الأحد 26 مايو 2024

فلسطين.. سقوط الغرب


حلمي النمنم

مقالات6-12-2023 | 15:19

حلمي النمنم

● لم يساعد الغرب في قيام الدولة العبرية فقط، لكنه ضمن حمايتها والدفاع عنها، حتى إذا تجاوزت فلسطين واعتدت على الدول المجاورة واحتلت أجزاء منها
● طرد الفلسطينيين من غزة هدف أساسى لأمريكا ودول الغرب، فهي مسمار جحا التى يهدد الغرب بها الدول العربية، وهى قريبة من خاصرة روسيا، وهى الباب للتحكم في الصين اقتصاديا وسياسيا
كل تناقضات الغرب والحضارة الغربية المعاصرة  فلسفة وسياسة وفعلا على الأرض يمكن أن نراها مجسدة، بوضوح تام في القضية الفلسطينية، منذ صدور وعد بلفور في نوفمبر سنة 1917 و ربما قبل صدور هذا الوعد بسنوات، ذلك أن الوعد لم يصدر من فراغ بل جاء على خلفية مشروع بدأ الإعداد له وتنفيذه على الأرض قبله بحوالي عشرين عامًا، ولم يكن الوعد سوى وضع هذا المشروع تحت مسئولية ورعاية، بل تنفيذ الدولة العظمى في العالم، آنذاك صدر الوعد بتشاور واتفاق، بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة  الأمريكية القوة الصاعدة وقتها.
الفكرة الرئيسية لدى الغرب المعاصر، هي رفض وجود أو قيام الدولة الدينية واستبدالها بالدولة المدنية أو العلمانية، ترفض الدولة المدنية السلطة الدينية التي تتحكم في الدولة وتُسير السلطة السياسية، لا ترفض الدولة المدنية الحديثة  الدين بحد ذاته عقيدة او تدينًا، بل إن أحد شروط الدولة العلمانية هو حق المواطن في التدين، لكن المرفوض هو إخضاع الملك  الإمبراطور لسلطة البابا، وهكذا انتهى ذلك العصر الذي كان ممكنا لرجل الدين أن يحرك دولة ويعين أميرًا و يعزل آخر، وهنا نتذكر مفكرى الثورة الفرنسية ورموز عصر التنوير في أوربا كلها، من فولتير ورسو في فرنسا إلى عمانويل كانط، وهيجل في ألمانيا، مرورا بجون لوك وآخرين في بريطانيا، غير أن هذا الغرب العلماني قاتل وتكاتف لإنشاء دولة محض على أرض فلسطين على قاعده فكرة أو تصور ديني محض،  وهي إسرائيل ذلك أن الصهيونية بنيت على فكرة أن فلسطين هي "أرض الميعاد"  لليهود طبقا لنص التوراة. تكاتف الغرب بكل أطيافه السياسية والفكرية وبغض النظر عن الخلاف الإيديولوجي لإقامة تلك الدولة، لا فارق هنا بين تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وقبلها وزير المستعمرات في العشرينيات، وهو عمليا الذي أشرف على تنفيذ وعد بلفور، ولا بين جوزيف ستالين الرئيس السوفيتي الماركسي الرهيب، وكذلك الرئيس الامريكي هاري ترومان، المسافة السياسية بينهم بعيدة جدا، لكنهم تعاونوا على إنشاء وإعلان قيام إسرائيل.
بريطانيا العظمى حين كانت صاحبة الانتداب على فلسطين أقرت أن اللغات الرسميه في فلسطين هي الإنجليزية والعربية والعبرية، لكن وافقت سلطات الانتداب على افتتاح الجامعة العبرية في القدس وكانت الجامعة تعتمد اللغه العبرية فقط، ويمنع الحديث داخلها بغيرها، كانت العبرية وقتها لغة ميتة  فضلا عن أنها كانت لغة دينية تستعمل في المعابد فقط.
لم يساعد الغرب في قيام الدولة العبرية فقط، لكن ضمن حمايتها والدفاع عنها، حتى إذا تجاوزت فلسطين واعتدت على الدول المجاورة واحتلت أجزاء منها، كما جرى سنة 1967، حين تم الاعتداء على كل من مصر وسوريا والأردن.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 آلت قيادة الغرب إلى الولايات المتحده الأمريكية و في صراعها مع الاتحاد السوفيتي راحت الولايات ترفع شعار العولمة، وصار المواطن العالمي هو الهدف في سبيل ذلك لم تتردد في سحب بعض اختصاصات الدولة الوطنية وتجعل منها شأنا أمميا أو عالميا من ذلك قضايا حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وجعلت الولايات المتحدة تكمل الحقوق جبرًا وفرضًا منذ انتصارها على الاتحاد السوفيتي سنه 90، تحركت الولايات المتحده وقادت تحالفًا دوليًا لاحتلال العراق بزعم إحلال الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، ومع تصاعد نفوذ الشركات عابرة القوميات راحت اختصاصات بعض الدول ومنها ماهو سيادي تسحب لصالح تلك الشركات، وبات معيار التمتدين والسلام، هو فتح الباب لشركات الوجبات السريعة التي انتشرت فروعها من بكين في أقصى الشرق وصولا إلى ساحل الأطلنطي ومع ذلك الإلحاح على العولمة، وجدنا دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحده تدعم دوله إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية وانتهاك حقوق وسيادة المواطنين المواطنيين الفلسطينين، بل إنها راحت تصك مفاهيم خاصة لاسباغ الحماية على إسرائيل، من ذلك إصرار الرئيس الأمريكي جون بايدن على أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها،.في المطلق من حق كل دولة بل من واجبها  كذلك أن تدافع عن نفسها وأن تحمي مواطنيها، لكن تخصيص إسرائيل في ذلك الوقت وفي هذا السياق التاريخي يعني منحها الحق في تصفية المدنيين الفلسطنيين، فقد قتل منهم أكثر من 14 مواطنا، حوالي 70 % منهم بين أطفال ونساء، هؤلاء ليسوا أعضاء في كتائب القسام، لم يشاركوا في أي هجوم في 7 أكتوبر الذي شنته الكتائب، بل لم يستشاروا في ذلك ولم يأخذ أحد رأيهم فيه قبل التنفيذ، أي أنهم فؤجئوا به كما فؤجيء الإسرائيليون، لا ومع ذلك فإن آلة الحرب الإسرائيلية راحت تقصفهم، بدعم وحماية أمريكية، ولما حاولت الأمم المتحدة استصدار قرار بوقف المذابح، تدخلت  الولايات المتحدة  ومنعت إصدار القرار أكثر من مرة.
لا أود التوقف عند كثير من التفاصيل مثل إصدار العديد من الوعود للفلسطينيين منذ وعد بلفور وحتى اليوم وتم الحنث والكذب فيها.
وعد بلفور في وعده، أن لايمس الوطن القومي لليهود بحقوق عرب فلسطين، ولا بممارساتهم لشعائرهم الدينية ومع ذلك من اللحظة الأولى تم الاعتداء على تلك الحقوق وانتهاكها، بل إن بريطانيا العظمى نفسها هي التي انتهكت تلك الحقوق.
الحق أن القيم الغربية كلها، من حرية وإخاء ومساواة وديمقراطية وعلمانية، وغيرها أهدرت تماما في فلسطين، وسار الغرب على النقيض منها تماما، وأمامنا الآن نماذج مثل الرئيس بايدن والرئيس ماكرون وريشي سوناك رئيس وزارء بريطانيا، ومستشار ألمانيا ورئيس وزراء كندا، كلهم جميعا كذبوا تحذيرا، وأهدروا كل حقوق الإنسان في فلسطين.

فلسطين بموقعها وتاريخها تمثل تحديًا كبيرا للغرب على المستوى التاريخي كانت فلسطين مسرحًا للحروب الصليبية على أرضها كسر الغرب وهزم وطرد مع صلاح الدين الأيوبي في معركه حطين، كانت حطين هزيمة عسكرية ساحقة وهزيمة إنسانية وقيمية أيضًا، هزمهم صلاح الدين في المعركة ثم هزمهم في الأخلاق والثقافة بتسامحه الشديد وترفعه عن الانتقام والثأر، هذه الهزيمة لا تزال محفورة في الضمير والعقل الباطن في الثقافة والسياسة الغربية، لم تنجح كل تجارب الحداثة في أن تذيب مرارة تلك الهزيمة  والرغبة في الانتقام والثأر.

مقولة  القائد البريطاني الذي دخل فلسطين سنة 1915 بعد الانتصار على تركيا العثمانية «يا صلاح الدين ها قد عدنا من جديد» لا تزال محفورة في الذاكرة، كل قيم وتجارب الحداثة والاستنارة لم تنجح في إذابة الإحن التاريخية، يضاف إليها أن فلسطين مهبط السيد المسيح وسبقه إليها سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام ثم اليهود وأخيرًا هي مسرى نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الاشتباك والتداخل الروحي والإنساني فتح الباب طوال التاريخ لأطماع وصراعات  كثيرة.

غير أن الواقع المعاصر لا يتحرك من منطلقات التاريخ والعقائد فقط، بل كذلك المصالح الاقتصادية والسياسية، فلسطين هي سرة الربط بين آسيا وافريقيا ولها شاطيء ممتد على البحر المتوسط،

وهي كذلك ليست بعيدة عن مناطق النفوذ الروسية، وهكذ تتركز أطماع العالم فيها، هي تفصل مصر عن الشام، أو تربطهما معا، هي كذلك الطريق لإتمام المشروع الجديد الذي يتبناه ويرعاه الرئيس بايدن بهدف ضرب المشروع الصيني «الحزام والطريق» هي ثالثا في غزة تحديدا غاز طبيعي عالي النقاء وله احتياطي ضخم البحر المتوسط أمام غزة.

وهكذا فإن طرد الفلسطينيين من غزة هدف اقتصادي عالمي للولايات المتحدة ودول الغرب، وهي الباب للتحكم في الصين اقتصاديًا وضربها سياسيًا، ثم إنها قريبة من خاصرة روسيا.وأخيرا هي أشبه بمسمار جحا في يد الغرب بها يهددون مصر والأردن والعراق وسوريا وحتى دول الخليج.

وسط كل هذه المصالح، والإحن والثارات  التاريخية والدينية، قدّر على الشعب الفلسطيني أن يدفع الثمن غاليا طوال التاريخ، في حرب غزة الأخيرة فقد أكثر من 14 ألف مدني حياته، وأكثر من ضعفهم جرحى نحن نتحدث عن حوالي خمسين ألفا ما بين شهيد وجريح ناهيك عن مئات الآلاف المشردين. 

وهكذا كانت الحال في مراحل كثيرة من التاريخ يحدثنا المؤرخون العرب أن الصليبيين يوم أن دخلوا القدس محتلين، ذبحوا في شوارعها، وأمام المسجد الأقصى، حوالي 90 ألف نسمة، صحيح

أن بعض  الدراسين يرون أن المؤرخين يبالغون في الأرقام لكن لو كان نصف هذا الرقم صحيحا، فهو ضخم جدا بمعيار ذلك الزمان.
الغرب سقط أمام فلسطين، سقط أخلاقيا إنسانيًا وقيميًا وحضاريًا.