للحرب على غزة.. وجوه أخرى
الكاتب الصحفي عبد اللطيف حامد
«رب ضارة نافعة» يجسد هذا المثل العربي القديم عددا من الوجوه للحرب الصهيوينة الغاشمة على قطاع غزة، وما حولها على مدى قرابة شهرين من المجازر الوحشية، والاعتداءات البربرية، صحيح مشاهد العدوان قاسية، ومظاهر التدمير هائلة، وأشكال الاستهداف لكل ما هو فلسطينى بشعة، وصور الانتقام شرسة، مما رفع أرقام الشهداء والمصابين بدرجة غير معقولة، وضاعف الخسائر المادية بشكل غير متصور، لكن رغم كل هذه المأسي، وجميع تلك الشدائد إلا أن هناك نقاط مضيئة وآمالا عريضة فى طيات هذه الكارثة، ولو جاز التعبير يمكن القول هناك حصيلة من المكاسب، وعدد من الفوائد لصالح الهدف الأسمى وهو القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، ومحور الصراع مع الصهيوينة العالمية منذ بدايات القرن العشرين، لأن فداحة الانتهاكات الإسرائيلية فى حق أصحاب أرض الزيتون، حملت معها بشارات مهمة، وعلامات دالة على إنهاء الاحتلال، وعودة الحقوق المنهوبة، والمناطق المسلوبة، وأن اللعبة كلها ليست فى يد واشنطن راعية الإرهاب الإسرائيلي، ولا الحل تحت سيطرة قادة تل أبيب الدمويين فقط، بل هناك لاعبون محوريون، وأبعاد جديدة قادرة على تغيير المشهد غصبا عن عين بايدن المتآمر ونتنياهو مجرم الحرب، وبن غفير القاتل اليمينى المتطرف.
ومن أولى النقاط الفارقة خلال أيام هذه الحرب الطويلة أيامها، المؤلمة فى أحداثها، الثقيلة فى تبعاتها، نجاح التنسيق بين العواصم العربية فى هزيمة مؤامرات الكيان الصهيونى العاملة على إبادة أهل غزة بالقصف الهمجي، والقتل الجماعي، والإصرار المبيت على تنفيذ مخطط التهجير القسري خصوصا مع المساندة الغريبة والمريبة من الرئيس الأمريكي بايدن الذى يتصرف كصهيونى عتيد وليس مجرد رئيس لأكبر قوى دولية، إلا أن يقظة بعض القادة العرب وفى مقدمتهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، وموقفه الحاسم ضد مخطط تصفية القضية الفلسطينية أعاد الأمور لنصابها، وضرب مكيدة الاحتلال فى مقتل، ثم جاء الدور على مواجهة دسيسة فصل غزة عن العالم، وقطع المياه والغذاء والطاقة والإنترنت عنها حتى يجبرون جموع السكان على الرحيل فرادى وجماعات، وهو ما انتبه إليه القادة العرب وفى صدارتهم الرئيس السيسي وأيد موقفه العاهل الأردنى الملك عبد الله ، فتوالت شحنات المساعدات، وطائرات المعونات لإنقاذ الأشقاء، ورغم محاولات التهرب الصهيونى، وجولات الخداع الإسرائيلي، اضطر قادة الحرب إلى الاستجابة، والتراجع عن مؤامرة التجويع والقتل البطىء للقابضين على جمر الوطنية فى غزة وما حولها، ثم كانت المحطة الأبرز للقوة العربية وهى سريان الهدنة الإنسانية وبدء تبادل الأسرى من الجانبين بوساطة مصرية قطرية مع دخول أمريكا راغمة على خط المفاوضات خوفا من انفلات العيار على جبهات أخرى، وتحسبا لتضرر مصالحها بالمنطقة بعدما ظهرت للقاصى والداني كوسيط غير محايد، ومع كل عراقيل تضعها أو تخترعها تل أبيب فى أثناء مراحل التبادل للأسرى تتكسر على صخرة الترتيب المشترك بين القاهرة والدوحة، ومن المؤكد أن استمرار هذا التفاهم، ومواصلة هذا التناغم سيكون التأثير أعظم، والنفوذ أقوى لصالح حل الدولتين، وتضييق مجارى الدم على الصهاينة فى قادم الأيام.
أيضا من الدروس الحاضرة بقوة فى هذه الملحمة تأكيد الإنسانية الفلسطينية وتعريتها لوحشية الصهيوينة وأعوانها، فها هى الشهادات تتوالى من الأسرى الإسرائليين بعد الإفراج عنهم ضمن اتفاق الهدنة، فقد وجدوا حسن المعاملة رغم استمرار العمليات الوحشية بطول الأراضى الفلسطينية وسقوط آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين، فلا قسوة، ولا عنف، وجاءت أحاديث المفرج عنهم عبر صفحات الصحف والمواقع وحتى الشاشات الإسرائيلية تؤكد التعامل الإنساني من فصائل المقاومة الفلسطينية، ثم وثقت تقارير المستشفيات التى نقلوا إليها هذه الحقائق، وأنهم تلقوا رعاية طبية جيدة، ولا وجود لآثار ضرب أو تعذيب على أجسادهم، مما ينفى تهم التنكيل والاعتداءات عليهم التى روجتها سلطات الاحتلال عمال على بطال، مما تسبب فى خداع الرأى العام الغربي فى بداية الحرب ثم تيقن فيما بعد من وحشية الصهاينة بالصوت والصورة وهم يقصفون المدنيين، ويضربون دور العبادة، ويهدمون المستشفيات، واتضح التباين بين الطرفين أكثر مع عرض بعض صور الجرائم التى يرتكبها الكيان الصهيونى ضد الأسرى الفلسطينيين ومنها على سبيل المثال لا الحصر كما يؤكد نادى الأسرى، نجد أن فور وقوع أحداث عملية طوفان الأقصى فرضت سلطات الاحتلال إجراءات عقابية مشددة كقطع الكهرباء والماء عنهم، وسحب المواد الغذائية، والحرمان من المتابعة الطبية، واقتحام قوات القمع للسجون، والحجز فى زنازين معزولة، هنا نحتاج لترويج هذه الحقيقة على أوسع نطاق ليعرف الرأى العام العالمي، والشعوب الحرة الفارق بين ما هو فلسطينى عربي وما هو إسرائيلي صهيونى، وعدم تصديق السردية الإسرائيلية الكاذبة على حساب الرواية الفلسطينية الصحيحة.
وطالما الشيء بالشيء يذكر، يبرز هنا محور قدرة الشعوب على تغيير المعادلة فى مسار الصراع الفلسطينيى الإسرائيلى خلال المرحلة القادمة حتى ينتصر أصحاب الحق على أهل زبانية الباطل، فرغم التأييد الكاسح، والدعم الهائل من كافة قيادات القارة الأوربية لجرائم الكيان الغاصب، وترويج افتراءاته الملفقة، وتضليله المتعمد بزعم اضطراره للدفاع عن النفس، مع فرض التعتيم الكامل فى كل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة حول الصورة الحقيقية لما يجرى فى الميدان من خروقات ضخمة، وأخطاء فادحة، ومخالفات صارخة لكل بنود الاتفاقيات الأممية والقوانين الدولية بشأن الحروب من الجانب الصهيونى، وهذا ما نتج عنه فى بداية الأزمة نوعا من اللامبالاة، والتجاهل لدى فئات عريضة من المواطنيين الغربيين، لكن وإحقاقا للحق، الصورة تغيرت تماما فى الأقوال والأفعال فى عموم البلاد الأوربية عندما فقدت الأباطيل الصهيوينة مفعولها بمرور عدة أيام على عملية طوفان الأقصى، فخرج الآلاف من المحتجين لرفض موقف الرؤساء فى بلادهم، والمطالبة بتوصيل المساعدات وكسر الحصار المفروض بالقوة على القطاع، ثم تصاعدت المطالبات بقطع العلاقات مع تل أبيب، مرورا بطرد سفرائها، والدفع نحو محاكمة قادة جيش الاحتلال بتهمة ارتكاب جرائم حرب، والتورط فى الإبادة الجماعية، وبالفعل أضطر العديد من المسئولين الأوربيين للتراجع عن موقفهم، أو السكوت فى أقل تقدير، فلم نعد نرى التحذيرات من مساندة الفلسطنيين، وتوقفت نبرات التهديد للمتظاهرين الرافضين لاعتداءات الصهاينة، بل سارعت بعض الحكومات بإرسال مساعدات إنسانية، وترديد تصريحات شبه محايدة حتى لا تفقد ثقة مواطنيها وناخبيها نتيجة الانحياز الأعمى للمجرم نتنياهو ورفاقه القتلة، ويا حبذا لو ركزت حملات إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على هذا البعد الشعبى لوأد أية محاولات لتأجيل هذه الخطوة الفاصلة.
صمود المدنيين يفضح جبن المستوطنين وجنود الاحتلال، سيتوقف كل متابع لمجريات الحرب الصهيوينة على غزة أمام هذه النقطة بسهولة، لأن المواطنين الفلسطينيين رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، تحدوا الصعاب، وتحملوا ما تنوء بحمله الجبال على مدى أيام تلك المأساة بكل ما تحمل الكلمة من معان، فقد صبروا على ويلات العدوان الجماعي، ووقفوا فى وجه الطائرات القتالية وهى ترمي عليهم بالأسلحة الأمريكية الفتاكة منها القنابل الفسفورية الحارقة، والقنابل الغبية التى لا تفرق بين البشر والحجر، لكنهم كانوا وسيظلون كالجبال لا تهزهم ريح، ولا ترهبهم عاصفة، بل إنهم يجلسون بين الركام، ويأكلون وسط الدمار، وينامون بين الأنقاض حالمين بنهاية الكابوس، وزوال الاحتلال مهما كانت التضحيات، بينما نرى ونسمع فى مئات الفيديوهات والصور عن جبن المستوطنين فقد غادروا فى الحال إلى تل أبيب، وأقاموا فى الفنادق حتى تضع الحرب أوزارها، فلا ولاء لأرض، ولا انتماء لمكان، ولما لا وهم مهاجرون من دول أخرى، وقعوا فى فخ الدعاية الصهيونية فى الوطن المنتظر، ولعله ترتيب القدر ليكون مقبرة جماعية لهم فيما هو آت، ولن يكون ما بعد هذه الحرب كما هو قبلها، أما عن الجنود الإسرائليين فقد ثبت بالشواهد والوقائع أنهم جبناء، لا يحاربون إلا من وراء جدر، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، فمن يسوقه حظه العاثر إلى مواجهة المقاومة الفلسطينية يسارع بالهروب مدبر غير مقبل، وإذا أصيب يولول كالنساء، ويصرخ كالأطفال، ودائما يحرصون على الحياة كما يحرص المقاتل الشجاع على النصر أو الشهادة.
وأخيرا وليس آخرا، عودة عداوة الكيان الصهيونى وأعوانه فى قلوب وعقول الأجيال الجديدة بطول وعرض العواصم الإسلامية والعربية، لأنه بتتابع الأجيال، وتوالى العقود، ومرور السنين، وتعاقب الأزمات خصوصا خلال العقدين الأخيرين، انشغلت غالبية الدول بمشكلاتها، وانحصرت معظم البلدان داخل حدودها، فتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية تدريجيا، وقل التفاعل مرحليا مع مستجداتها، وكادت الأجيال الجديدة تنسى المخاطر المحيطة بها، والمكاره المدبرة ضدها، لكن هذا الوضع تغير إلى غير رجعة، وعاد الكل إلى صوابه، فالعدو الأول لنا هو هذا الكيان الغاصب، وعلينا الانتباه، فالمؤمن كيس فطن، وها هم الأطفال يقودون حملات المقاطعة ضد كل الشركات الداعمة لإسرائيل، ومن الطبيعى أن ترى وتسمع فى أى محل أو متجر الطفل وهو يسأل «هو المنتج ده ضمن المقاطعة أم لا؟»، وهذا فى ظنى مكسب كبير، لأن العدو يتربص بأجيال المستقبل ليكون له الغلبة والسيطرة، وبفضل الله لن ترفع له راية، ولن تحقق له غاية فى أوطاننا.
حمى الله مصر وكل العواصم العربية من كل شر.