القيادة القوية.. الرؤية.. القدرة واستقلال القرار الثوابت المصرية التى غيرت نظرة الغرب للقضية الفلسطينية
الكاتب الصحفي أحمد أيوب
على مدى الأسابيع الماضية كان لافتًا حجم التغيير الواضح فى مواقف الغرب بشأن القضية الفلسطينية، من التأييد بل الانحياز الصارخ والأعمى للرواية والرؤية الإسرائيلية ودعمها بلا حدود، إلى التعاطف الإنسانى والاقتناع بالمعاناة التى يعيشها أبناء فلسطين والضغط على إسرائيل لوقف الحرب أو على الأقل منح هدنة إنسانية حماية للأرواح.
يقينًا لم يحدث هذا التغيير فى الموقف بين يوم وليلة، ولا نتيجة مراجعة ذاتية أو تأنيب ضمير من الغرب، وإنما لأن هناك جهدًا مصريًا ضخمًا ومخلصًا وحكيمًا استمر منذ اليوم الأول للحرب وأسفر عن تقديم الرواية الحقيقية للوضع فى فلسطين، والجرائم التى ترتكبها إسرائيل بالتجاوز لكل القوانين والأعراف الدولية، وإدراك الغرب أن الرواية المصرية هى الأكثر صدقأ وعقلانية وتعبيراً عن الواقع بعيدًا عن التهويل أو التهوين، رواية موضوعية لها ما يؤكدها على الأرض، صحيح كانت هناك جهود مقدرة من دول عربية وإقليمية عديدة فى هذا الاتجاه، لكن بدون مبالغة كانت الجهود المصرية هى الأكثر تأثيراً فى تغيير بوصلة الرأى العام العالمى تجاه فلسطين إلى النقيض وإقناع الجميع بأن ما يحدث ضد أبناء غزة هو مجازر حقيقية فى حق شعب أعزل، وتأكد هذا التغيير فى المواقف الغربية من خلال تصريحات قادة هذه الدول على تنوعها وخاصة بداية من 17 أكتوبر، ووصل الأمر إلى تصويب العديد من وسائل الإعلام الغربى للغته، وتزايد مظاهرات الرفض للعدوان الإسرائيلى فى الكثير من العواصم ثم المشهد الأهم وهو الهجوم الواضح من رئيسى وزراء إسبانيا وبلجيكا ضد إسرائيل بسبب ما ترتكبه من جرائم وتعنتها ضد محاولات إدخال المساعدات واستهدافها للمستشفيات، حتى الأمريكان الداعمين لإسرائيل بشكل واضح بدأوا الحديث عن ضرورة عدم استهداف المدنيين بل ساهموا فى تحقيق الهدنة الإنسانية لمدة أربعة أيام امتدت بعد بدايتها لتصبح ستة أيام.
ليس هذا فقط بل نجحت مصر فى فرض ثوابتها على الجميع، بثلاثيتها الواضحة «لا تهجير، ولا تصفية للقضية، ولا مساس بالأمن القومى المصرى”».
كما استطاعت مصر أن تفرض قرارها بشأن دخول المساعدات الإنسانية والطبية، بل والوقود أيضًا رغم التعنت الإسرائيلى الواضح، ثم جاءت الهدنة الإنسانية التى صاغتها وأنجزتها مصر بالتنسيق مع قطر ودعم أمريكى، لتؤكد نجاح منظومة الدولة المصرية فى التعامل مع قضية هى الأصعب وموقف هو الأكثر تعقيدًا فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وإذا كان الكثير مما حدث خلال الأسابيع الماضية من جهد واتصالات ومفاوضات من أجل الوصول إلى الهدنة وما واجهه المفاوض المصرى من صعوبات غير طبيعية لم تذكر لأنه ليس كل ما يحدث يُقال، لكن المؤكد أن مصر فى هذا المشهد وبشهادة الجميع ربحت احترام العالم، وفرضت إرادتها وأكدت أنها الرقم الأهم ليس فى القضية الفلسطينية فقط، بل فى معادلة الشرق الأوسط بالكامل، وأن القاهرة هى بالفعل العاصمة التى تمتلك مفاتيح الحل لأخطر الملفات، ومهما كانت القوى الدولية والإقليمية المتداخلة فليس هناك مجال للنجاح بعيدًا عن الدور المصرى وقيادتها ومؤسساتها.
وعندما نعود إلى نجاح مصر فى تغيير الرؤية الغربية، وخاصة واشنطن، لما يحدث وإجبارها على التسليم بالثوابت المصرية، فإن هذا بالتأكيد له أسباب واضحة تؤكد أولًا قوة القاهرة، وثانيا الذكاء المصرى فى تطبيق فلسفة حكمة القوة، والتى ثبت أنها كفيلة بتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وكما قال الرئيس السيسى إن حكمة استخدام القوة أهم من امتلاكها، أول الأسباب التى جعلت الغرب يسلم بالرؤية والثوابت المصرية، هو أنه وجد أمامه منذ البداية دولة صلبة لديها موقف واضح وثوابت لا تسمح بالتنازل عنها مهما كان الثمن أو المدى الذى ستصل إليه، وقد عبر الرئيس عن هذا الأمر فى كل اتصالاته ولقاءاته وقمتى القاهرة والرياض، بكلمات لا تقبل الجدل أو التأويل أو التفاوض.
الثانى: أن الغرب وجد أمامه قيادة قادرة على التعبير عن هذه الثوابت وتمتلك الحجج المقنعة والبراهين المؤكدة لها، فهى ليست ثوابت عشوائية أو للمزايدة السياسية بل لها مبرراتها المرتبطة بالحفاظ على القضية وحق الشعب الفلسطينى وكذلك الأمن القومى لمصر، ولدول المنطقة وضمان الاستقرار الإقليمى، وقد شرح الرئيس السيسى تداعيات ومخاطر تجاوز هذه الثوابت ليس على المنطقة فقط بل أوربا وأمريكا نفسها وهذا ما كان له دور مهم فى مراجعة العديد من العواصم الغربية لمواقفها المؤيدة للاحتلال فالثبات والثقة والقوة التى يمتلكها الرئيس وعدم رضوخه أمام أى محاولات أكد للجميع أن مصر لا تصلح معها أية ضغوط مهما كانت قوتها وأى إغراءات مهما كان تأثيرها.
الثالث: أن مصر تحظى بتأثير إقليمى ودولى نتيجة عقلانيتها وعدم تورطها فى أى مغامرات أو خلافات مما جعلها قادرة على الحديث مع كل الأطراف بحرية وصراحة وطرح مبادرات تلقى قبولاً من الجميع.
الرابع: هو القوة المصرية نفسها، فالدولة لا تتعامل من منطق ضعف أو اعتمادًا على أحد، وإنما استنادًا إلى امتلاكها عناصر القوة التى تجعلها قادرة على حماية أمنها وفرض ثوابتها، وهذا يؤكد عمق الرؤية التى امتلكتها الدولة عندما اتخذت قرار تطوير قدرات جيشها وتحديثه من خلال تنويع مصادر التسليح الذى أكد استقلالية القرار المصرى ومنح الدولة القدرة على اتخاذ كل ما يحمى أمنها القومى ويؤمن مصالحها وثوابتها، وعندما يقف كل الخبراء أمام هذا القرار التاريخى بتنويع مصادر التسليح سيجدون أنه كان قراراً فارقًا فى مواقف مصر وتحركاتها وفرض خطوطها الحمراء، فالدولة التى تمتلك جيشًا رادعًا قويًا تحت قيادة وطنية واعية تستطيع أن تفرض قرارها، وبكل صراحة يمكن القول إنه لو لم تكن مصر تمتلك هذه القوة المؤهلة للتصدى لأى خطر، وردع كل من يفكر فى الاقتراب من الأمن القومى المصرى، لكان مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء تم فى ساعات، لكن القوة المصرية وضعت الأمور فى نصابها وجعلت دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة تحذر من خطر التفكير فى هذا المخطط حفاظًا على عدم إغضاب مصر، وهو ما يؤكد شعار الرئيس السيسى «العفى محدش يأكل لقمته».
الخامس: أن مصر ورغم امتلاكها القوة لا تستغنى عن الحكمة، بل تتعامل بمنطق وعقلانية، وتدير الملف بهدوء واحترافية ووضوح وتعلن أنها تبحث عن السلام وتسعى من أجل الاستقرار الذى يخدم كل الأطراف.
السادس هو امتلاك مصر الآن لمنظومة إعلامية استطاعت طرح الرواية الفلسطينية الحقيقية والتعبير عن الثوابت المصرية بمهنية وبعيدًا عن الأجندات التى يعمل بها الإعلام الدولى بل وبعض الإعلام الإقليمى، فالإعلام المصرى فى الأزمة الأخيرة حقق نجاحاً واضحاً وكان أحد أسباب القوة المصرية، ليس فقط فى طرح رؤيتها وإنما أيضًا وهذا هو الأهم حماية المواطن المصرى والعربى من عمليات التضليل والتشكيك التى كانت تمارس ضدهم إعلامياً فى كل الأزمات السابقة ولهذا أصبحت الرؤية المصرية حاضرة بشكل قوى.
السابع: أن مصر لم تقف هذه المرة فى موقف رد الفعل بل اتخذت المبادرة وكانت سباقة فى خطواتها، وقراءتها للأحداث وطرح رؤيتها المتكاملة ولذلك نجحت فى فرض فكرها على الجميع.
الثامن: أن مصر لا تكتفى، ولا تقف عند نقطة الثوابت أو تحقيق الهدنة أو حتى إيقاف الحرب، وإنما لديها رؤية متكاملة لما بعد الحرب، وخاصة ما يتعلق بحل الدولتين، الذى لا بديل عنه التحقيق السلام العادل وضمان صيغة التعايش السلمى التى لا تهدر الأمن القومى لأى دولة وتطرح مصر هذه الرؤية بعقلانية ورغبة وقدرة على إقناع الأطراف بها.
التاسع: هو أمر غاية فى الأهمية أن الدولة المصرية فى هذه الأزمة كما هو معتاد طوال السنوات الماضية تعمل كمنظومة يقودها رئيس وطنى قادر قوى، بجانبه مؤسسات تتحرك فى تنسيق واحترافية وتكامل منذ اليوم الأول، وقبل كل ذلك مواطن تحمل الصعب طوال السنوات الماضية من أجل بناء الدولة واستعادة قدراتها، ولولا تحمل هذا المواطن ثمن البناء وتطوير قدرات الجيش واستعادة المؤسسات الوطنية لما تحقق شىء، ولهذا فإن الملحمة الوطنية التى تجسدت فى النجاح المصرى فى ملف غزة والوصول إلى مشهد الهدنة التاريخى، هى نتاج جهد دولة قوية وفى مقدمتها المواطن المصرى نفسه الذى ساهم بتحمله فى أن تمتلك دولته عناصر القوة واستقلال القرار، وهذا المواطن الذى يصفه الرئيس دائما بأنه البطل الحقيقى شريك فى كل ما تحقق من نجاحات فى ملفات عديدة، على مدى السنوات العشر الماضية، بداية من قرار إعادة بناء الدولة نفسه، أو مواجهة الإرهاب، أو الإصلاح الاقتصادى، وصولًا إلى الموقف الحاسم بشأن الأمن القومى المصرى سواء فى ملف ليبيا قبل ذلك أو ملف القضية الفلسطينية الآن، فالدولة متكاملة الأركان الواقفة على أرض صلبة المدعومة بمواطن يقف فى ظهرها، والمساند لقيادته أصبحت قادرة على التأثير إقليميًا ودوليًا وفرض رؤيتها، ويكفى للتدليل على هذه القوة أن نقول بوضوح إن القضية الفلسطينية كانت فى طريق التصفية الفعلية، وكانت كل الخطوات فى سبيل هذا جاهزة وبتأييد ودعم دولى، وتحديدًا بدعم غربى وأمريكى سواء كان دعمًا سياسيًا أو اقتصاديا أو حتى عسكريًا وكانت إسرائيل تمتلك الضوء الأخضر لتنفيذ ما تراه.
لكن وبدون مبالغة الموقف المصرى الواضح الحاسم هو وحده الذى أوقف هذا المخطط وحافظ على القضية وعلى حق أهل فلسطين فى الحياة من خلال فرض قرار دخول المساعدات التى لم تقف عند مناطق جنوب القطاع بل امتدت إلى الشمال الغزاوى أيضا.
لكن إن كان هذا يمثل انتصارًا مصريًا واضحًا للقضية أقرَّ به العالم كله، إلا أن هذا الانتصار حتى يستمر يتطلب تجاوبًا فلسطينيًا مع مصر خلال الفترة القادمة، لأن الحفاظ على القضية يتطلب التئام الشمل الفلسطينى وتوحيد كلمتهم والتوافق على رؤية وموقف وطنى واحد، وهذا ما تسعى إليه مصر فعلياً، لأن أى تحرك فى سبيل الحل السياسى ومسار الدولتين، لن يكون ممكنًا إلا إذا توحد الفلسطينيون أولًا، وأثبتوا انتماءهم للعلم الفلسطيني، وعدم تنفيذ أجندات أخرى.
ومصر لديها تصور كامل لهذا الأمر خلاصته نبذ الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية وإعلان التصالح بين كافة الفصائل والعمل تحت عباءة وطنية فلسطينية والاندماج الكامل بين الجميع، سواء كيانات أو أجهزة، مع اختيار قيادة تعبر عن الجميع فى إطار التوافق وليس المغالبة، فهذا هو السبيل الوحيد لانتصار القضية.
إن فلسطين ما بعد حرب غزة يجب أن تكون مختلفة تمامًا عما قبلها، سواء فى تركيبتها السياسية أو مصير قيادتها أو علاقة الفصائل فيها بل وعلاقاتهم الخارجية وامتداداتهم الإقليمية، ويجب أن يعلم جميع الفلسطينيين أن مخطط تصفية القضية وتهجير الفلسطينيين وإن كان تم إيقافه بفعل التصدى المصرى، لكن هذا لا يعنى أنه توقف أو انتهى، وإنما سيظل قائمًا والراغبون فيه وإن تراجعوا الآن أمام موقف مصر الحاسم، لكنهم لن يتنازلوا عنه نهائيًا.
إن مصر سوف تظل حامية للقضية الفلسطينية ومدافعة عن حقوق شعبها، وقد وضح هذا خلال الأزمة الأخيرة، لكن هذا الموقف لن ينجح دون دعم الفلسطينيين وتوحدهم خلف قضيتهم مع اقتناع عالمى بأهمية حل الدولتين.