة الحروب مع إسرائيل والعداء لها، الغريب أن ذلك كله لم يظهر حتى فى الفترة التى تبنى فيها بعض الكتاب السياسيين ثقافة السلام أو هجوم السلام كما كان يسميه د.قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى الأشهر. الملاحظ أن هذه الروايات الجديدة، كانت تجد إقبالا فى التوزيع، عدد منها أعيدت طباعته عدة مرات فى فترة وجيزة من الزمن، قياسا على ما كان يحدث عموما مع الروايات من قبل.. والمهم أن الرأى العام استقبلها بلا ضجة وبلا صيحات احتجاج، كما حدث مع الكاتب المسرحى الراحل على سالم، الذى قوبل بهجوم عاصف ومقاطعة من الكثيرين، حتى من أصدق الأصدقاء والزملاء، خاصة بعد أن أصدر كتابه الشهير عن زيارته إسرائيل. مع تراجع الحالة والموقف التقليدى من إسرائيل بعد 2011، تراجعت مدرسة فكرية عربية قدمت رموزا وأجيالا، وهى المدرسة التى تبنى الباحثون والمفكرون فيها دراسة المجتمع الإسرائيلى بترقب ودوقة وبعين الحذر، فضلا عن الانطلاق من قاعدة أنها كيان اغتصب فلسطين ويريد أن يواصل الاغتصاب والعدوان على الدول الأخرى، كما حدث مع مصر وسوريا والأردن فى يونيه 1967، حيث بادرت إسرائيل بالعدوان والهجوم على هذه الدول، رغم تعهد عبدالناصر من قبل أنه لن يهاجم إسرائيل ولن يبادرها بالعدوان، ورغم أن الأردن والملك حسين لم يكن على عداء مع إسرائيل ولم يبادرها بعدوان ولا حتى بتهديد لفظى، ثم إنها هاجمت لبنان واحتلت بيروت سنة 1982، ومن قبل هاجمت المفاعل النووى العراقى سنة 1981، رغم أن العراق كان مشغولا وقتها بالثورة الإسلامية فى إيران وسعيها إلى تصدير الثورة نحو العراق. برز فى تلك المدرسة أسماء كبيرة ومؤثرة مثل أستاذ العلوم السياسية د.حامد ربيع فى كلية السياسة، ثم د.عبدالوهاب المسيرى الأستاذ بجامعة عين شمس وصاحب موسوعة اليهود والصهيونية، وكذا د.رشاد الشامى، ود.إبراهيم البحراوى وكل منهما ابن قسم اللغة العبرية فى آداب عين شمس، وصاحب دراسة «تجسيد الوهم» د.قدرى حفنى، وهذه الدراسة عن الشخصية الصهيونية، وكانت فى الأصل رسالته لنيل درجة الماجستير فى جامعة عين شمس.. إلى جوار هذه المدرسة من الشخصيات والأفراد، كان هناك مركز الدراسات السياسية بالأهرام ومركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة عين شمس. هذا الجيل من الباحثين تأثر بوقائع حرب سنة 1967 ثم حرب الاستنزاف ومن بعدها حرب أكتوبر 1973، وكانوا على قدر المسئولية الوطنية والعلمية، لكنهم لم يكونوا الجيل الأول، البعض يتصور أن الصراع مع إسرائيل ارتبط بثورة يوليو 1952 ثم زعامة عبدالناصر ورئاسة السادات، لكن المشكلة كانت قائمة قبل ثورة يوليو.. نعرف معركة قرار التقسيم سنة 1947 ثم عام النكبة فى 1948. طوال مراحل القضية الفلسطينية لم يتخل المثقف والكاتب والصحفى المصرى عن دوره، فى سنة 1913 قام جورجى زيدان بزيارة طويلة إلى فلسطين وعاد ليكتب سلسلة تحقيقات مهمة عن ما يجرى هناك فى مجلة «الهلال»، ثم تواصل الاهتمام.. فى أبريل سنة 1947 ومع اشتداد الأزمة، أصدر د.محمد عوض محمد بحثا مهما بعنوان «المسألة الصهيونية فى نظر العلم»، أثبت فيه علميًا أن يهود أوربا وأمريكا لا ينتمون إلى «بنى إسرائيل» القدامى، بل هم مواطنون أوربيون اعتنقوا الدين اليهودى، منذ القرن الأول قبل الميلاد، ومن ثم تسقط مقولة إن فلسطين هى أرض الميعاد لهم، طبع الكتاب على نفقة جامعة الدول العربية، ثم أعقبه المؤرخ د.محمد رفعت فى شهر أغسطس من السنة نفسها بكتاب «قضية فلسطين»، أصدرته سلسلة اقرأ، باختصار كان هناك جهد علمى طوال الوقت قام به كتاب ومفكرون وباحثون، منذ نشوب الأزمة، وما قام به جيل المسيرى وقدرى حفنى، كان استمرارًا لما بدأه الآباء الأوائل، منذ رشيد رضا وشكيب أرسلان ثم جورجى زيدان وغيرهم. فى لحظة تاريخية فاصلة رحل هؤلاء جميعا عن عالمنا، ولم يهتم تلاميذهم بمواصلة المسيرة، خاصة أن المناخ العام بدا غير مرحب بهذا النوع من الجهد العلمى ولا يريده، وهكذا اتجهت اهتمامات مراكز الأبحاث والدراسات إلى جوانب أخرى، من الاهتمام بقضايا التنمية المستدامة وشئون الديمقراطية واستتبع ذلك أن الكتب والدراسات السابقة لم تعد تطبع مجددًا، مثلا كتب د.المسيرى فى قضايا الأدب الإنجليزى والفكر الإنسانى، يعاد طباعتها، لكن كتاباته عن الصهيونية وإسرائيل، لا نجدها وهكذا الحال بالنسبة لباقى المفكرين والكتاب، ولم يحتج أحد ولا تساءل عنها أو حولها، حتى جاءت أحداث السابع من أكتوبر فى غزة، الشهر الماضى، ونكتشف أن الأجيال الجديدة فوجئت بكل شىء، ردود الأفعال الأولى على المذابح ومعارك الإبادة فى غزة، تكشف أنهم لا يعرفون شيئًا عن تاريخ الصراع العربى - الإسرائيلى، وأنهم لم يتوقفوا عند خبرات الأجيال السابقة ولا اهتموا بمعرفتها. أقامت هذه الأجيال قطيعة مع التاريخ الحديث والمعاصر، وحملت كراهية لرموز ذلك التاريخ، ما وصل إليهم إدانة التاريخ، ومن ثم التخلى عن كل ما يحتويه، وعدم تذكره ولا رغبة فى معرفته، مجرد موته، أدانوا كل شىء فيه، حتى لو كان قرار تأميم قناة السويس سنة 1956، لم يحترموا التضحيات التى قدمها السابقون، أدانوا كل حروبنا، وأهدروا بل أهانوا كل الانتصارات وشككوا فيها، فعلوا ذلك بسعادة بالغة واستعلاء حقيقى، كانوا مأخوذين بجماعات المطبعين حينا ودعاة العولمة حينا آخر والليبراليين الجدد، فضلا عن أنهم تقبلوا لعنات الإسلام السياسى لذلك التاريخ. وجاء يوم 7 أكتوبر أشبه بالبركان الهادر، أسقط ذلك البناء كله، ثقافيا ونظريا، تبين خطأ إهدار التاريخ ومحو الذاكرة الذى تم، ذلك أن الصراعات السياسية وهموم الأوطان لا تنبت، وتقطع من جذورها، القضية الفلسطينية والصراع العربى - الإسرائيلى، يتجاوز عمره قرنا من الزمان، بدأ هذا الصراع رسميا مع وعد بلفور سنة 1917، وربما كان قبل ذلك لكن حدته كانت خفيفة، ثم يأتى جيل بأولويات مختلفة واهتمامات وتطلعات أخرى، فيزيح التاريخ، يسقطه نهائيا من الذاكرة ومن الوعى، وفى لحظة الانفجار تبين أن هذا التاريخ لم ينقطع، حاضر بقوة وقسوة، بل ازداد وحشية، هل يعنى ذلك أن نقع أسرى التاريخ ونكون مجرد نسخ منه، بالتأكيد لا، الحاضر قائم، لكن لا يجوز إهدار التاريخ، يجب استيعابه لا استبعاده، وهضمه لا تقيؤه،.. التعامل معه باحترام علمى يليق واحترام إنسانى لما فيه من تضحيات ودماء. لا أعرف كيف ستتفاعل الأجيال الجديدة مع هذه القضايا، لكن أتصور أن الواقع فرضها علينا فرضا، لا يمكن لأحد أن يتابع كل ما جرى ويتعامل معه بحيادية.. حدث التفاعل المباشر عبر المظاهرات والمنصات الإلكترونية، لكن أتحدث عن التعامل الثقافى والأدبى. ثقافيا وفكريا يجب استعادة ومواصلة جهود السابقين، بتأسيس مراكز ثقافية وفكرية، تكون مهمتها دراسة إسرائيل ودراسة المجتمع الفلسطينى وما يجرى هناك، لأننا بحكم الجغرافيا الطبيعة والسياسية نحن الأقرب إلى هذا الصراع، وقد يمتد إلينا فى أى لحظة، هذه المرة كانت مصر مرشحة لتهجير واستقبال الفلسطينيين من غرة، أى نقل الصراع إلى داخل مصر.. بذل الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الأزمة الأخيرة جهدا خارقا، يفوق الجهد الذى بذل فى قضايا أخرى، وهذا يعنى أننا طرف فى القضية، وهذا بحكم الواقع الجغرافى والدور الاستراتيجى، وهذه المرة قدم الرئيس السيسى جديداً، وهو أن وضع الرأى العام فى المشهد، وجعلنا طرفاً أصيلاً، من قبل كانت هذه القضايا تثار فى الغرف المغلقة، لكن الرئيس بشفافية تامة وشجاعة كاملة أحاطنا كمواطنين بالكثير من التفاصيل بشفافية ووضوح، ومن ثم يجب أن نعرف، وتكون لدينا معلومات ومعارف واضحة عن أطراف وجوانب هذا الصراع. حق المعرفة، حق إنسانى ويكفله لنا الدستور، لذا يجب استعادة الدور البحثى والعلمى فى هذه القضية، سواء من المراكز القائمة بالفعل أو تلك التى يجب أن نؤسسها، ولدينا كوادر علمية عديدة ويكمن الاستعانة بها، من أقسام ودراسات التاريخ والجغرافيا والآثار واللغة العبرية وغيرها. أما الناتج الأدبى، فعلينا أن نتوقعه وأن ننتظره خلال السنوات القادمة، هؤلاء الذين تأثروا أو تابعوا ما حدث ثم تفاعلوا معه لحظة، بلحظة، سوف يكتبون وسوف نتابع ما يقدمون من أعمال روائية وقصصية أو أى أشكال أخرى من التعبير.